فقدت الولايات المتحدة رسميًا آخر تصنيف ائتماني مثالي، كانت تحتفظ به منذ أكثر من قرن، بعد أن خفضت وكالة "موديز" تصنيفها السيادي من الدرجة العليا "إيه-إيه-إيه" إلى "إيه-إيه-واحد"، مشيرة إلى ما وصفته بـ"تدهور مستمر وغير قابل للعكس حاليًا" في مؤشرات الدين والعجز، وسط شلل سياسي مزمن وتضخم في الالتزامات المالية غير القابلة للتقليص.

ويعني هذا القرار، بحسب صحيفة فايننشال تايمز، أن الولايات المتحدة أصبحت للمرة الأولى في تاريخها خارج نادي "الجدارة المثالية" لدى جميع وكالات التصنيف الثلاث الكبرى، بعد أن كانت وكالة "ستاندرد آند بورز" قد خفضت التصنيف في عام 2011، وتبعتها "فيتش" في 2023.

اقتصاد قوي ومؤسسات ثابتة… ولكن!

وأكدت "موديز" في بيانها، أن قرار التخفيض لا يعكس ضعفًا في مؤسسات الدولة الأميركية، ولا يشكك في استقرار نظامها المالي، بل ينبع من عجز القيادات السياسية المتعاقبة عن الاتفاق على مسار مالي مستدام يضمن خفض العجز والسيطرة على الدين العام بحسب ما ذكرته منصة إنفستنغ دوت كوم.

العجز الفدرالي الأميركي مرشّح للارتفاع إلى 9% من الناتج المحلي بحلول عام 2035 (الفرنسية)

وأضافت الوكالة، أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بما سمته "قوة ائتمانية استثنائية"، تتمثل في حجم اقتصادها، ومرونته، ودور الدولار الأميركي كعملة احتياط دولية محورية، لكنها شددت على أن هذه العوامل لم تعد كافية لتعويض التدهور الهيكلي في مؤشرات الدين.

إعلان

وقالت "موديز" في بيانها: "لقد شهدنا على مدى أكثر من عقد تراكماً خطِراً في مستويات الدين العام ومدفوعات الفائدة، تجاوز بكثير ما نراه لدى الدول المماثلة في التصنيف… وهذا ما يجعل التصنيف المثالي غير قابل للدفاع عنه الآن".

أرقام تقرع الأجراس تتحدث الأرقام عن نفسها، فوفقًا لتقديرات "موديز" بحسب نشرة أصدرتها في أبريل/نيسان، من المتوقع أن يبلغ العجز الفدرالي الأميركي 9% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، صعودًا من 6.4% في 2024. أما الدين العام، فسيصل إلى 134% من الناتج المحلي، مقارنة بـ98% في الوقت الحالي. في مؤشر مقلق آخر، رجحت الوكالة أن تصل مدفوعات الفائدة وحدها إلى 30% من الإيرادات الحكومية بحلول 2035، أي ثلاثة أضعاف المستوى المسجل عام 2021.

ووصفت الوكالة هذه المسارات بأنها "غير مستدامة"، مؤكدة أن عدم اتخاذ خطوات إصلاحية فورية سيؤدي إلى تآكل تدريجي في الجدارة الائتمانية والثقة السوقية بحسب ما نقلته عنها منصة إنفستنغ دوت كوم.

صدمة في الأسواق وغضب سياسي

وجاء رد فعل الأسواق سريعًا، حيث ارتفعت عوائد سندات الخزانة الأميركية لأجل عشر سنوات إلى نحو 4.5%، في إشارة مباشرة إلى تراجع الثقة بالقدرة المستقبلية على خدمة الدين دون زيادة التكاليف.

وعلّقت يشا ياداف، أستاذة القانون المتخصصة في الأسواق المالية بجامعة فاندربيلت، على التخفيض: "هذا التخفيض ليس مجرد تعديل رمزي… إنه جرس إنذار واقعي عن التدهور المالي الهيكلي في الولايات المتحدة، وتحذير صريح لصناع القرار من أن الوقت بدأ ينفد."

وأضافت ياداف أن "السندات الأميركية لم تعد تُعتبر خالية من المخاطر بنفس القدر كما في السابق، وهذا أمر مقلق لأسواق تعتمد عليها كأساس للثقة والاستقرار".

ترامب يراهن على تحفيز النمو لتعويض تزايد الدين، رغم تحذيرات الاقتصاديين (غيتي)

أما في البيت الأبيض، فكان الرد هجوميًا، فقد سارع المتحدث باسم الإدارة الأميركية، كوش ديزاي، إلى اتهام "موديز" بفقدان المصداقية، وقال: "لو كانت لدى موديز أي مصداقية، لما التزمت الصمت طوال السنوات الأربع الماضية من الكارثة المالية التي أوجدها بايدن".

إعلان

لكن اللافت، أن تقرير الوكالة لم يشر إلى إدارة بعينها، بل حمّل المسؤولية لـ"الإدارات المتعاقبة" التي فشلت في كبح مسار العجز، في إشارة إلى تراكمات تمتد عبر إدارات جمهورية وديمقراطية على حد سواء.

وقال ستيفن غراي، مدير الاستثمار في شركة "غراي فاليو مانجمنت"، لصحيفة فايننشال تايمز: "هذا التخفيض هو نتيجة سنوات طويلة من سوء الإدارة المالية، وليس فقط لولاية واحدة أو سياسة واحدة… إنه يعكس وجهة نظر سلبية متنامية تجاه قدرة أميركا على إصلاح أوضاعها المالية".

القانون الكبير.. والعجز الأكبر

وتزامن إعلان التخفيض مع فشل تمرير مشروع قانون الموازنة الجديد للرئيس دونالد ترامب، المعروف باسم "القانون الكبير الجميل"، في لجنة الميزانية بمجلس النواب، بعد انقسام داخلي داخل الحزب الجمهوري.

ويقترح القانون تمديد تخفيضات ضرائب عام 2017، وهو ما سيكلف الخزينة الأميركية نحو 4.2 تريليونات دولار خلال عشر سنوات، وفق ما نقلته فايننشال تايمز.

وتشير تقديرات "اللجنة من أجل ميزانية اتحادية مسؤولة" إلى أن القانون سيضيف 5.2 تريليونات دولار أخرى إلى الدين الوطني خلال العقد المقبل، رغم محاولات خفض 663 مليار دولار من الإنفاق وزيادة بعض الضرائب.

وقال آندي برينر، رئيس قسم السندات في "نات ألاينس"، إن التخفيض جاء ليعكس "عدم التقدم في معالجة العجز"، مؤكدًا أن "التهديد الأكبر اليوم ليس الحرب التجارية بل غياب الرؤية المالية في واشنطن".

عند حدود اللايقين

ورغم التخفيض، حافظت "موديز" على نظرة مستقبلية مستقرة، مشيرة إلى أن عودة التصنيف المثالي قد تكون ممكنة في حال تنفيذ إصلاحات مالية جوهرية طويلة الأمد تبطئ وتوقف تدهور المؤشرات.

المؤسسات الأميركية لا تزال تحتفظ بمرونتها، لكن المصداقية المالية أصبحت محل شك (الفرنسية)

لكن السؤال المطروح اليوم هو: هل توجد إرادة سياسية حقيقية قادرة على وقف هذا المسار؟ أم أن التدهور سيستمر تحت ضغط الانتخابات، والانقسامات الحزبية، والتوسع المستمر في الالتزامات العامة؟.

إعلان

وتمثل خطوة "موديز" -وفق مراقبين- أقوى إشارة حتى الآن، على أن الولايات المتحدة، رغم قوتها الاقتصادية والمؤسسية، لم تعد محصنة من نتائج التدهور المالي والسياسي المتراكم.

وإذا لم يتم اتخاذ إجراءات جادة لخفض العجز وضبط الدين، فقد تتحول هذه التحذيرات إلى أزمة ثقة فعلية في أسواق الدين العالمية، وقد تجد الولايات المتحدة نفسها أمام مستقبل مالي أكثر تكلفة، وأقل استقرارًا، وأكثر هشاشة مما كانت تتصوره عقودا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

تخفيض تصنيف الولايات المتحدة الائتماني وانتقادات من البيت الأبيض

خفضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني، تصنيف الولايات المتحدة درجة واحدة من "Aaa" إلى "Aa1"، مشيرة إلى ارتفاع الدين وتكاليف الفائدة "الأعلى بكثير من الدول ذات التصنيف المماثل".

وقالت موديز "لم تتمكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة والكونغرس، من الاتفاق على تدابير لتغيير اتجاه العجز المالي السنوي الكبير وتكاليف الفائدة المتزايدة".

يأتي هذا التخفيض في أعقاب تخفيض وكالة فيتش المنافسة تصنيفها الائتماني للولايات المتحدة في أغسطس آب 2023 درجة واحدة، وذلك استنادا إلى ما وصفته بتدهور مالي متوقع ومفاوضات متكررة بشأن سقف الدين مما يهدد قدرة الحكومة على سداد ديونها.

من جهته، رفض البيت الأبيض بشدة تصنيف موديز للولايات المتحدة.



وفي منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، انتقد مدير الاتصالات بالبيت الأبيض ستيفن تشيونج على وجه الخصوص الخبير الاقتصادي في موديز مارك زاندي ووصفه بأنه خصم سياسي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وتابع: "لا أحد يأخذ تحليله على محمل الجد، لقد ثبت خطأه مرارا وتكرارا".

ومؤخرا، أعلنت وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد آند بورز"، أنها أبقت على التصنيف الائتماني للاحتلال الإسرائيلي دون تغيير عند "A"، لكنها أبقت على نظرة مستقبلية سلبية للتصنيف.

ويأتي قرار الوكالة الدولية بعد خفض تصنيف إسرائيل مرتين متتاليتين في نيسان/ أبريل وتشرين الأول/ أكتوبر 2024، وفق ما أفادت به القناة 12 العبرية الخاصة السبت.

وجاء في بيان "ستاندرد آند بورز"، أن "الحرب المستمرة وخطر توسعها قد يؤثران سلبا على النمو الاقتصادي للبلاد والوضع المالي وميزان المدفوعات".

وأوضحت وكالة التصنيف الائتماني في قرارها أن "التوقعات السلبية تعكس خطر أن يؤدي الصراع بين إسرائيل وحماس والمنظمات الأخرى المدعومة من إيران إلى إضعاف اقتصاد إسرائيل وماليتها العامة وميزان المدفوعات بشكل كبير، خاصة إذا تصاعد الصراع".

مقالات مشابهة

  • تخفيض تصنيف الولايات المتحدة الائتماني وانتقادات من البيت الأبيض
  • موديز تخفّض التصنيف الائتماني لواشنطن على وقع تصاعد الدين العام والإنفاق الحكومي
  • موديز تخفض تصنيف أميركا الائتماني والبيت الأبيض ينتقد
  • “موديز” تُخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة وتوجه ضربة لترامب
  • وكالة "موديز" تخفّض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة إلى "Aa1" بسبب ارتفاع الدين وتكاليف الفائدة
  • موديز تخفض تصنيف الولايات المتحدة الائتماني إلى Aa1
  • "موديز" تخفض تصنيف أميركا الائتماني بسبب تصاعد الدين الحكومي
  • موديز تخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة وسط تصاعد الدين العام
  • "موديز" تخفض تصنيف أميركا الائتماني.. والبيت الأبيض يندد