من الدبلوماسية إلى الاحتلال: كيف تُعيد أمريكا و”إسرائيل” هندسة الجنوب السوري؟
تاريخ النشر: 19th, June 2025 GMT
يمانيون | تحليل
تزامناً مع التصعيد المتسارع في العدوان الصهيوني على إيران، تتحرك الولايات المتحدة على مسار موازٍ في سوريا، لكن بأدوات سياسية مغلّفة بغطاء دبلوماسي ناعم يخفي سيناريوهات عسكرية أكثر فتكًا، تعيد رسم الخرائط الاستراتيجية في الميدان السوري.
ففي جلسة حديثة لمجلس الأمن، أطلقت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة تصريحًا لافتًا أعلنت فيه ما وصفته بـ”بداية عصر جديد” في العلاقة مع سوريا، مشروطًا باتفاق عدم اعتداء مع الكيان الصهيوني وفتح ملف ترسيم الحدود، وهي عناوين سياسية تختزن في طياتها جوهر المرحلة المقبلة: تثبيت نفوذ “إسرائيلي” مباشر في جنوب سوريا، وإعادة هندسة الوضع الميداني بما يخدم الأمن القومي لكيان الاحتلال، لا الأمن السوري.
من التفاوض إلى التنفيذ: خارطة احتلال تتسلل من الجنوب السوري
هذا التحول في الخطاب السياسي الأمريكي، الذي وُلد تحت غطاء “السلام” و”ضبط الحدود”، لم يكن سوى خطوة أولى في مسار ميداني متصاعد.. إذ سرعان ما انعكست مفاعيله على الأرض من خلال تحركات مباشرة للكيان الصهيوني في الجنوب السوري، حيث يُترجم الطرح الدبلوماسي إلى وقائع عسكرية متدرجة.
فالمناطق المحاذية للجولان المحتل تشهد تثبيتًا هادئًا لقواعد صهيونية، في مشهد يُعيد إلى الأذهان سيناريو الاحتلال المقنّع الذي يتقدّم على مراحل، بينما تعاني دمشق من ضغوط سياسية واقتصادية تعيق قدرتها على الرد أو المبادرة.
هذا التقدم الميداني ليس معزولاً عن تطمينات أمريكية صريحة للعدوّ الصهيوني، بل هو ثمرة تنسيق دقيق تتقاطع فيه الاستراتيجية الأمريكية مع طموحات “تل أبيب” التوسعية، في إعادة رسم الجغرافيا الأمنية لسوريا جنوبًا، تحت عنوان “ترتيبات ما بعد الحرب”.
فصائل “الجولان” التكفيرية: أداة ميدانية لحماية الاحتلال
وبما أن الاحتلال الحديث لا يقوم فقط بالدبابات أو الرايات، فإن الولايات المتحدة و”تل أبيب” تعتمدان على تكامل الأدوار بين التحرك العسكري الرسمي، والتحرك غير الرسمي عبر الوكلاء المحليين.
وهنا تلعب الفصائل التكفيرية المرتبطة بجبهة الجولاني دورًا رئيسيًا، حيث تعمل ضمن خطة وظيفية لا تخفى أبعادها..انتشار هذه المجموعات على تخوم الحدود الشرقية لسوريا، قرب دير الزور والحسكة، لا يمكن فصله عن انتشار القواعد الأمريكية هناك، ما يُبرز محاولات تطويق المحور الشرقي لسوريا بحزام ناري يمنع أي تواصل استراتيجي بين الحشد الشعبي العراقي والمقاومة داخل سوريا.
بهذا المعنى، يُصبح وجود هذه الفصائل غطاءً عملياتيًا للهيمنة الأمريكية والصهيونية، عبر أدوات محلية تم إعدادها بعناية لتكون حواجز أمنية في وجه أي تهديد ممانع محتمل.
الحدود اللبنانية ـ السورية: فصائل الجولاني لحماية “الخاصرة الإسرائيلية”
هذا الاستخدام الوظيفي لتلك الفصائل لا يقتصر على الشرق فقط، بل يمتد غربًا، حيث تظهر البصمة نفسها على الحدود اللبنانية – السورية.. هناك، تتحرك عناصر الجولاني كعين راصدة لتحركات المقاومة اللبنانية، ضمن نطاق أمني غير رسمي يُدار بأوامر غير سورية.
وهذا الربط بين الجغرافيا الشرقية والغربية لسوريا يُظهر وحدة الهدف الصهيوني: حماية محيط الكيان من ثلاث جهات (الجنوب السوري، الشرق الحدودي، والخاصرة اللبنانية).
بالتالي، تتضح خيوط الخطة التي تشترك فيها تل أبيب وواشنطن: تحويل سوريا إلى ساحة عازلة، لا للدفاع عن السيادة الوطنية، بل لحماية عمق الكيان الصهيوني من أي تهديد مستقبلي، سواء من الجبهة الإيرانية أو من المقاومة اللبنانية.
واشنطن تفرض “عدم اعتداء” لصالح تل أبيب
في ظل هذا المشهد المتكامل، يتبيّن أن اتفاق “عدم الاعتداء” الذي تروّج له الولايات المتحدة ليس مبادرة سلام، بل مظلة سياسية لاحتلال صامت يُدار من الخلف.
فالمفارقة أن الحديث عن خفض التصعيد يتزامن مع تكثيف الغارات على إيران، وتثبيت القواعد الصهيونية فوق التراب السوري.. ما يعني أن “عدم الاعتداء” هو بالأحرى اتفاق أحادي يُراد به إسكات الدولة السورية ومنعها من الدفاع عن سيادتها، فيما تُمنح “إسرائيل” حق الردع والتوسع دون قيود.
وهكذا، يُستخدم “الاتفاق” لتجميد أي مواجهة محتملة من الجانب السوري، ولمنح الشرعية لتكريس الواقع الميداني الجديد لصالح الاحتلال، بينما تظل سوريا بلا غطاء قانوني فعلي يحمي أرضها أو يتيح لها الرد العسكري المشروع.
سوريا بين احتلال ناعم وتحالفات مضادة
كل ما سبق يقود إلى حقيقة واحدة: سوريا باتت تقف على عتبة مرحلة حساسة، عنوانها “الاحتلال الناعم”. فالسيطرة لا تتم عبر جيوش تقليدية فقط، بل من خلال مزيج مركّب من التدخلات السياسية، والانتشار العسكري الصامت، وتوظيف المجموعات المسلحة المموّهة محليًا، ضمن منظومة إقليمية واحدة هدفها النهائي تحصين الكيان الصهيوني وتفكيك سوريا كدولة ذات سيادة.
لكن هذا المشهد، ورغم ضبابيته، لا يخلو من مؤشرات المواجهة.. فمع تصاعد التوتر واستمرار العدوان على إيران، يبقى احتمال اندلاع مواجهة أشمل قائمًا، خصوصًا في حال تجاوز المشروع الأمريكي ـ الصهيوني حدوده، وبدأ بفرض أمر واقع يتخطّى خطوط محور المقاومة الحمراء.
وفي تلك اللحظة، قد لا تبقى سوريا ساحة احتلال ناعم، بل تصبح ساحة اشتباك مفتوحة، تُمتحن فيها كل التفاهمات القائمة، وترتسم فيها معادلات جديدة بالنار لا بالكلمات.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الجنوب السوری تل أبیب
إقرأ أيضاً:
خسائر الكيان الصهيوني الاقتصادية منذ 7 أكتوبر
تُبنى الدّول وتستمر باقتصادها، ومن هنا كانت محاولة الكيان “الإسرائيلي” بتأصيل وجوده، في بناء اقتصاد حيوي ومنتج. وكانت نتيجة الجهود الحثيثة والدعم الغربي أن تصبح “إسرائيل” رائدة في قطاع التكنولوجيا ومركزًا لاستقطاب استثمارات الشركات الكبرى، في بناء مراكز أبحاث وتطوير فيها.
تُرجم ذلك داخليًا مع ارتفاع عدد الشركات الناشئة وانخفاض نسبة البطالة، عمومًا، وارتفاع معدل النمو. وخارجيًا، أصبحت “إسرائيل” من أقوى اقتصاديات المنطقة؛ حتى في العالم، لتصبح- بحسب صندوق النقد الدولي- الاقتصاد الرقم خمسة وعشرين عالميًاـ ولديها ثالث أكبر عدد من الشركات المدرجة على بورصة “الناسداك”.
لكنّ الحقيقة أن لا اقتصاد قوي، في ظل كيان متأرجح.. فما هي خسائر اقتصاد الكيان “الإسرائيلي” منذ 7 أكتوبر من العام 2023 حتى اليوم؟
المؤشرات الاقتصادية
أبرز المؤشرات التي توضح واقع الاقتصاد هي: قيمة العملة، معدل النمو، معدل التضخم، الميزان التجاري، والدين العام. وبالنظر إلى اقتصاد الكيان، تُظهر النتائج السلبية للحرب النتائج الآتية :
أولاً: انخفضت قيمة الشيكل بنسبة 5% مقابل الدولار الأمريكي.
ثانيًا: انخفض النمو من 6.5% في العام 2022 إلى 2% في العام 2023، ونما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1% في العام الماضي مدعومًا، بشكل أساسي، بارتفاع الإنفاق العسكري الحكومي.. كما انخفض نمو قطاع الأعمال بنسبة 0.6%، وعلى أساس نصيب الفرد انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.3%. وهذا ما يؤكد أن النمو كان بسبب الصرف الحكومي على الحرب.
ثالثًا: ارتفع معدل التضخم السنوي من 3.2% في كانون الأول 2024 إلى 3.8% في كانون الثاني 2025. وهذا سيستمر في منع “بنك إسرائيل” من خفض أسعار الفائدة ذات الأجل القصيرة، في أي وقت قريب، وتحفيز الإنتاج والنمو تاليًا.
رابعًا: ارتفع العجز، في الميزان التجاري، من 2734 مليون دولار إلى 3639 مليون دولار، وكان ليكون أعلى لولا انخفاض الاستيراد بسبب الضربات اليمنية. إذ انخفض الاستيراد بنسبة 42%، كما انخفض التصدير بنسبة 18%.
خامسًا: ارتفع معدل الدين العام من 61.3% في العام 2023، إلى 69% في العام 2024، بموازاة ارتفاع عجز الموازنة من 4.2% في العام 2023 إلى 6.2% في العام 2024. ولا بدّ من الإشارة إلى أن أسعار العقارات، في “تل أبيب”، انخفضت بنسبة 10%، وهذا دليل على ضعف الاستثمارات في الكيان “الإسرائيلي”. إجمالًا؛ قدّر “بنك إسرائيل” تكاليف الحرب، من العام 2023 إلى العام 2025 بما يصل إلى 55.6 مليار دولار.
التصنيف الائتيماني للكيان “الإسرائيلي”
قامت وكالتا “فيتش” و”موديز”، خلال العام الماضي، بخفض تصنيف “إسرائيل” الائتماني، وحافظت على النظرة المستقبلية السلبية، محذرة من أن الكيان قد يواجه المزيد من تخفيضات التصنيف. كما أضافت وكالة مودييز، في تقريرها الدوري المحدث في شهر آذار الفائت، عن التصنيف الائتماني للكيان: “إنّ عدم اليقين بشأن آفاق الأمن والنمو الاقتصادي، في “إسرائيل”، على المدى الطويل أعلى بكثير من المعتاد. مع أهمية المخاطر التي يتعرض لها قطاع التكنولوجيا المتقدمة، نظرًا إلى دوره المهم كونه محركًا للنمو الاقتصادي ومساهمًا كبيرًا في حصيلة الضرائب الحكومية. ومن المحتمل أن تكون لهذه التطورات السلبية آثار وخيمة على مالية الحكومة، وقد تُشير إلى مزيد من التآكل في جودة المؤسسات”.
هذا؛ وقد كانت موديز، في أيلول 2024، قد خفّضت التصنيف الائتماني لـــ”إسرائيل” بمستويين من A2 إلى Baa1، مشيرة إلى: “تراجع جودة مؤسسات “إسرائيل” وحوكمتها” في إدارة الدولة المالية، وزيادة احتياجات الإنفاق خلال الحرب. ومن المعلوم أن انخفاض التصنيف يؤدي إلى زيادة تكاليف الائتمان على الحكومة والشركات والأسر.
من بين التحديات التي تواجه الملف الائتماني للكيان؛ أشارت وكالة التصنيف الائتماني إلى: “التعرض الشديد للمخاطر الجيوسياسية والنظام السياسي المستقطب، والذي يثقل كاهل الحوكمة وفعالية السياسات ومشاركة الأقليات الدينية في سوق العمل، ما يؤدي إلى ارتفاع عدم المساواة في الدخل وارتفاع التوترات الاجتماعية”، في إشارة واضحة إلى المجتمعات العربية والحريديم.
القطاعات الاقتصادية
يتفاوت تأثير الحرب، في أسواق العمل، في القطاعات الاقتصادية على اختلافها. ففي بداية الحرب، منعت “إسرائيل” دخول العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية، وغادر معظم العمال الأجانب الكيان. وبذلك، لحقت أضرار بقطاعات اقتصادية تقليدية، مثل البناء والبنية التحتية والصناعة التقليدية والزراعة. ومن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى تراجع بناء الشقق والمنازل وارتفاع أسعار العقارات، والتأثير سلبي في شركات البناء نتيجة لتعطل العديد من المشاريع، بالإضافة إلى انخفاض الإنتاج الزراعي وارتفاع أسعار الخضراوات والفواكه والمنتجات الزراعية.
من ناحية أخرى؛ تضرر قطاع التكنولوجيا العالية والتصنيع المتقدم نتيجةً لتجنيد قوات الاحتياط العاملة في هذا القطاع، وتسريح آلاف “الإسرائيليين” بسبب الإصابات الجسدية والنفسية التي تعرضوا لها خلال الحرب. كما سيشهد قطاع السياحة توقفًا شبه كامل لعدة أشهر.
هروب رأس المال
يُعرف في الاقتصاد بأن رأسمال جبان، فعندما يستشعر المستثمرون بعدم الاستقرار وارتفاع احتمالية خساراتهم يقومون بإعادة تموضع استثماراتهم. ويشير تقرير “هينلي وشركائه” للعام ٢٠٢٤ إلى أن نحو ١٧٠٠ مليونير غادروا البلاد منذ العام ٢٠٢٣، بحثًا عن فرص هجرة استثمارية لتخفيف المخاطر واستكشاف خيارات إقامة بديلة. وكشف التقرير زيادة ملحوظة بنسبة ٢٣٢٪ في طلبات الهجرة الاستثمارية من المستوطنين “الإسرائيليين” في العام ٢٠٢٣.
إنّ تجدّد الحرب على غزة وزيادة احتياجات تمويل الحرب سيعرّض الخدمات العامة، والمرهقة أصلاً، في “إسرائيل” للانهيار. كما أن التهديد المتمثل بالعقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية التي سيفرضها الغربيون، بسبب سلوك الكيان في غزة، سيؤثر بشكل أكبر في جودة حياة المستوطنين.
هذه العوامل كلها تهدد بانخفاض مستوى المعيشة وعرقلة محركات النمو، في الكيان، والتسبب في هجرة دافعي الضرائب ورأس المال البشري. “إسرائيل” كيان صغير ذات موارد طبيعية محدودة للغاية، واقتصادها يعتمد على رأس المال البشري مصدرًا رئيسًا للنمو، ومن دون ذلك الكيان سيواجه الانهيار الاقتصادي الكبير.