اليوم كلنا القوات المسلحة السودانية
تاريخ النشر: 29th, June 2025 GMT
إذا اعتقد المدنيون بأطيافهم المختلفة أن أقصى جهدهم هو الوساطة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، وأن يكايد فريق لفريق في الأثناء، فلن يزيدوا عن أنهم فراجة على السياج. وهذا اعتزال لحرب تأخرت منذ تكوين الدعم السريع وتعزيزه بقانون 2017 وتعديله في 2019. كان الكيانان في طريق آيلين فيه لا محالة للصدام طال الزمن والقصر.
ولست أريد بهذا صرف الدعم السريع بتلويحة عبارة. فقد سهرت طويلاً لبيان من أين خرج علينا الدعم السريع، الذي ضحاياه عدد الحصى، ضحية كذلك لإهمال النظم المتعاقبة تنمية البلد وريفه (أنظر مقالي “من أين جاء هؤلاء حميدتي”). وربما كانت قيادة القوات المسلحة من دوننا هي التي لم تر هذا الصدام المنتظر بين مهنية الخدمة العسكرية و”خلويتها”. فاحتاجت للدعم السريع منذ ثورة ديسمبر 2018 ظهيراً لها ووجهاً قبيحاً يكشر في وجه الثوار. وظلت حتى في بيانها الأخير تتهم دعاة الإصلاح الأمني والعسكري، المهجسين بوجود جيشين للبلاد مهما كانت عبارتهم في التعبير بذلك، بالمتطفلين على شأن عسكري لا يخصهم. وها هي الحرب التي كانت في هاجس الناس تندلع في وسطهم: في دورهم وطرقاتهم وعلى أجسادهم.
لهذا كله وقته.
ولكن اعتزال المدنيين للحرب القائمة إلا من الإدانة أو التوسط والمناشدة ربما أطال من عمرها، أو قد فعل. فالحرب اندلعت حول منزلة الدعم السريع من منظومة الأمن والدفاع. وغير خاف أن الدمج في الجيش ليس هو آخر ما يطرأ للدعم السريع فحسب، بل لم يستعد هو لغير البقاء على حاله كما كشفت بلاغة إعداده لخيل رباط الحرب التي فغرت الأفواه لها عجباً، أو إعجاباً. فقول حميدتي بأن يسبق الإصلاح العسكري الدمج محركة. وقوله ألا يقع الدمج إلا بعد 10 سنوات مستقاة من حكمة “يا مات الفقير . . “. ومن جهة أخرى، اعتقدت القوات المسلحة أن الدعم السريع استنفد خدماته لقيادة القوات المسلحة بانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي أخلى الميدان السياسة من كل قوة عداهما. وجاء وقت تصفية الحساب في ما بينهما.
لا غبار بالطبع للتوسط والمناشدة بأن تضع الحرب أوزارها طمأنينة للناس. ولكن عواره أن تأتيه كمدني مطلق يديك من مشروعك لما تريده للقوة المسلحة الوطنية في الدولة الحديثة. ولا أعرف مشروعاً ناصحاً ناضجاً مثل المطلب منها: “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”. فإطلاق المناشدات التي طرقت أذني من المدنيين عزومة مراكبية، ناهيك عن ميلها لتصفية ثأرات بين مطلقيها أنفسهم، تحرمهم كمدنيين أن يكونوا ثقلاً مؤثراً في تشكيل صورة القوات المسلحة المهنية الوطنية بعد عقود من اختطافها من نظم سياسية ومعارضتها بعيداً عن مهنيتها.
واستنامت القوات المسلحة لذلك. وصرنا لها أمة بدل أن تكون لنا جيشاً. فلم يطرق أذني موقف من المناشدين والوسطاء صورة لقواتنا المسلحة المبتكرة التي سيحملون الطائفتين المتحاربتين للتصالح عليها طالما كانت هذه الصورة في أصل الصراع بينهما.
إننا لا نملك جيشاً غير القوات المسلحة. وكل جيش آخر تكون في ملابسات ولايتها عنا بغير إرادتنا إما اندمج أو تفرق مع تفهمنا الدقيق للشرط الدقيق الذي أملى قيامه.
ربما لم تحسن قيادة القوات المسلحة لشعبها منذ عقود، ولكن عقابها ليس في قيام جيش آخر يتولى عنها مهمها جزافاً.
يسلم السودان. وليخرج من هذه المواجهة وقد تكلل بالنجاح جهاده الطويل للديمقراطية والحكم المدني ولقوات مسلحة وطنية مهنية حرة.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: القوات المسلحة الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
إبراهيم شقلاوي يكتب: سويسرا .. فصل جديد من العلاقات السودانية الأمريكية
في تطور لافت بالعلاقات السودانية الأمريكية، التقى رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بمستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية، مسعد بولس، يوم الإثنين 11 أغسطس 2025 في زيورخ، بطلب مباشر من واشنطن، وفقًا لـ”العربية”. اللقاء يعكس تغيرًا في نهج الولايات المتحدة تجاه الملف السوداني، وتراجعًا عن الاعتماد التقليدي على الوسطاء الإقليميين، وعلى رأسهم الإمارات.
اللقاء، الذي لم يُعلن عنه رسميًا في الخرطوم حتي اللحظة ، يعكس مستوى متقدمًا من الثقة بين الطرفين، ويجسّد مرحلة جديدة من الحوار المباشر، بعيدًا عن القنوات التي كانت مؤثرة في توجيه مسار الأزمة السودانية.
الولايات المتحدة، وفق مصادر متعددة، وضعت على طاولة النقاش مقترحًا واضحًا لوقف شامل لإطلاق النار في السودان، كجزء من رؤية أشمل لإعادة ترتيب المشهد السياسي والأمني، وترسيخ دور السودان كشريك فاعل في مكافحة الإرهاب وتعزيز أمن البحر الأحمر، وهو الملف الذي بات يحتل أولوية متقدمة في الأجندة الأمريكية، بالنظر إلى تعقيدات الوضع الإقليمي وارتباط السودان المحوري جغرافيًا بمنطقة بالغة الحساسية.
هذه التحركات تؤكد أن واشنطن لم تعد تنظر إلى السودان من زاوية الأزمات الإنسانية ، بل كفاعل استراتيجي يمكن الوثوق به في ملفات إقليمية كبرى، وهو ما يُعدّ تطورًا ملحوظًا في طبيعة العلاقة الثنائية، ويعزز من موقف السودان السياسي والدبلوماسي.
ما يلفت النظر في هذا اللقاء أيضًا أنه تم خارج علم بعض الأطراف الإقليمية المتنفذة ، ولم تكن الإمارات، على سبيل المثال، على دراية به إلا بعد حدوثه، مما يعكس نجاحًا دبلوماسيًا سودانيًا في انتزاع هامش حركة مستقل، وربما يمثل بداية لإعادة صياغة التحالفات الإقليمية والدولية وفقًا لأولويات سودانية وطنية .
البرهان بدوره لم يذهب إلى هذا اللقاء بدون ضمانات أو أوراق ضغط، فقد عبّر عن موقفه الرافض لوجود مليشيا الدعم السريع في السلطة أو في أي عملية سياسية قادمة. هذا الموقف يضيف بعدًا جديدًا لمسار التفاوض، ويعكس رغبته في تقليص نفوذ المليشيا ، بما يدل على إدراكه لأهمية إزالة العوائق التي تقف في طريق السلام والاستقرار، تمهيدًا لإنهاء الحرب والدخول في مرحلة انتقالية أكثر استقرارًا.
تنسيق اللقاء جاء أيضًا بعد جهود دولية وإقليمية معقدة ، شاركت فيها تركيا وقطر ومصر، وهو ما تجلى في تحركات وزراء الخارجية واجتماعاتهم المكثفة خلال الأسابيع الماضية، إضافة إلى دعم لوجستي قطري تمثل في هبوط طائرة ضخمة في مطار بورتسودان، قبل يومان من اللقاء، في إشارة إلى انخراط واضح في تهيئة الأجواء لهذا التحول السياسي.
غير أن المراهنة على نجاح هذا المسار تظل مشروطة بقدرة القيادة السودانية على توظيف هذا الزخم الإقليمي و الدولي وتفعيله داخليًا، في ظل تحديات أمنية واقتصادية خانقة، وانقسامات سياسية تحتاج معالجات .
الإشارات الصادرة عن واشنطن، مطلع الاسبوع الماضي بما في ذلك تقارير حول نية الإدارة الأمريكية تصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية، تعكس تحولًا في الموقف الأمريكي من المليشيا التي كانت تحظى بدعم إقليمي واضح، وتضع شركاءها في زاوية ضيقة، ما قد يؤدي إلى إعادة تموضع إقليمي إجباري يتماشى مع الاتجاهات الجديدة.
وفي المقابل، فإن استمرار اللقاءات بين البرهان والدوائر الأمريكية خارج إطار التنسيق الإقليمي المعتاد، يمنح القيادة السودانية أوراق ضغط جديدة على طاولة التفاوض، ويمنح الملف السوداني دفعة حقيقية نحو الحل.
الأمريكيون ، من جهتهم، يظهرون انفتاحًا غير مسبوق للتعاون مع الخرطوم، ليس فقط في الملف الأمني، بل أيضًا هناك مؤشرات في اهتمامهم بالمجالات الاقتصادية والاستثمارية، حيث تنظر واشنطن إلى السودان كفرصة لإعادة إعمار بلد غني بالموارد، مع أهمية استراتيجية كبيرة. وهذا يعزز فكرة أن اللقاء يمثل بداية مرحلة جديدة من التعاون، تقوم على مبدأ الشراكة المباشرة، بعيدًا عن وسطاء قد يعرقلون الحلول.
إن أهمية هذا اللقاء لا تكمن فقط في طبيعته السرية أو توقيته، بل في الرسائل التي يحملها حول مستقبل السودان في المعادلة الإقليمية، والفرص التي يمكن أن تنشأ إذا ما أُحسن استثمار هذا الانفتاح الأمريكي.
غير أن الشفافية في التعاطي مع الرأي العام السوداني بشأن فحوى هذه اللقاءات تظل أمرًا مهمًا ، ليس فقط لطمأنة الداخل، بل لتأكيد الجدية في إدارة المرحلة القادمة بعيدًا عن السرية و الغموض الذي طالما غذّى الشائعات وأضعف الثقة في مؤسسات الدولة.
من منظور #وجه_الحقيقة، تقف بلادنا اليوم أمام مفترق طرق . وإن تمكنت قيادتها من ترجمة الزخم الدبلوماسي إلى خطوات عملية، فقد تشكّل زيورخ بداية حقيقية لمسار استعادة الأمن والسلام . هذا اللقاء قد يؤسس لوقف شامل لإطلاق النار، ويفتح الباب لحوار جاد مع الأطراف المعنية، خاصة الإمارات، لوقف تغذية مليشيا الدعم السريع. غير أن النجاح يظل مرهونًا بقدرة القيادة على توظيف الدعم الإقليمي والدولي وتحويله إلى واقع يرسّخ أمن السودان واستقراره.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 13 أغسطس 2025م [email protected]