في ظل تتابع الأحداث الأخيرة التي تخسر فيها فرنسا مساحات من نفوذها التقليدي في أفريقيا، يتوجه الحديث إلى تاريخ الدولة الاستعمارية في القارة، فمن مالي إلى بوركينا فاسو وصولا إلى النيجر، تحولت مشاعر الكراهية في أفريقيا ضد باريس إلى خطوات فعلية تهدف إلى تحجيم وجودها في البقاع التي لطالما استغلتها ونهبت ثرواتها.

 

لم يخلُ تاريخ فرنسا الاستغلالي من الاستعلاء في التعامل مع أفريقيا طوال العقود السابقة، ساهم هذا الاستعلاء دون شك في إيصال العلاقات الفرنسية الأفريقية إلى هذه اللحظة الانفجارية. لكن لم يكن الاستعلاء وحده هو السبب في هذا التدهور، بل الدم أيضا، ولعلنا اليوم سنتحدث عن واحدة من أخطر صفحات هذا التاريخ وأكثرها دموية، وهي الصفحة المعنونة باسم المرتزق "بوب دينار"، الذي أجج العنف في القارة السمراء، وغيَّر مع جنوده مجريات الكثير من الأحداث فيها بقوة السلاح.

 

مَن هو بوب دينار؟ لم يفتأ دينار الذي تجاوز 5 إصابات خطرة خلال رحلة عمله كقرصان ومرتزق يؤكد أنه كان يعمل تحت إشراف الأجهزة الفرنسية ولخدمتها وإن لم يملك إذن كتابي من الدولة. (رويترز)

بوب دينار، أو جيلبرت بورغود، أو سعيد مصطفى محجوب، ثلاثة أسماء للرجل نفسه طويل القامة، والحريص دائما على أناقته، والأعرج بسبب إصابة أثناء معاركه، الذي يُحكى (1) عنه أنه ألهم بشخصيته رواية فريدريك فرسيث "كلاب الحرب" التي تحكي عن المرتزقة الأوروبيين في أفريقيا. توصف حياته بأنها أصعب من أن يحبكها (2) أفضل كُتّاب السيناريوهات السينمائية، فعلى مدار 30 عاما دبر الرجل عددا لا يصدق من الانقلابات والأعمال العسكرية جلّها في أفريقيا، من الكونغو إلى ناميبيا وتشاد وأنغولا ومن اليمن إلى ونيجيريا وحتى إيران.

 

وُلد بوب دينارد لأب صارم يعمل ضابط صف في الجيش الفرنسي، وكان ذلك في يوم 7 أبريل/نيسان 1929 بمدينة بوردو الفرنسية، افتُتن الصغير بالقوة وعرف قيمة السلاح في سن مبكرة، ففي يوم شاهد والده وهو يعتدي (3) على والدته بعنف شديد، فما كان من الطفل إلا أن أمسك بالبندقية وهدد بها والده، فخشي الوالد من أن يطلق الطفل الرصاص واعتذر عما فعل. يصف دينار طفولته بأنها تأرجحت بين والد عصبي ومفترس وأم حنونة وعاطفية، ومنذ نعومة أظفاره كانت كل ألعابه تدور حول تمثيل دور الجندي.

 

توجهت أحلام الصبي تجاه السلاح منذ البداية، وانضم إلى قوات مقاومة النازية وعمره 16 عاما فقط، والتحق بالبحرية الفرنسية في عام 1945 وقاتل في فيتنام ضد حركة التحرر هناك، ويبدو أن أداءه كان سيئا لدرجة إصدار البحرية الفرنسية قرارا بعدم إرساله إلى مثل تلك المأموريات الصعبة مرة أخرى، لينضم بعدها إلى قوات الشرطة الفرنسية في المغرب. ستبدأ رحلة دينار الحقيقية بعد ذلك بوصفه أشهر مرتزق أوروبي في تاريخ القارة السمراء في الستينيات. ورغم كل الاتهامات التي وُجِّهت لرحلة دينار فيما بعد التي عبثت بأمن أفريقيا ووصلت إلى حد محاكمته في فرنسا بعد ذلك، فإن الرجل حتى وفاته لم يكن يشعر أن عليه الاعتذار عن أي شيء (4)، إذ يعتبر نفسه جنديا للغرب كافح الشيوعية كما ينبغي.

 

لم يفتأ دينار الذي تجاوز 5 إصابات خطرة خلال رحلة عمله قرصانا ومرتزقا يؤكد أنه كان يعمل تحت إشراف (5) الأجهزة الفرنسية ولخدمتها، وأنه وإن لم يملك إذنا كتابيا من الدولة بأعماله المسلحة في القارة فإنه كان يحصل على جوازات سفر من المخابرات الفرنسية، مما يشير إلى الدعم الذي قدمته له، وأنه كان (6) مدفوعا في رحلته الحربية في أفريقيا بمعاداة عميقة للشيوعية التي تهدد الغرب، ويعترف المرتزق الفرنسي بأنه في رحلته لم يكن قديسا (7)، لكنه لم يرتكب أيضا أشياء بغيضة بالدرجة التي يتصورها الناس.

 

توفي دينار بباريس في أكتوبر/تشرين الأول 2007 متأثرا بمرض ألزهايمر عن عمر يناهز 78 عاما، بعدما حوكم في فرنسا عام 2006 بتهمة الضلوع في انقلابات وجرائم قتل بجزر القمر وأصدر القضاء الفرنسي تجاهه حكما مخففا، وهو ما رأى فيه البعض محاولة فرنسية لغسل الأيادي مما فعله دينار بالقارة طوال عقود، مهددا أمنها ومحققا ما لا تستطيع فرنسا تنفيذه بشكل مباشر عبر أجهزتها الرسمية.

 

من الكونغو إلى اليمن.. رحلة المرتزق

بدأت رحلة بوب دينار الجريئة في أفريقيا مع مويس تشومبي الذي كان ابنا لسلالة ملكية في الكونغو، وكان يريد الانفصال بولاية كاتنغا الغنية عن الحكومة المركزية التي يقودها المناضل الاشتراكي الكونغولي باتريس لومومبا، مستعينا بالقوات الاستعمارية البلجيكية السابقة لتحقيق ذلك، وقد اتُّهِم بقتل باتريس لومومبا أيضا بدعم من بلجيكا. احتاج مويس تشومبي في حربه إلى ميليشيات أجنبية، وهنا ابتسم الحظ لبوب دينار الذي تعرف على القائد الانفصالي ليبدأ رحلته.

 

جدير بالذكر هنا أن باتريس لومومبا هذا الذي كان بوب دينارد يقاتله لصالح مويس تشومبي، الذي مُثِّل بجثته بعد قتله وأُذيبت في مادة حمضية، هو مناضل أفريقي قاوم الاستعمار البلجيكي وأدارت ضده بلجيكا وحلفاؤها المؤامرات من اليوم الأول لتقلده الحكومة بعد انتخابات نزيهة، وكان سلاح بلجيكا الأساسي هو إثارة الانفصاليين ضده.

 

بدأ بوب دينار من كاتانغا مشروع توسيع طموحاته ومشاريعه العسكرية بدعم سري من الاستخبارات الفرنسية (8)، وكان ينشر إعلاناته في الصحف الفرنسية لاجتذاب مرتزقة يعملون لصالحه ويقول فيها (9): "نبحث عن شاب قوي يحب المغامرة لاستكشاف العالم"، وقد كان جلّ مَن تجاوب مع الدعوة هم شباب فرنسيين ينتمون إلى أفكار اليمين المتطرف.

 

بعد انتهاء عمل بوب دينار في كاتانغا عمل لصالح المخابرات البريطانية ضد مصر في حرب اليمن عام 1964، في خدمة الجيش المؤيد للملك البدر ضد الجمهوريين، وفي عام 1975 كان له دور مهم في المساندة العسكرية لحركة يونيتا في أنغولا المدعومة من الغرب ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بل وتذكر بعض (10) الشهادات أن بوب دينار لعب دورا في تسليح وتدريب عناصر الأحزاب اليمينية المسيحية في الحرب الأهلية اللبنانية. لكن ربما تكون الساحة التي شهدت أبرز بصمات بوب دينار بخلاف ذلك كله هي دولة جزر القمر كما سنرى لاحقا. كما شملت رحلته القتال من أجل تشومبي -الذي سبق وذكرناه- ضد موبوتو ثاني رئيس للكونغو الديمقراطية، ثم عاد وقاتل من أجل خصمه السابق موبوتو ضد متمردي زائير، وضد موبوتو مرة أخرى لصالح كاتنغا. هكذا كان دينار، الذي يصف نفسه بأنه كان جنديا للغرب، أداة لإشعال الحروب في العالم الثالث دون توجه قيمي واحد متماسك.

 

جزر القمر.. الدولة التي رسم بوب دينار تاريخها

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی أفریقیا

إقرأ أيضاً:

مؤرخ فرنسي زار غزة يؤكد أن ما رآه يفوق الوصف

جان بيير فيليو، أكاديمي فرنسي ومؤرخ متخصص في شؤون الشرق الأوسط، أمضى 32 يوما في قطاع غزة بين ديسمبر/كانون الأول 2024 ويناير/كانون الثاني 2025 مع منظمة "أطباء بلا حدود" ويقدم في كتاب "مؤرخ في غزة" شهادة نادرة عن معاناة الشعب الفلسطيني، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي والتعتيم على المأساة من خلال حرمان الصحافة الأجنبية من الوصول إلى القطاع.

وتقدم روايته المباشرة، التي نشرت صحيفة لوموند الفرنسية مقتطفات منها، نظرة نادرة ومؤلمة عن الكارثة الإنسانية التي تتكشف في تلك المنطقة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الدول الأفقر في العالم فريسة لأزمة المناخ وهذه هي خسائرهاlist 2 of 2لماذا لا يمكن إنشاء "القبة الذهبية" كما يرغب ترامب؟end of list

ويبدأ المؤلِف بالتأكيد على أنه لم ير بل لم يتصور أن يرى ما شاهده في غزة "لا شيء على الإطلاق" كان سيهيئه لتلك الصدمة المروعة، وذلك الدمار الهائل والأطلال اللامتناهية من مستشفيات مدمرة وأحياء تم محوها بالكامل من الخريطة.

ويرسم الكتاب، الذي سينشر يوم 28 مايو/أيار الحالي، صورة قاتمة للحياة اليومية بهذا القطاع الفلسطيني المحاصر، حيث مأساة إنسانية لم يسبق لها مثيل: مكبات نفايات مكشوفة تعج بالأطفال حفاة الأقدام، وخيام بلاستيكية بالكاد تصمد في وجه العوامل الجوية، وصرف صحي مؤقت، وتتفاقم الأزمة الإنسانية بسبب النقص الحاد في المياه.

إعلان

ويقول فيليو إن المعاناة الإنسانية هائلة، فثلث سكان غزة، وهم صغارها الواعدون، خارج المدرسة، ويضطرون للبحث عن الطعام في مكبات النفايات والتسول في الشوارع، واحتياجات الصحة النفسية هائلة، حيث لا يخدم القطاع بأكمله سوى 4 أطباء نفسيين.

كما تواجه النساء صعوبات بالغة، مع ارتفاع معدلات التهابات الجلد وأمراض الجهاز الهضمي، ونقص حاد في مستلزمات النظافة. وقد دفعت هذه الظروف الصعبة بعض العائلات إلى تزويج بناتها مبكرا كنوع من الحماية النفسية.

ويمكن تلخيص ما جاء في هذه المقتطفات فيما يلي:

أرقام مذهلة

– 87% من المباني السكنية مدمرة (كليا أو جزئيا) و1.9 مليون نازح، و80% من الشركات و2/3 من الطرق غير صالحة للاستخدام.

– 700 ألف امرأة محرومة من الحماية الصحية.

– انخفاض معدل الحصة اليومية من المياه من 80 لترا للفرد قبل الصراع مع إسرائيل إلى 9 لترات فقط، مع لترين فقط من مياه الشرب.

حياة المخيمات في ظروف معيشية غير إنسانية:

خيام مؤقتة، آبار محفورة يدويا، سوء النظافة، نقص المياه والغذاء، البرد والجوع والمرض والاكتظاظ مما يؤثر بشكل خاص على النساء والأطفال الذين يحتاجون جميعهم تقريبا إلى الدعم النفسي.

أما حركة حماس، التي أضعفتها الحرب واغتيالات قادتها، فهي تحتفظ بالسلطة، إذ إن مقتل يحيى السنوار وإسماعيل هنية لم يفت في عضد هذه الحركة، فما فتئت تعوض خسائرها بمجندين جدد، بحسب الكاتب.

وقد انتشر النهب والجريمة المنظمة وقانون الأقوى، وتم نهب قوافل إنسانية، بما فيها التي كانت تحت الحماية الإسرائيلية، كما يتابع الأكاديمي الفرنسي.

الصمت الإعلامي والعقاب المزدوج

يرى فيليو أن إسرائيل انتصرت في الحرب الإعلامية، في ظل حرمانها للصحافة الدولية من الوصول إلى غزة، مما ساهم في إزالة الطابع الإنساني عن الفلسطينيين، وهو ما يعني أن الضحايا قتلوا مرتين: جسديا بالقنابل، ورمزيا من خلال محو أصواتهم.

إعلان

وتم حظر عمل الأونروا في غزة منذ يناير/كانون الثاني 2025، مما أدى إلى تفاقم مشكلة التسرب من المدارس.

3 طرق مسدودة تقتل غزة

المأزق الإسرائيلي: الهوس الأمني ​​ورفض أي رؤية سياسية.

المأزق الفلسطيني: التنافسات الداخلية، وغياب القيادة الديمقراطية.

المأزق الإنساني: المساعدات الدولية تصبح بلا جدوى في غياب حل سياسي.

ويخلص فيليو إلى أن غزة ليست مجرد مأساة إنسانية، بل هي انهيار أخلاقي عالمي، فصمت العالم الديمقراطي أو تقاعسه في مواجهة الدمار الشامل يشكل نقطة تحول، وغزة -بذلك- تكشف عن عالم ترك لمنطق العنف واللامبالاة والوقاحة.

مقالات مشابهة

  • أسرار المال والميراث.. حكاية نوال الدجوي وأسرار الطلقة التي هزت كيان الأسرة
  • حكاية العربي الأخير لواسيني الأعرج.. نقد الراهن واستشراف المآل العربي
  • حكاية أطفال الأنابيب (6)
  • مشاركون في «منتدى الإعلام العربي»: المحتوى العربي حيّ ومؤثر
  • مؤرخ فرنسي زار غزة يؤكد أن ما رآه يفوق الوصف
  • كنوز الجزائر تكشف أسرارها..ما الذي ينتظر الزوار في الصحراء الغامضة؟
  • توفي بعد الحمل والولادة.. حكاية الجزائري أحمد الفاتح
  • صلاح يفوز بجائزتي الهدّاف وأفضل صانع ألعاب في الدوري الإنجليزي
  • محمد صلاح يحصد جائزتي الحذاء الذهبي وأفضل صانع ألعاب في البريميرليج
  • رويز يكشف التغييرات التي حدثت في التحكيم منذ توليه رئاسة لجنة الحكام