غزة وكربلاء: الدمعة والموقف
تاريخ النشر: 5th, July 2025 GMT
د. إبراهيم بن سالم السيابي
في مثل هذه الأيام، تفتح الذاكرة أبوابها على مشهدٍ لا يغيب، كأن الأرض لا تزال تحفظ حرارة الرمال في كربلاء، وكأن الدم لم يجفّ بعد، وكأن الحسين ما زال ينادي: "ألا من ناصرٍ ينصرني؟". وما أشدّ وقع تلك الكلمات على القلب حين نسمعها، لا كنداءٍ قديم، بل كصرخةٍ ما زالت تتردّد في طرقاتنا، في قلوبنا، في فلسطين.
كربلاء ليست حكايةً تُروى، بل روحٌ تسكننا، جرحٌ مفتوح منذ أكثر من ألف عام، نحمله معنا كلما ضاقت الدنيا، ونبحث فيه عن المعنى كلما ضاع منا الطريق.
يا حسين، يا ابن الزهراء، يا صوت الحق في ليل الانكسار.. كم نحتاجك اليوم، وكم نحاول أن نُشبهك، لكننا نعجز. كنت وحدك أمام الجموع، وثبت، ونحن اليوم كثيرون لكننا صامتون. كنت ترفع رأسك للسماء وتقول: "رضًا بقضائك، وتسليمًا لأمرك"، ونحن نخفض رؤوسنا من العجز والخوف.
نمشي خلف مواكبك ونبكي، نهتف باسمك، نرفع راياتك، نُنشدك في المجالس، ونلطم على صدورنا، لكنك لا تريد دمع العيون فقط، بل نبض القلوب وصدق المواقف. لم تبكِك السماء لأنك هُزمت، بل لأنها عرفت أنك انتصرت بروحك، وأنك قدمت للأمة آخر درس في الحرية.
كلما جاء محرم، جلسنا نُحدّث أطفالنا عن عطشك، عن الرضيع الذي لم يُمهل، عن زينب التي نطقت حيث يصمت الرجال، عن القلة الذين لم يتراجعوا، وعن الخيام التي احترقت وبقيت كرامتها منيرة. كل عام نردد: "يا ليتنا كنا معك"، فهل ندرك ما نقول؟ وهل نحن مستعدون فعلًا أن نكون حيث كنت؟
وها هي كربلاء تعود إلينا اليوم من جديد، لكن على هيئة قطاع... قطاع يُقصف ويحاصر، يموت أطفاله عطشًا وجوعًا، وتبكي أمهاته بصمت، وتُذبح فيه البراءة على مرأى من العالم. واسمها هذه المرة: غزة.
في غزة، يُذبح الحسين من جديد، لكن هذه المرة أمام أعيننا، بلا خيام، بل في مبانٍ تتهاوى. بلا سيوف، بل بصواريخ لا ترحم. بلا صحراء، بل تحت سماءٍ شاهدة لا تمطر إلا وجعًا.
أكثر من 57 ألف شهيد حتى اليوم، منهم 20 ألف طفل شهيد. وأطفال يموتون جوعًا، وآخرون يفقدون أرواحهم في طوابير انتظار الخبز. لا ماء، لا كهرباء، لا دواء، لكن في وجوههم نورٌ كأنّه من كربلاء.
غزة لا تطلب منّا إلّا قلبًا لا يغفل، ودعاءً لا يملّ، وموقفًا لا يُشترى. هي لا تنتظر الجيوش، بل تنتظر أن نحمل قضيّتها في صدورنا كما حمل الحسين رايته في كربلاء. هي لا تسأل الكثير، فقط ألا نتركها وحيدة في الخيام.
يا ربّ كربلاء، إن كان البكاء على الحسين طهارة، فاجعل دمعنا بابًا للنجاة، لا طقسًا نكرّره كل موسم. وإن كانت غزة تُذبح في كربلائها كل يوم، فاجعل في قلوبنا بعضًا من يقين الحسين، وبعضًا من صبر زينب، وبعضًا من ثبات العباس.
أيها الحسين، علّمتنا أن الموت في سبيل الحق حياة، وأن الصمت في حضرة الظلم جريمة. لكن قلوبنا خافت، وجوارحنا تثاقلت، وأصواتنا خفُتت، فاغفر لنا صمتنا، وعلّمنا من جديد كيف يكون الثبات.
ختاما، سلامٌ عليك يا أبا عبدالله وسلامٌ على غزة وهي تسير وحدها في الدرب الطويل. وسلامٌ على كل دمعة صدق، تُولد منها وقفة، ويخرج منها رجاء. فالدمعة وحدها لا تكفي… "إن لم تكن دعاءً، وإن لم تُولد معها نيّة تشبهك".
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً: