“اليمن بركان نائم جنوب الجزيرة العربية، وإذا انفجر فسيجرف كل المنطقة”.
هذا ما قاله المفكر السياسي الكبير محمد حسنين هيكل قبل عشر سنوات، وتحديداً في العام 2015 مع بداية العدوان السعودي الأمريكي على اليمن، في محاولة لتلخيص الأهمية الكبيرة التي يحتلها اليمن، والتغيرات التي يمكن أن يحدثها هذا المارد اليمني إذا خرج من محبسه، فهل كان هيكل “حوثياً”؟! أم أنه كان يرى بمنظوره الاستشرافي تحولات اللحظة الراهنة التي يصنعها اليمن؟.


تغير موازين القوى الإقليمية
الحقيقة أن المتأمل للتحولات التي صنعها اليمن منفرداً منذ التحاقه بمعركة طوفان الأقصى في أكتوبر2023 وحتى اللحظة، سيجد أنها جرفت ما صنعته الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة من توازنات قوى، وردع أمريكي، ومعادلات صراع، خصوصاً مع العدو الإسرائيلي، وكذا معادلة التفوق الإسرائيلي كقوة إقليمية في مواجهة كل الدول العربية، أو قل بمعنى أصدق عطلت مفاعيل تلك المعادلات والتوازنات، فاليمن المدمر والمحاصر لسنوات طوال، نهض من تحت ركام العدوان، ونزيف جراحاته الغائرة، ليساند المظلومية الفلسطينية، ويسطر تلك المواقف والأدوار التي أذهلت العالم، وعجزت عنها منظومة الدول العربية مجتمعة.
هذه الانبعاثة اليمنية القوية بإيمانها العميق بالله، المعتزة بقيادتها الاستثنائية وإرثها الحضاري والتاريخي قبل ترسانتها العسكرية، الراسخة بقيمها والتزامها الصادق بقضايا الأمة المركزية وعلى رأسها فلسطين، هي من صنعت تلك التحولات، وأعاقت التحالف الصهيو- أمريكي عن تحقيق أهدافه، وعن إرساء مرتكزات الشرق الأوسط الجديد على أرضية صلبة.
التصعيد اليمني وتناقضات المشهد
ففي الوقت الذي تزاحمت فيه بطريقة مذلة المنظومة الخليجية لاستقبال الرئيس الأمريكي ترامب، وتنافست على حشد كل ما لديها من ثروة لاسترضاء جلاوزة البيت الأبيض، الشريك الرئيس لمجرم الحرب نتنياهو في مذابح التطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني، كان اليمن يُصعّد من هجماته الصاروخية لاستهداف عمق الكيان، متوّجاً هذا الإسناد الصلب بقرار حظر الملاحة في ميناء حيفا، وأمام هذه المفارقة الرهيبة برز الإسناد اليمني تعبيراً حياً عن تطلعات الشعوب العربية المقهورة، وحاجتها في لحظة انكسار حادة، إلى من يعيد لها الإعتبار، وفي تقديري أنّ هذا الأمر سيكون له أثره العميق في إعادة تشكيل الوعي العربي من جديد، وفي ترسيخ حقيقة أن الأمة العربية التي اختارها الله لحمل راية الإسلام كرسالة سماوية خاتمة، لابد أن تظلّ ولّادة مهما بلغ مستوى الخنوع، ففي اللحظة الفارقة يبرز من أصلها منْ ينهض بعبء المسؤولية كما فعل اليمن، ويُزيل عنها عار الخنوع، وشنار هذا الذل المستطير.
ها هو اليمن الكبير يحاصر منفرداً الكيان الصهيوني بحراً وجواً، مسجّلاً انتصارات متتابعة، فمن إغلاق ميناء أم الرشراش “إيلات” جنوباً بفعل الحصار الخانق على الملاحة الإسرائيلية في البحرين الأحمر والعربي، مروراً بخوض معركة بحرية مباشرة مع البحرية الأمريكية انتهت بإجبار حاملات الطائرات الأمريكية على مغادرة البحر الأحمر، ثم تركيز الاستهداف على الوسط وتوجيه سلسلة من الضربات الصاروخية على مطار اللد “بن غيريون” بهدف حظر الملاحة الجوية التي تضررت بشكل كبير، وصولا إلى 19 أيار 2025 الذي أعلنت فيه القوات المسلحة اليمنية إدراج ميناء حيفا شمالاً ضمن بنك الأهداف، وحظر الملاحة إلى هذا الميناء الذي يتمتع بأهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة، باعتباره من أبرز مراكز الشحن في شرق البحر الأبيض المتوسط، والبوابة الرئيسية التي تربط الكيان بأوروبا، وأمريكا، وشرق آسيا، ويمر عبره بحسب بعض التقديرات حوالى 50 % من إجمالي واردات وصادرات الكيان الإسرائيلي، وتقدر حجم مناولة البضائع سنوياً بأكثر من 25 مليون طن.
إنّ حيفا ليست ميناءً استراتيجياً فحسب، بل هي بقعة جغرافية غنية بالعديد من الأهداف العسكرية الحساسة والمنشآت الصناعية الحيوية والمرافق الاقتصادية الضخمة، في مقدمتها ميناء حيفا الأكبر على مستوى الكيان، وقاعدة حيفا العسكرية، ومنشآت البتروكيماويات، وخزانات النفط، ومحطة حيفا الكهربائية، ومطار حيفا، ولأنها كذلك فإن التصعيد اليمني قد يتسع ليشمل كل هذه الأهداف الحساسة، فجولات الرصد التي قام بها حزب الله لم تُبْقِ منشأة حيوية في حيفا إلا وشملتها بالرصد الدقيق، وأتوقع أن هذا الحصاد الكبير بات في متناول القوات المسلحة اليمنية، الأمر الذي يضاعف من خطر التصعيد اليمني، ومن قدرته على توجيه ضربات قاصمة للعدو الإسرائيلي، ولا أظنه يُقْدم على كل هذه المجازفة مقابل الاستمرار في مغامرة فاشلة بقطاع غزة لن تحقق له ما عجز عن تحقيقه منذ بداية طوفان الأقصى.
يعترف بن يشاي المحلل في صحيفة يديعوت أحرونوت بمأزق الكيان قائلاً: “إن الضغط العسكري الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي في القطاع حالياً، فقد كثيراً من فاعليته، فالعائد النسبي من كل جهد عملياتي من طرفنا يتناقص باستمرار”، وفي تقديري، إنّ هذا المأزق، مضافاً إليه مأزق الجبهة اليمنية وخطورة التصعيد الأخير باتجاه حيفا الغنية بالأهداف العسكرية والاقتصادية الحسّاسة، يجيبان عن التساؤل المحوري عن سرّ امتناع الكيان عن الرد على التصعيد اليمني واستعراض العضلات كما حصل في المرات السابقة؟!
بموازاة هذين المأزقين، هناك مأزق ثالث يتمثل في تصاعد الانتقادات الحادة لقادة الكيان من داخل المنظومة الغربية الحليف الاستراتيجي الوحيد لجناح الصقور بقيادة مجرم الحرب نتنياهو الذي يفقد السيطرة شيئاً فشيئاً على هؤلاء الحلفاء الكبار، وهناك منْ يرى أنّ تأثيرات هذه المآزق الثلاثة مجتمعة هي ما سيجبر الكيان الصهيوني على رفع الراية البيضاء والنزول من على الشجرة عبر تسوية سياسية تنتشل الكيان الصهيوني الغارق في مستنقع غزة منذ أكتوبر2023 م، وهو الذي تمكّن في حرب 1967 م من احتلال قطاع غزة وصحراء سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان في غضون أسبوع واحد.
الرسائل والدلالات
لن أتوقف طويلاً عند المشككين الصهاينة بقدرة اليمن على استهداف ميناء حيفا، فالشواهد كثيرة والضربات الافتتاحية على حيفا والبحر الأبيض المتوسط بدأت منذ يونيو 2024 م، لتقدم تجربة كافية لقرار الحظر الجديد، كما أن المتتبع لجبهة الإسناد اليمنية، يجد أن اليمن يعتمد في تنفيذ قراراته على استراتيجية النفس الطويل، كما فعل في عملية حظر الملاحة في البحرين الأحمر والعربي التي بدأت بطيئة ثم تدرجت إلى أن وصلت إلى إغراق سفن بأكملها.
وأخيرا نذّكر بأن الترسانة اليمنية من الطائرات المسيرة والصواريخ المجنحة والفرط صوتية كفيلة بإنجاز المهمة، وهي التي تحدث عنها نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس خلال خطاب ألقاه في حفل تخرج الأكاديمية البحرية الأمريكية في 23 مايو 2025، واصفاً معركة البحر الأحمر بالصراع الكبير مع الحوثيين، مضيفاً “يجب على المشرّعين وكبار القادة العسكريين أن يتكيفوا مع عالم تلحق فيه الطائرات من دون طيار والصواريخ المجنحة أضراراً بالغةً بأصولنا العسكرية” والحقيقة أن هذه الأصول الأمريكية لم تتضرّر إلا في البحر الأحمر، فهل وصلت الرسالة، واستوعب قادة الكيان الدروس التي خرج بها الأمريكي من الحرب مع اليمن؟
الأهم – من وجهة نظري – هو الرسائل والدلالات التي يحملها هذا التصعيد اليمني الاستراتيجي، وسأقتصر هنا على ثلاث دلالات من العيار الثقيل:
1 – نجح اليمن في الحظر الكامل للملاحة الإسرائيلية في البحرين الأحمر والعربي وإغلاق ميناء أم الرشراش “إيلات”، وصولاً إلى توسعة هذا الحظر ليشمل ميناء حيفا شمالاً، بعد تثبيت حظر جوي ناجح على مطار اللّد، وإجبار البحرية الأمريكية على الانسحاب من البحر الأحمر، والمثير للدهشة أنّ هذا الحصاد الكبير صنعه اليمن منفرداً، وعجزت عن بعضه الدول العربية مجتمعة وهي في ذروة الإجماع العربي خلال عقود الصراع مع الكيان الإسرائيلي، الأمر الذي يجعل اليمن منفرداً بمنزلة منظومة عربية فاعلة لا تحتاج معها القضية الفلسطينية إلى تلك المنظومة العربية العاجزة عن حماية سيادتها أمام العربدة الصهيونية، فكيف بالدفاع عن القضية الفلسطينية.
2 – إن مشروع تصفية القضية الفلسطينية بزعامة قوى الاستكبار العالمي مآله إلى الفشل المحتوم، ما دام في الأمة العربية من يجرؤ على المواجهة المباشرة مع القوتين الأوليَين على مستوى العالم وفي المنطقة “أمريكا والكيان الإسرائيلي”، فالذي صنع هذه التحولات، هو منْ يملك القدرة على إفشال هذه المشاريع، ومعالجة المعضلة الصهيونية المزمنة من الجذور.
3 – إن الصراع الحقيقي مع العدو الإسرائيلي هو ما رأيناه في طوفان الأقصى، هذه المعركة الوجودية التي تدفع وبقوة إلى إعادة كتابة تاريخ مرحلة الصراع العربي الإسرائيلي، بتنظيراتها السياسية وشعاراتها الرنّانة التي دغدغت مشاعر الأمة العربية عقوداً من الزمن، لكنها لم تصنع نصراً واحداً مشرفاً، بل سلسلة من النكبات والنكسات التي انتهت بتداعي الجبهات العربية الواحدة تلو الأخرى في مستنقع الاستسلام والتطبيع، باستثناء القلعة السورية التي ظلت صامدة إلى الأمس القريب، ولذلك تآمروا لإسقاطها وتسليمها لداعش صنيعة الاستخبارات الأمريكية.
يبدو أن عمليات الجرف بفعل انفجار البركان اليمني كما تنبّأ بها هيكل، لن تتوقف حتى ينتهي اليمن الكبير من جرف كل ما هو مصطنع وطارئ على الجغرافيا العربية، ولا يشبه حضاراتها الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، فالمستقبل حافل بالكثير من التحولات التي ستعيد رسم خريطة المنطقة لتبدو بملامحها العربية الأصيلة.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

هناك تحولات حقيقية حدثت في الحرب بعد تحرير ولاية الخرطوم وبداية التقدم غربا

الحرب في كردفان أخذت منحى سجالي واضح ودخلت مرحلة جديدة لا تشبه مرحلة بدايات الحرب حيث تفوقت المليشيا بفارق الإستعداد والعتاد الحربي وحاصرت الجيش واسقطت المدن والفرق العسكرية؛ وهي كذلك لا تستمر بنفس الوتيرة التي سارت بها بعد لحظة عبور الجسور في العاصمة ثم تحرير جبل مويا وصولا إلى تحرير الخرطوم حيث كان الجيش يتقدم بشكل مستمر وفشلت المليشيا في وقف تقدمه في العاصمة والولايات.

فمع توغل الجيش في كردفان عبر أكثر من محور، حشدت المليشيا قواتها ونجحت حتى الآن على الأقل في إيقاف تقدم الجيش في كردفان وهو ما لم يحدث منذ أن تحول الجيش إلى مرحلة التقدم والهجوم وصولا إلى تحرير كامل ولاية الخرطوم.

صحيح خلال تلك المرحلة كان الجيش يتأخر قليلا ويتباطأ، ولكنه لم يخسر معارك تذكر ولم يدخل في سجال مع المليشيا، تقدمه كان مضطردا ومتسارعا حتى عبور جسر جبل أولياء ثم لاحقا تحرير آخر معاقل الجنجويد وأكبرها في الصالحة.
المعارك في كردفان أخذت منحى مغاير.

صحيح من الناحية الكلية، الجيش والقوات المساندة يحاربون الآن في كردفان بعد أن كانوا يتصدون لمحاولات تقدم المليشيا شرقا في جبهة ممتدة من النيل الأزرق مرورا بالدندر والخياري إلى سهول البطانة وشرق النيل وكذلك منع تمددها شمالا باتجاه نهر النيل وجنوبا وغربا نحو النيل الأبيض ومدينة الأبيض وغيرها من المناطق التي ما تزال إما محاصرة أو سيطرت عليها المليشيا. بهذه النظرة العامة ما يزال الجيش محافظا على انتصاراته واستطاع نقل المعركة إلى منطقة متقدمة في طريقه نحو تحرير كامل التراب السوداني، ولكن تواجهه بعض الصعوبات. ومن المؤكد أن المصاعب من طبيعة الحرب.

ومع ذلك، فلا بد من وقفة وتفكير أمام هذا المعطى الجديد، معطى دخول الحرب مرحلة سجالية بين الجيش والقوات المساندة له من جهة ومليشيات الجديد وحلفاءها من جهة أخرى.

قد تكون مرحلة طارئة وعابرة وسيواصل الجيش تقدمه وفق خططه المرسومة وقد لا تكون كذلك أيضا. ونحن هنا نفترض أسوأ الاحتمالات ونتمنى أن يكون الوضع أفضل من هذا الافتراض.
هناك تحولات حقيقية حدثت في الحرب بعد تحرير ولاية الخرطوم وبداية التقدم غربا:
فقد اختلفت أرض المعركة بكل ما تعنيه الكلمة من جغرافيا وتضاريس وبشر ومجتمعات، كما اختلفت تبعا لذلك التصورات؛ القتال أصبح على أرضية مغايرة وله طبيعة مغايرة وتعريف مختلف؛ وبالتالي هناك متغيرات أخرى تابعة.

الحرب في الخرطوم والجزيرة وسنار كانت حرب وجودية بالنسبة للشعب (في تلك المناطق وأيضا حتى بالنسبة للشعب خارجها باعتبار أنها تمثل مركز ثقل الدولة سواء أحبننا هذه الحقيقة أم لا) وللدولة وللجيش نفسه. الدوافع كانت مختلفة نوعا ومقدارا عن الآن؛ الجيش قاتل لكي يفك الحصار عن نفسه عن مقراته الأساسية وكذلك ليسترد شرفته وكرامته التي أهينت ولينقذ نفسه كجيش. والمواطنون قاتلوا ليحموا أرضهم وأعراضهم واصطف الشعب وراء الجيش لاستعادة البلد والدولة.

بعد فك الحصار عن القيادة العامة وتحرير القصر الجمهوري حدث تحول تدريجي في طبيعة الحرب. بدلا من حرب وجودية تهدد كيان دولة ومصير شعب تحولت إلى حرب بين دولة ومليشيات متمردة؛ هذا انتصار من ناحية، وفي الوقت نفسه خسارة من الناحية الأخرى، لأنه يعني أن الحرب من الآن وصاعدا أصبحت مهمة الدولة والحكومة في إطار الواجب الروتيني للحكومة وللمؤسسات الأمنية. هذا الأمر لم يحدث بشكل صريح وكامل تماما، ولكنه يحدث بشكل تدريجي لا-واعي.

الحرب في حقيقتها لم تتغير؛ حرب تهدد كيان الدولة ومصير الشعب، ولكن هذه الحقيقة لم تعد بنفس البداهة الأولى حينما كانت الحاميات تتساقط والمدن والقرى تهجر، في ذلك الوقت كانت حقيقة الحرب واضحة وفجة ولكنها الآن بعد استعادة الدولة أصبحت بحاجة إلى تفكير وتجريد ذهني لتُدرك على حقيقتها كحرب ضد الدولة وكيانها وسيادتها. وهذه هي مشكلة البشر عموما بما في ذلك القادة السياسيين والعسكريين.

فأداء قيادة الجيش الدولة اختلف بعد تحرير ولاية الخرطوم. توقفت الزيارات الميدانية إلى محاور القتال التي كنا نشهدها أيام محاور الخياري والمناقل وسنار. كانت زيارات لكبار القادة مستمرة ومتكررة تدل على أن هناك عمل يتم التجهيز له ومتحركات يتم إعدادها، وكذلك الخطاب السياسي. يبدو الأمر وكان قيادة الجيش التي عبأت الشعب السوداني قد دخلت في إجازة طويلة وربما مفتوحة

هناك تراخي واضح، هذه واقعة مجردة؛ هل هذا التراخي مقصود أم تلقائي هذا أمر آخر.
في المحصلة تتحول الحرب حرب شعب ودولة إلى حرب تقليدية روتينية بين دولة ممثلة في مؤسسات ضعيفة زمنهكة وقوات مساندة طاقتها محدودة في مواجهة تمرد مسلح على الناحية الأخرى، يتحول الشعب فيها إلى متفرج أو متابع. واللوم لا يقع على الناس العاديين وإنما على قيادة الدولة فهي المسئولة عن إبقاء الحرب كقضية أساسية وأولى لا كقضية ثانوية تخص مؤسسة الجيش والقوات شبه النظامية. طبعا هذا الكلام بافتراض أن الدولة تريد أن تحارب. فإذا لم تكن لديها خطط للاستمرار بنفس الوتيرة وتعمدت تبريد الحرب فهذا أمر آخر ولكن يجب أن تكون قد استعدت له جيدا. فالجيش لم ينتصر في هذه الحرب كجيش رغم صموده وتضحيات قادته وجنوده، وإنما انتصر بفضل السند الشعبي.

ولنكون أكثر دقة، انتصر الجيش بفضل المساندة الشعبية غير التلقائية الناتجة عن الخوف من انتهاكات وجرائم الجنجويد. بمعنى، لم يكن الدعم الشعبي للجيش ناتجا عن وعي سياسي وإدراك للأبعاد الحقيقية للحرب، بقدر ما هو بكل بساطة بسبب فظائع الدعم السريع. ففي بداية الحرب وقف الناس في الحياد ربما بانتظار من يحسم المعركة ويعيد الأمن والاستقرار؛ لو كان الدعم السريع استطاع هزيمة الجيش والسيطرة على مقراته ثم السيطرة على قوات الدعم السريع نفسها وضبطها ومنع تفلتها، ثم بسط الأمن لما وجد الجيش كل هذا الدعم والالتفاف مهما كانت هذه الحرب مؤامرة خارجية أو مؤامرة كونية، هذا لا يفرق كثيرا.

معنى ذلك أن هذه المساندة قائمة على أسس هشة ولحظية وقابلة للزوال بزوال المؤثر؛ وخطورة هذا الأمر لو تجمدت الحرب لفترة طويلة وأعادت المليشيا بدعم من حلفاءها في الداخل والخارج ترتيب نفسها يمكن أن تواجه الجيش مواجهة جيش-مقابل جيش ومن معه سلاح وعتاد وجنود أكثر يكسب الحرب.

هذا الجيش بكل عظمته وتاريخه ولكنه لم يتمكن لوحده من هزيمة أي تمرد واجهته الدولة بما في ذلك تمرد حركات دارفور، والآن هو يواجه القوات التي كانت تقاتل معه التمرد وهي مدعومة من الخارج دعم غير مسبوق في تاريخ الحروب في السودان.

وعلى أي حال، فإن الخيارات ليست سهلة وبسيطة كأن نقول لقيادة الجيش أما أن تحاربوا أو أن تسالموا. لأن الحرب إ ذا كانت مكلفة فإن السلام الذي يؤدي إلى تحقيق أهداف العدو أكثر كلفة.

هناك ثوابت متعلقة بسيادة الدولة واستقلال قرارها في شأنها الداخلي بالذات، لا يمكن أن تحارب وتوقع سلاما مع جهات تمثل أجندة خارجية يراد فرضها عليك. السلام بهذا المعنى، وهو المعنى الذي تسعى إليه المليشيا وحلفاءها وداعميها بلا كلل، ليس خيارا، لأنه يعني الهزيمة والاستسلام. ولذلك يبقى معنا خيار واحد هو خيار الحرب حتى كسر شوكة العدو وهزيمة أي أجندة خارجية يُراد فرضها عبره، أي عبر الجنجويد وحلفاءهم، على السودان.

أنا هنا لا أدعو إلى استمرار الحرب كما لا أدعو إلى السلام، أنا أقول إن الحد الفاصل بين الحرب والسلام هو السيادة الوطنية واستقلال إرادة الشعب السوداني في تحديد خياراته. ضمن هذا الشرط يمكن أن نسالم، وفي حال عدم تحققه ووجود أجندة خارجية تحملها جماعات التمرد فلا مفر من الحرب.

إن الدولة بحاجة إلى حشد الشعب وتوحيده خلف رؤية واضحة للحرب والسلام. فإذا كانت الحرب في سنار والجزيرة والخرطوم هي لإخراج الجنجويد من منازل المواطنين والمرافق الخدمية ومنشآت الدولة، فإن الحرب في كردفان ودارفور لا يمكن أن تستمر بهذا التوصيف الذي وإن كان صحيحا إلا أنه ظاهري أو سطحي؛ فالأمارات لم ترسل الأسلحة لإحتلال البيوت والمتستشفيات وتهجير الناس؛ لقد أرادت أن تفرض عملائها على الشعب السوداني وتفرض عبرهم أجندتها في بلدنا؛ هذا الهدف لم يتغير بخروج المليشيا من ولاية الخرطوم. وإذا كانت أهداف العدو من الحرب لم تتغير فليس هناك أي سبب في تغير تعاطينا معها كشعب وكقيادة للدولة. بعبارة أوضح، خروج الجنجويد من الخرطوم وتحولهم إلى القتال في وديان كرفان وصحارى دارفور لن يغير من طبيعة المعركة؛ لأنهم لو دمروا متحركات الجيش في كردفان ودارفور سيعودون مرة أخرى إلى الخرطوم وسيفرضون شروطهم على الجيش وعلى الشعب السوداني في أي سلام قادم.

أنا لا أحب التشاؤم، ولكن الذي يفصلنا على عن توقيع سلام يحقق هدف العدو هو بضعة هزائم يتلقاها الجيش في كردفان ودارفور تبرهن المليشيا وحلفاءها من خلالها استحالة الحل العسكري للحرب وأن استمرارها ليس في مصلحة الجيش والحكومة السودانية.

ولكي نتجنب هذا السيناريو يجب أن تعود قيادة الجيش لأجواء الحرب (ما دامت هناك حرب بالفعل) كما لو كانت القيادة العامة محاصرة والمليشيا ما تزال في جبل مويا وجسور العاصمة تحت سيطرتها، هذا إذا كانت لا تريد أن توقع على اتفاق سلام مذل مع الجنجويد وحلفاءهم.

حليم عباس

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • مشروع مسام يعلن عن كمية الألغام التي انتزعها في اليمن منذ انطلاقته وحتى نهاية يوليو المنصرم
  • الأونروا: مجاعة غزة نتيجة لمحاولة الكيان الإسرائيلي استبدال الأمم المتحدة بمنظومة بديلة ذات أهداف سياسية
  • هناك تحولات حقيقية حدثت في الحرب بعد تحرير ولاية الخرطوم وبداية التقدم غربا
  • تحولات في العلاقات بين إسرائيل وهولندا بسبب الحرب على غزة
  • عاجل | القناة 12 الإسرائيلية: إغلاق المجال الجوي الإسرائيلي في أعقاب إطلاق الصاروخ من اليمن
  • اسناد لا يتوقف قولا وعملا..اليمن يستهدف عمق الكيان
  • عاجل. الجيش الإسرائيلي يعلن تفعيل صفارات الانذار بعد رصد إطلاق مقذوف من اليمن
  • جيش الاحتلال الإسرائيلي: رصد إطلاق صاروخ من اليمن
  • سلوفينيا تستدعي سفيرة الكيان الإسرائيلي للاحتجاج على الكارثة الإنسانية في غزة
  • غزة على المحك.. تحولات دولية ومخططات احتلال تهدد المستقبل