«وإنني لأحمد الله أن هذه الرؤيا الطفولية العذبة لا تزال حية في داخلي بكل امتلائها باللون والصوت. وهذا ما يبقي عقلي بعيدا عن الضياع ويحفظه من الذبول والجفاف. إنها القطرة المقدسة من الماء الخالد التي تمنعني من الموت. وحين تكون لديَّ الرغبة في الحديث عن البحر والمرأة أو الله في كتاباتي فإنني أغوص في صدري محملقا ثم أصغي بعناية لما يقوله الطفل في داخلي.
أتساءل دوما عن الذي تغير في حياتنا، وفي الوقت الذي يبدو فيه بأن الحياة صارت كاميرا نوثق بها اللحظات؛ أسأل نفسي، نوثّقها لمن؟ هل نوثقها لأجلنا؟ أم للآخرين من بعدنا؟ ثم هل نحن نوثقها لأننا نريدها أن تظل محفورة كحدث استثنائي في ذاكرتنا؟ أم كي تكون دليلا على وجودنا في المكان والزمان الفلاني؟ أم هو توثيق لجريمة آنيَّةٍ، نؤجِّل محاكمتها؟ أعتقد أننا تغيرنا من الداخل كذلك، أصبحنا عُرضة للاستهلاك والفناء، مات الشيء المقدس الثابت في صدورنا، أو منها على الأرجح، فلو أنه مات فيها لبقيت آثاره أو شواهده التي تدل على وجوده يوما، لكنها أرض فضاء بلا ساحل ولا مرسى.
لم نعد تلك المخلوقات اللطيفة والشقية في آن، المخلوقات التي تشعُّ نورا في لحظات التجلِّي والنورانية الباهرة. والشقية في لحظات القسوة والغضب والفورة الحيوانية المحضة. بتنا أقرب إلى الآلات أكثر من أي وقت مضى، وبات الإله الذي نعبده صنيعةً بشرية نحاول تجسيدها. فلم يعد الله في تصورنا ذلك العظيم ذا القدرة اللامحدودة واللانهائية، بل أصبحت مقارباتنا له أشبه بالمقاربات الإغريقية للآلهة. إننا نتعامل مع الله كما لو أنه بشري يملك المحركات البشرية، فنطلب منه أن يغضب لغضبنا، ويحزن لحزننا، ويبتهج لبهجتنا؛ بينما كان الله غاية كل العابدين قبل أن تتحجر قلوبهم وعقولهم وتتحول أرواحهم إلى أسلاك كهربائية تجري فيها الدماء البشرية.
لا أحب أن تبدو كلماتي كما لو كانت توبيخا للبشرية، بل هي تذكير داخلي لي ولكثير من الناس الذين نتقاطع معهم في الفكرة؛ وإن بدت الكلمات مختلفة أو غير منطوقة حتى. لا ينكر أهمية الصور والتوثيق إلا جاهل أو متجاهل لها؛ ولكن جعل التوثيق هو الغاية القصوى، والهدف الأسمى لذاته، هي المشكلة الحقيقية. إننا نتحدث لا لنُسمَع ثم نَسمع، بل لنُسمَع فحسب؛ ولذلك تبدو منصة X كما لو كانت مدونة لا نهائية من الحِكَم الكونية التي تصلح لكل زمان ومكان، إنها سلة مليئة بالفواكه والخضروات؛ لكن من الحماقة تقديم سلة مليئة بالعنب والموز والمانجو لرجل مصاب بالسكري، بل قد يكون في طعامه هلاكه. ثم إن ما تقدمه المنصات الاجتماعية من منبر يتيح للبعض أن يكوّن قاعدته أو جمهوره المعتنق لأفكاره ومعتقداته وكلامه، يصيب المتبوع بحالة من النشوة التي تعميه لكثرة ما يلقى من تصفيق وضجيج.
يلهث كثيرون وراء الإعجاب والمتابعة في منصات التواصل الاجتماعي، لدرجة تجعل من الواقع اليومي مادة لاجتلاب التعاطف، المتابعة، والاهتمام. فلا يعدو حضور الجد أو الجدة في العائلة ممثلا وحيدا للنوستالجيا، أو تغدو صورة الميت الذي لا يلقى له في حياته بالا إلا بالمزيد من التعاطف واستدعاء للضوء الزائف وغير الحقيقي. ولكن لنتريث قليلا، لا يعني ما سبق أن كل من يفعل ذلك يفعله للأسباب المذكورة أو الدوافع الآنفة الذكر، ولكن تكرار المشهد وتكرار الفعل ينبئ عن نمط متكرر يسترعي الدراسة والرصد، وكما هو معلوم فإن البعض ينبئ عن الكل أحيانا.
متى آخر مرة استلقينا فيها تحت السقف اللانهائي والممتد للمجرة؟ متى تبادلنا مع إخوتنا الحديث دون أن نلمس الهاتف؟ متى آخر مرة قمنا بأخذ الصورة التذكارية لأبوينا أو أحد أجدادنا لأننا نريد لتلك اللحظة أن تظل باقية دافئة في قلوبنا لا أن تكون دليلا على أننا «كنا هنا يوما ما». إن لهاثنا المستمر لا يخفى على كبار السن، ولنتأمل في العبارة التي سمعتها غير مرة من فم غير واحد منهم حين يُطلب من أحدهم أن يتم تصويره «عشان يوم نموت؟» أو «حاس أني بموت قريب؟». إن أعماق النفس الإنسانية أكثر صفاء وذكاء مما نتخيل، وحتى إن بدت هنالك فجوة في الأدوات الذهنية والمحاجات المنطقية التي تمتلكها أجيال اليوم مقارنة بما امتلكته الأجيال القديمة؛ لكنَّ شيئا في الروح البشرية يسمى «البصيرة» تجعلها تدرك الأشياء وإن كانت لا تدرك أسماء تلك الأشياء. وما الفرق بين الأديب وبين بقية الناس إذن؟ أليست معرفته بأسماء الأشياء؟ إننا نصرخ ذهولا ودهشة ونصاب بالقشعريرة حين نقرأ نصا نجده يوافق ما نشعر به ويعتمل في أنفسنا طوال الوقت، ولا نجد لتلك اللحظة الصافية من التجلي لفظة تفصح عن تلك الفورة الداخلية غير صراخنا بعينين مفتوحتين للمدى، وفم ينطلق دون افتعال «الله!».
ما أقصر عمر الإنسان على هذه البسيطة، وما أقسى ما يواجهه طوال حياته. فليست الحياة سوى كفاح مستمر وعقبات كؤود تستدعي الصبر والمحاولة مرة بعد أخرى. يبدو من الابتذال في نظري أن نربط ما نقوم به لأجل الآخرين في هذه الحياة مرتبطا بما سنحصل عليه مستقبلا حين نكون في مثل وضعهم أو أقل، بل ينبغي أن يكون فعل الخير لذاته لا لشيء آخر. وحين نريد أن نتذكر من نحب حقا وبصدق؛ لا يكون ذلك عبر الصور التي تحفظ الانعكاس، لكنها لا تمسك بالضوء أبدا. بل يكون الضوء منتقلا من كيان لآخر بالمحبة والتواصل والقرب الحي الدافئ. وقد أدرك هذا الأمر رجل عربي قديم فقال:
لاَ أَعْرِفَنَّكَ بَعْدَ المُوتِ تَنْدُبنِي
وَفِي حَيَاتِي ما زودتني زادي
فما فائدة البكاء على ما كان في أيدينا وتحت أعيننا حين يذهب وينقضي؟ وليس أحسن من العيد لتجديد العهد، وتصفية النفوس، وكتم الغيظ ودفن الخصومة. وليس عيبا أن نمتلك ما نمتلك من وسائل تحفظ الصور وتوثقها، وتحفظ اللحظات لاستعادة الشعور بها واستحضار روح زمانها؛ لكن العيب والمشكلة كامنتان في الهرولة المستمرة التي لا نتوقف في منتصفها لنتأمل ما مضى وانقضى، ونصحح ما يمكن تصحيحه قبل أن ينقضي هو الآخر. فما أحسن أن يكون التأبين فعلا في الحياة، لا قولا حين لا يسمع ولا يرى المتحدِّثُ المُتَحَدَّثّ إليه..
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
فشل إسرائيلي.. تحقيق داخلي يكشف ما حدث خلال هجوم 7 أكتوبر في "مفلاسيم"
كشف تحقيق داخلي أجراه الجيش الإسرائيلي بشأن الهجوم الذي وقع على كيبوتس "مفلاسيم" ومحيطه في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن ما يقرب من 200 مسلح تسللوا إلى المنطقة على ثلاث موجات متتالية، ما أدى إلى مفاجأة الجيش وإرباكه.
وأظهر التحقيق أن القوات الإسرائيلية لم تكن مستعدة للتعامل مع هجوم بهذا الحجم، إذ انحصر سيناريو الاستعداد العسكري في توقع عمليات تسلل محدودة فقط، دون التحسب لهجوم واسع النطاق.
وأكد التقرير فشل الجيش في حماية الكيبوتس نتيجة هذا القصور في التقدير والإعداد المسبق.
وأشار التحقيق إلى دور قائد فرقة الحراسة في الكيبوتس الذي ساهم في منع وقوع مجزرة داخل مفلاسيم، وسرعة استجابته مع قوات التأهب وفرق الحراسة المحلية، ما ساهم في صد الهجوم لعدة ساعات قبل وصول التعزيزات الأمنية.
كذلك أشاد التقرير بتدخل قوات "يامام" ووحدات الشاباك التي أنقذت 12 عاملا أجنبيا خطفوا على يد المسلحين بعد اقتحامهم مجمع العمال في الكيبوتس.
وبحسب التقرير، فإن الحاخام المحلي تصرف بدوره بسرعة، وساهم في إخلاء الأطفال والأهالي من موقع تخييم في بستان قريب، قبل أن يصاب في تبادل لإطلاق النار مع أحد المهاجمين عند مدخل الكيبوتس.
أما قوات الجيش، فلم تبدأ بالوصول إلا بعد الساعة التاسعة والنصف صباحا، بينما كان الهجوم قد بدأ فعليا في السادسة والنصف.
التقرير يروي تفاصيل عن مقتل إسرائيليين، معظمهم كانوا يفرون من مهرجان "نوفا"، وأُطلق عليهم النار عند تقاطع "شعار هنيغيف" من قبل مسلحين اختبأوا في الأحراش.
ورغم إرسال تعزيزات من قوات خاصة، بينها وحدة الكوماندوز البحري، استمرت الفوضى، وأدى سوء التقدير إلى إطلاق نار خاطئ من قبل القوات الإسرائيلية على مدنيين إسرائيليين ظن الجنود أنهم مهاجمون.
ويشير التحقيق إلى أن نحو 300 مسلح تسللوا إلى المنطقة في ثلاث موجات، بينها نحو 30 اقتحموا كيبوتس مفلاسيم تحديدا. ويؤكد أن الجيش لم يكن مؤهلا للتعامل مع سيناريو هجوم واسع ومتزامن على عدة مواقع، بل تدرب فقط على مواجهات محدودة.
وبحسب التحقيق، هذا القصور الإستراتيجي والتكتيكي كلف مئات الأرواح، وأدى إلى اختطاف عشرات الأشخاص، لا يزال 58 منهم محتجزين حتى اليوم لدى حماس .
ويعد التحقيق شهادة دامغة على فشل المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في منع واحدة من أكثر الهجمات دموية في تاريخ إسرائيل، رغم تحذيرات سابقة ونقاط ضعف واضحة في منظومة الردع والاستعداد.
المصدر : عرب 48 اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من الأخبار الإسرائيلية الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراضه صاروخا آخر أُطلق من اليمن تطورات جديدة بشأن وقف إطلاق النار في غزة آلية المساعدات الإسرائيلية الأميركية في غزة تتعثر الأكثر قراءة قطر: سلوك إسرائيل لا يحتمل ومستمرون في جهود وقف إطلاق النار الشرق الأوسط بين أيدي ساكنيه الاحتلال يواصل حصاره على مخيمي طولكرم ونور شمس غزة: الإعلام الحكومي يستعرض أحدث إحصائيات العدوان الإسرائيلي عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025