السودان- مختبر الهجينة السلطوية والتقشف النيوليبرالي وصراع الروايات
تاريخ النشر: 24th, May 2025 GMT
في أعقاب الحروب والانهيارات المتتالية التي ضربت الدولة السودانية، لم يعد بالإمكان تحليل الوضع السياسي بمعزل عن تشابك العوامل البنيوية التي تشكل ملامح السلطة، الاقتصاد، والمجتمع. السودان، في واقعه المعقّد
بات يمثّل مختبرًا حيًا لما تُسميه الأدبيات السياسية بـ"الهجينة السلطوية"، وما تسميه الدراسات الاقتصادية بـ"رأسمالية الكوارث"، بينما يتجلى على المستوى الشعبي كأرض معركة مفتوحة بين رواية النخبة ورواية الشارع.
الهجينة السلطوية وترتيبات الحكم الهش
تعرف النظم الهجينة بأنها كيانات سياسية تجمع بين مظاهر ديمقراطية شكلية وآليات سلطوية فعلية. في السياق السوداني، تتجلى هذه الهجينة من خلال:
تحالف عسكري-مدني غير متوازن، حيث تحتفظ المؤسسة العسكرية بمفاصل الأمن والاقتصاد، وتُمنح القوى المدنية أدوارًا رمزية لإضفاء الشرعية الدولية.
توظيف الأزمات كآلية شرعنة، تُقدَّم خلالها المؤسسة العسكرية كحامية للاستقرار، تمامًا كما حدث في مصر بعد 2013.
إشكالية التمثيل السياسي، حيث يُنتج النظام "ديمقراطية بدون ديمقراطيين" — عملية سياسية تُدار من قبل نخب ترفض مبدأ التوزيع العادل للسلطة والثروة، وفق توصيف "غييرمو أودونيل".
اقتصاد التقشف و"رأسمالية الكوارث"
وفقًا لطرح "نعومي كلاين"، تُستغل الأزمات الكبرى لفرض سياسات نيوليبرالية قاسية — وهو ما يبدو جليًا في السودان عبر:
خصخصة النهب: تحت ستار "الإصلاح الاقتصادي"، تُحول أصول الدولة إلى تحالف رجال أعمال وعسكريين، في عملية تُعمق من طبيعة الاقتصاد الريعي.
تفتيت الغضب الشعبي: يُلغي الدعم وتُفكك شبكات التضامن الاجتماعي، فيتحول الغضب من النظام إلى صراعات أفقية بين الفقراء على الموارد الشحيحة.
ظهور مقاومات جديدة: تستلهم "لجان المقاومة" تقاليد "الإضراب السياسي العام"، على غرار النموذج التشيلي 2019، لتبني تنظيمات نقابية جديدة ومناهضة للهيمنة.
الإسلاميون وتحولات البراغماتية
تحاول الحركات الإسلامية السودانية تجاوز فشل مشروع "التمكين" بالتحول إلى خطاب "ما بعد الإسلاموية"، الذي تحدث عنه "أصف بيات"، وذلك عبر:
إعادة التموقع السياسي من فرض الهوية إلى المشاركة في اللعبة الديمقراطية.
الاعتماد على تحالفات إقليمية مع دول مثل تركيا وقطر، مقابل اعتدال الخطاب السياسي.
خطر التهميش، إذ قد يؤدي استمرار الإقصاء إلى نزوع بعض الفصائل نحو الراديكالية أو التحالف مع ميليشيات مسلحة، ضمن آليات "العنف التفاوضي".
تفكيك مركزية الدولة: الأطراف تعيد رسم المشهد
تنتقل الجغرافيا السياسية للاحتجاج من الخرطوم إلى الهامش — حيث تُعيد مناطق مثل دارفور والنيل الأزرق إنتاج نفسها كفاعلين مستقلين:
أرخبيل السلطات: السودان مهدد بالتحول إلى كيانات متنافرة تُدار عبر تحالفات محلية وعسكرية.
الميليشيات العابرة للحدود: قوات الدعم السريع مثال حي على استثمار الدعم الإقليمي (من روسيا أو غيرها) لبناء إمبراطوريات اقتصادية وأمنية خارج سلطة الدولة المركزية.
المجتمع الدولي و"الاستعمار عبر الحوكمة"
لا تخرج مقاربات المجتمع الدولي عن منطق "الاستعمار الجديد"، عبر أدوات من قبيل:
الانتقال المشروط: فرض إصلاحات شكلية مقابل المساعدات، دون المساس ببنيات الفساد.
تدجين المجتمع المدني: تمويل المنظمات المحلية لتلعب دور الوسيط، في عملية تُعرف بـ"التثوير الملتقط" أو NGO-ization of Resistance.
تحويل الأزمة إلى مأساة إنسانية: كما في اليمن، يُختزل الوضع في السودان إلى "ملف مساعدات"، يُبعد الأنظار عن المطالب السياسية الجوهرية.
سيناريوهات المستقبل: أي طريق أمام السودان؟
السيناريو التونسي: انتقال هش ينتج نظامًا هجينًا جديدًا يحافظ على امتيازات النخب، ويؤجل الانفجار الاجتماعي.
السيناريو الليبي: فشل تام للدولة، مع اندلاع صراع إقليمي بين قوى خارجية عبر وكلاء محليين.
السيناريو السوداني الفريد: ظهور نموذج "اللامركزية الثورية" — مجالس محلية مستقلة تُعيد توزيع السلطة من القاعدة، مستفيدة من تجربة لجان المقاومة.
الصراع على الرواية
يُختزل جوهر المعركة السودانية في صراع سرديتين:
سردية النخبة: تسعى لاستعادة الاستقرار عبر إعادة إنتاج النظام القديم بوجه مدني، يُعطي الأولوية لشرعية المؤسسات الدولية والنظام الاقتصادي العالمي.
سردية الشارع: تؤمن بأن الاستقرار الحقيقي لا يتحقق إلا بقلب البنيات العرقية والطبقية والجندرية التي أنتجت دولة القهر والاستثناء.
السودان، بهذا المعنى، ليس مجرد دولة تعاني أزمة انتقال. إنه ساحة اختبار قصوى للنماذج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تبلورت بعد الربيع العربي — نموذج يَختبر حدود الصبر الشعبي، ومآلات "الإصلاح من فوق"، وجدوى مقاومات القاعدة.
ومن هنا، فإن فهم السودان اليوم هو فهم لحدود النموذج العربي والإفريقي في عصر ما بعد الثورة وما بعد الدولة.
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
قنبلة مائية تهدد الحياة البحرية: حموضة المحيطات ترتفع بشكل مخيف!
انضم إلى قناتنا على واتساب
شمسان بوست / متابعات:
أفاد علماء بأن صحة محيطات العالم باتت في وضع أسوأ مما كان يُعتقد، محذرين من أن مؤشراً رئيسياً يُظهر أننا نقترب من «نفاد الوقت» اللازم لحماية النظم البيئية البحرية، حسب صحيفة «الغارديان» البريطانية.
وتحدث حموضة المحيطات، التي تُعرف غالباً باسم «التوأم الشرير»، أزمة المناخ عندما يتم امتصاص ثاني أكسيد الكربون بسرعة من الغلاف الجوي إلى المحيط، حيث يتفاعل مع جزيئات الماء، مما يؤدي إلى انخفاض في مستوى الرقم الهيدروجيني (PH) لمياه البحر، ويتسبب هذا الأمر في إلحاق الضرر بالشعاب المرجانية وغيرها من موائل المحيطات، وفي الحالات القصوى يمكن أن يؤدي إلى إذابة أصداف الكائنات البحرية.
وحتى وقت قريب، لم يكن يُعتقد أن حموضة المحيطات تجاوزت ما يُعرف بـ«الحدود الكوكبية» الخاصة بها. والمقصود بـ«الحدود الكوكبية» هو الحدود الطبيعية للأنظمة الحيوية الأساسية في كوكب الأرض، مثل المناخ، والمياه، وتنوع الحياة البرية (التنوع البيولوجي)… وإذا تم تجاوز هذه الحدود، فإن قدرة الأرض على دعم الحياة والحفاظ على التوازن البيئي تصبح مهددة.
وفي العام الماضي، أوضح العلماء أن ستة من أصل تسعة من هذه الحدود قد تم تجاوزها بالفعل.
ومع ذلك، وجدت دراسة جديدة أجراها مختبر «بليموث البحري» (PML) في المملكة المتحدة، و«الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي» في الولايات المتحدة، و«المعهد التعاوني لدراسات الموارد البحرية» التابع لجامعة ولاية أوريغون، أن «حموضة المحيطات قد بلغت (حدها الأقصى) بالفعل قبل نحو خمس سنوات».
وقال البروفسور ستيف ويديكومب من مختبر «بليموث البحري»، وهو أيضاً الرئيس المشارك للشبكة العالمية لرصد حموضة المحيطات، إن «حموضة المحيطات ليست مجرد أزمة بيئية، بل هي بمثابة قنبلة موقوتة تهدد النظم البيئية البحرية والاقتصادات الساحلية».