لجريدة عمان:
2025-10-12@14:07:43 GMT

صائد نوارس السويق

تاريخ النشر: 17th, June 2025 GMT

أتاح لي برنامج إصدارات عمانية الذي أعده وأقدمه على أثير إذاعة سلطنة عمان العامة محاورة القاص الذي عُرف شاعرًا شعبيًّا محمد الصالحي. مع ذلك لا يبدو أن القاص قد تخلى عن عين الشاعر التي ترى العالم بحساسية خاصة. نشرت الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالتعاون مع منشورات جدل في الدمام مطلع هذا العام مجموعة قصصية للصالحي عنوانها «صائد النوارس» مشغولة في معظم نصوصها بالبحر، ساحل الباطنة، تحديدًا قرية الخضراء في السويق التي انتقل منها الكاتب بعد مشروع الباطنة الساحلي لسيح من سيوح نبتت فيها بيوت المهاجرين «الساحليين».

وبحر الصالحي حيث نوارسه، الدفوف التي تُعزف بجانبه، الموتى الذين يلفظهم البحر، أو الذين يموتون حسرة من عدم القدرة على رؤيته، الأسماك التي تلتقطها السنارات، أغنية سالم علي يغني فيها «العمانيون أسياد البحار»، القبطان البعيد، المرساة وهي تُلقى في جزر بعيدة مثل جزيرة بوكيت، بعيدة عن ساحل البحر في السويق، مسقط رأس المسافر.

مع ذلك يعود من البحر مرة معلّمًا في المدرسة وهي وظيفته، أو طالبًا يتعرف على العالم من صفوف مدارس الثمانينات بكل تعقيدات زمنها، رغم توبيخه في المدرسة على ميله العروبي، إلا أن هذا تحديدًا سيرسّخها في هويته إلى الأبد، في فصل «قم للمعلم» يغني الصالحي تارة طالبًا، وأخرى معلّمًا، إلا أن كليهما ينظران للعالم من زاوية شفافة مرهفة، تعكسُ ما لا يُقال، بالتأمل الثاقب المستغرق في القصص اليومية.

لكن ذلك التأمل والإخلاص لأحلام اليقظة لم يمنعا الصالحي من النظر للواقع والاشتباك معه، في تلاقٍ يدل على موهبة خاصة. ويتضح ذلك بصورة كبيرة في فصل المجموعة القصصية الأخير، وعنوانه: «من يعش يرَ»، نقرأ فيه عن الجندي الذي يقتله الوفاء في المعركة، والرائحة التي تبقيها الجدة الراحلة لطفل صغير حزين تصبح موضوعًا للحداد. أما الطفل العاجز لإعاقته فكان قبل فقدان الرائحة يركض، يركض، يركض. ونجد أن الصالحي يقص دون وعظ، بل بسخرية طريفة أحيانًا هموم أهله، ذاك الذي سُرّح من العمل، أو سائق التاكسي الفقير، يزداد فقرًا كل يوم. كما يؤثث القصص بحضور المهمشين العمال الآسيويين بلهجتهم الخاصة، أو التي يعتبرها بعض الباحثين اليوم لغة أخرى، عربية أخرى.

تحتفي القصص بالمعجم البحري لساحل الباطنة محاولًا أن يقول: إن البحر، هذا البحر، خاصٌ بأهله فحسب، يعرفونه بلغته التي هي لغتهم. وفي جانب آخر يحوّل الصالحي أساطير شعبية؛ لتكون عنصرًا من قصص متخيلة، ربما تصبح بعد بعض الوقت هي المتن الذي يثير المثل الشعبي. أتذكر هنا رواية رالف رزق الله في المرآة لربيع جابر، التي تحكي عن قصة انتحار رجل هو رالف رزق من صخرة في الروشة، أصبحت الروشة ورواية جابر هما مدخل سرد تاريخ المكان، فاللبنانيون يقولون لك: هنا انتحر رالف رزق الله، ربيع جابر. وسعود السنعوسي في روايته الأحدث، والتي تأتي في ثلاثية «أسفار مدينة الطين». وقد استخدم فيها تهويدات وأمثالًا شعبية كويتية، إلا أنه تخيّل قصصًا نشأت فيها تلك الأمثال والحكايات، حتى أن كثيرًا من القراء ظنوا أن القصص التي حكاها السنعوسي هي مصدر التهويدات والأمثال التي يعرفونها، لكنها لم تكن كذلك؛ إذ هي متخيلة تمامًا. في «صائد النوارس» يلتقط الصالحي مقولة شعبية أيضًا، وهي أنه كلما أصبح مدّ البحر أحمر يقول سكان الخضراء: «هذا دم البانيان». ولا تُعرف القصة التي أنتجت هذه العبارة، إلا أنها متداولة. يخترع الصالحي قصة «مبارك البانيان» متخيّلًا عالمًا تكبر فيه تلك المقولة لتبقى.

يتعلق الكاتب العماني، خصوصًا القادم من قرى الباطنة البحرية، بسواحل قراهم. ولعل أبرز الأسماء التي «شعرنَت» هذا الساحل، الشاعر والأديب والسينمائي عبدالله حبيب، فلا يغيب طيف مجز الصغرى وبحرها عن كتاباته، وتلحُّ في تنويعات لا يخلقها إلا المبدع، فيصبح ذلك البحر خالدًا لا بسبب من طبيعته، بل لأن العين التي تراه تُقلِبه، مرة على بطنه وأخرى على ظهره، ثم تقول: إن للبحر أطرافًا أخرى، حواشي ساكنة، لولا أن هذه العين لا تُخدع بالصخب وحده، وتهدُّ ذلك السكون، لكن عبر الشعر أكثر عوالم الأرض أمانًا ورقّة.

من المهم أن نشير إلى أن الصالحي في هذه المجموعة آمن بدور المحرر؛ إذ إن القصص حرّرها الكاتب والإعلامي سليمان المعمري. لعلّ هذا يثير مرة أخرى سؤال حضور المحرر الأدبي في صناعة النشر العربية جدواها، وفيما إذا كانت تمنع النص من أن يعكس أسلوب كاتبه وطريقته، أو أنها تسهم في أن تُظهِر الكاتب بعدما تتوقف عن النظر للكلمات لفرط التعامل معها، ما يستدعي عينًا نظيفة من الخارج.

أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت إلا أن

إقرأ أيضاً:

المنوفي الذي هزم أمريكا وإسرائيل

لم يكن أنور السادات مجرد رئيس جلس على مقعد الحكم بعد ناصر،  بل كان عبقرية سياسية نادرة أدركت أن معارك الأوطان لا تُدار بالشعارات  بل بحسابات العقل واتخاذ القرار في التوقيت الصحيح، خاصة بعد هزيمة ومعنويات في الأرض، قرأ السادات خريطة المنطقة بعيون تختلف عن الجميع وحسم قراره، فجاء قرار الحرب في السادس من أكتوبر ليغير الموازين ويعيد لمصر مكانتها بذكاء نادر وانتصار دبلوماسي غيّر وجه الشرق الأوسط لعقود.

تحرك السادات برؤية لم يفهمها كثيرون، فهو لم يرد حربا تُنهك مصر، بل حربا تُعيد إليها إرادتها، أعاد بناء الجيش في صمت، وحوّل الهزيمة إلى درس واليأس إلى طاقة، وفي الوقت الذي انشغل فيه خصومه بالخطابات كان هو يرسم خطوط المعركة في ذهنه، ويضع توقيتها بدقة رجل يعرف أن النصر لا يأتي صدفة، بل يُصنع بتوقيت محسوب.

في السادس من أكتوبر 1973 نطق القرار التاريخي ودوّت صيحة الله أكبر على ضفة القناة لتبدأ ملحمة العبور التي أدهشت العالم، لم يكن النصر مفاجأة للسادات بل ثمرة تخطيط دقيق بين العقل والسياسة والسلاح، أدرك أن النصر العسكري لا يكتمل إلا بانتصار سياسي، فانتقل من خنادق القتال إلى ساحات التفاوض، واضعًا نصب عينيه استعادة الأرض وتحقيق السلام بشروط المنتصر لا المهزوم.

لم يكن السلام عند السادات ضعفا بل امتدادا لشجاعة الحرب، واجه الجميع بقرار الذهاب إلى القدس وهو يعلم أنه يغامر بكل شيء في سبيل أن يحمي كل شيء، أراد أن يخرج بمصر من دائرة الدم إلى دائرة التنمية وأن يحول النصر إلى طاقة بناء لا استنزاف. عبقرية السادات لم تكن في قراراته فقط بل في توقيته، في قدرته على قراءة المستقبل، وفي شجاعته على مخالفة المألوف.

رحل السادات لكن بقي اسمه محفورا في ذاكرة الأمة كقائد آمن بأن الحرب وسيلة للسلام، لا غاية في ذاتها، وبأن مصر تستحق أن تكون في مقدمة الأمم لا في ذيلها، ذلك هو السادات بطل الحرب والسلام وابن المنوفية الهمام.

مقالات مشابهة

  • شمال الباطنة تناقش تعزيز الصحة النفسية
  • مؤلفة كتاب "صائد الدبابات" تحيي سيرة بطل أكتوبر في ندوة معرض دمنهور للكتاب
  • حلقة عمل بالعوابي للتعريف بمنظومة إجادة
  • استعراض مشروع تجويد النقل المدرسي بجنوب الباطنة
  • إطلاق سلسلة “الأساطير في عالمنا وحوله” في معرض الكتاب بالرياض 2025
  • فعالية شبابية لتحفيز الأفكار الريادية والابتكارية بشمال الباطنة
  • المنوفي الذي هزم أمريكا وإسرائيل
  • ما السر وراء قوة القصص في تنمية لغة الأطفال
  • القصص اليومية للأطفال.. مفتاح لتقوية اللغة ومهارات الخطابة منذ الصغر
  • مجلس إدارة الجمعية العُمانية للمسرح يلتقي بمحافظ شمال الباطنة