عبد السلام فاروق يكتب: عبد الناصر.. بين نيران الرأسمالية ومآلات التاريخ
تاريخ النشر: 23rd, July 2025 GMT
ثورة يوليو 1952 ليست مجرد حدث تاريخي مضى، بل هي لحظة جيولوجية في وجدان الأمة، اهتز لها جسد الوطن وما زالت ارتداداتها تهز خرائط الوعي حتى اللحظة. ففي تلك الليلة التي انتفض فيها الضباط الأحرار، لم تكن البنادق وحدها هي ما تغير مصير المصريين، بل كان ما تغير هو معنى الإنسان نفسه في هذا الوادي الذي طالما خضع لحكم السادة، وسجلت أقداره بأقلام المحتلين.
جاء عبد الناصر لا كزعيم سياسي، بل كفكرة تمرد على الزمن المكسور، وكحلم جارف في صدور الملايين الذين ما عرفوا من الدنيا إلا وقع السلاسل. من قلب الهامش، كتب مشروعه بلغة الفقراء: أرض لمن يحرث، وعلم لمن يشقى، وكرامةٌ لمن يهان. فأعاد صياغة العقد الاجتماعي، ووضع الفلاح على مائدة القرار، وجعل من ابن العامل طبيبًا ومهندسًا، دون أن يطلب منه نسب ولا مال.
ورغم كل العواصف التي عصفت بتجربته، لا تزال ثورة يوليو حجر زاوية في كل حديث عن العدالة والاستقلال والكرامة. لكن المدهش أن أول من ينكر فضلها اليوم، هم الذين صنعَتهم تلك الثورة ذاتها! وكأنما جحد الابن بلبن أمه، أو تبرأ الغصن من جذره.
في هذا المقال، لا نكتب عن يوليو بوصفها ذكرى، بل بوصفها ساحة صراع حية بين الذاكرة والنسيان، بين التاريخ الذي يروى، والجغرافيا التي تعاش، بين مشروع جماعي يسعى للإنقاذ، وسوق رأسمالية لا تعبأ بغير الربح. فما الذي تبقى من يوليو؟ وهل نحن، في زمن الضياع، نستحق أن تولد من جديد؟
جدل بلا معني
في قلب الجدل المصري الدائر حول ثورة يوليو وشخصية جمال عبد الناصر، تبرز مفارقة تثير الدهشة والأسى في آن: أبناء الطبقة الوسطى، تلك التي ولدت في رحم إصلاحات يوليو الزراعية والتعليمية، هم أنفسهم من يسارعون اليوم إلى الطعن في تلك اليد التي غذتهم ورفعتهم من قاع المجتمع إلى سدته. كيف لمن شرب لبن الكرامة أن ينكر أمه؟ كيف لمن حصد ثمار العدالة أن يلعن بذورها؟ وكأن مصر ما قبل يوليو كانت جسدًا مقطوع الأوصال، فجاءت الثورة فأعادت إليه شرايينه: ربطت قلبه العاصمي بأطرافه الريفية، وحولت الفلاح المهمش إلى مالك لأرضه، وابن الكادحين إلى طبيب لا يحمل الفأس بل المشرط.
أليست هذه المفارقة التاريخية الصارخة برهانًا على ما قاله ابن خلدون منذ قرون: "المنعَم عليهم أولى بالجحود"؟ فهل تحولت الثورة من لحظة تحرر إلى عبء على الذاكرة الجمعية؟ أم أن ما نشهده اليوم هو مجرد انعكاس لصراع أعمق بين الذاكرة والنسيان، بين التاريخ والجغرافيا، بين المشروع الجمعي وإغراءات الفردانية النيوليبرالية؟
تشريح ظاهرة الهجوم على عبد الناصر
الخوف من سقف التوقعات
ثورة يوليو لم تكن مجرد انقلاب عسكري، بل كانت زلزالًا هائلًا أعاد رسم الخريطة الاجتماعية والسياسية لمصر والمنطقة. خلخلت البُنى التقليدية، واقتلعت الإقطاع من جذوره، وزرعت مكانه بذور مشروع حضاري وطني مستقل. لكن الكائن البشري، كما تقول الجغرافيا النفسية، يخاف من المجهول أكثر مما يحتمل الحلم. وعندما تعثرت سفينة الثورة في صخور 1967، وحاصرتها بيروقراطية الدولة العميقة، انقلب الحلم كابوسًا، وارتد المحبون سكاكين، يطعنون بها تمثال الأمل الذي بنوه بأيديهم.
صراع القيم في عصر السوق المفتوح
في ظل العولمة المتوحشة، تحول الفرد إلى وحدة استهلاكية، وصار النجاح الشخصي هو المعبود الجديد. وفي هذا المناخ الذي يقدس الأنانية، يبدو المشروع الناصري، بمثاليته الجمعية، نغمة نشاز في سيمفونية السوق. عبد الناصر، حامل لواء "الكل في واحد"، صار في نظر البعض حاجزًا أمام "واحد ضد الجميع". نسي هؤلاء أن تعليمهم المجاني لم يكن منحة قدرية، بل ثمرة مشروع اجتماعي اعتبر الإنسان هدفًا لا سلعة.
اغتراب البرجوازية الصغيرة
الطبقة الوسطى التي رفعتها الثورة من سفوح التهميش إلى قمم الفاعلية، تنكرت لجذورها. ارتدت زي البرجوازية المتصنعة، وأعادت إنتاج منطق السيد والعبد. لقد غسلتها النيوليبرالية من ذاكرتها الطبقية، تمامًا كما تغسل الأمطار الصخور من معالمها، حتى تنسى الجبال هويتها الأولى.
الثورة المضادة: إعادة تشكيل المشهد بجغرافيا مقلوبة
الاقتصاد: إقطاعية السوق الحديث
لم يعد الإقطاع في صورة العصي والسياط، بل عاد في هيئة "صفقات كبرى"، و"محاسيب"، و"أمراء رأس المال". تحول التعليم – تاج الثورة – إلى سلعة نخبوية، تتداولها طبقة جديدة من الأثرياء الجدد. لكن برغم غبار السوق، ما زالت جذوة العدالة مشتعلة تحت الرماد، بانتظار رياح جديدة تبعثها حية.
الثقافة: وعي الأرض والمقاومة الرمزية
من أغاني عبد الحليم، إلى أفلام يوسف شاهين، إلى أدب صنع الله إبراهيم، ما زالت روح يوليو حية، تتسرب إلى اللاوعي الشعبي، كالنيل الذي يرفض الجفاف. إنها ثقافة المقاومة الرمزية، التي تنبض خارج الخطاب الرسمي، وتزرع في القلب أسئلة البديل.
السياسة: استحالة الاستنساخ وإمكانية التجدد
من المستحيل استنساخ يوليو كما يستنسخ العلماء الخلايا. لكن روحها – بثالوثها المقدس: "العدالة، الاستقلال، الكرامة" ما تزال قابلة للتكاثر، إن توفرت لها بيئة سياسية ناضجة وسياق اجتماعي منتج.
سيناريوهات المستقبل
سيناريو الانهيار الشامل: إذا استمرت السياسات النيوليبرالية في تفكيك المجتمع وتحويل الوطن إلى سوق، فستتحول مصر إلى أرخبيل اجتماعي: جزر من ثراء فاحش تحيط بها محيطات الفقر واليأس.
سيناريو الإصلاح التراكمي: حين تبدأ موجات وعي جديدة في التشكل: منظمات مجتمع مدني، إعلام بديل، حركات طلابية، ومثقفون شباب يعيدون تعريف مفهوم "العدالة" على مقاييس العصر الرقمي.
سيناريو الثورة الناعمة: ثورة بلا دماء، تسري في الشعاب الإلكترونية، وتعيد تشكيل العقد الاجتماعي عبر أدوات جديدة: الذكاء الاصطناعي، الحوكمة الرشيقة، العدالة البيئية، والتحول الرقمي.
الثورة كعملية جيولوجية مستمرة
ثورة يوليو ليست لحظة زمنية جامدة، بل حركة جيولوجية عميقة، تشبه تصادم الصفائح التكتونية في الجغرافيا. كلما اشتد الفقر، عاد الحديث عن الإصلاح الزراعي. كلما تدهور التعليم، استُدعيت المجانية. كلما تفاقمت التبعية الاقتصادية، بَرز الحنين إلى سياسات التأميم. فالثورات الكبرى لا تموت، بل تهاجر في الزمان والمكان، وتعود حين تنضج الشروط الموضوعية.
إن ذاكرة الشعوب تتحرك مثل الكتل القارية: بطيئة، لكنها عنيدة. يوليو ليست ذكرى، بل طبقة رسوبية في وعي الأمة. تطفو في لحظات الانكسار، وتذوب حين يغمرها ضجيج الاستهلاك. حتى الدولة، التي تتنكر لها رسميًا، تعيد إنتاجها عمليًا من خلال سياسات الدعم والمشروعات القومية.
هذه "الحدود المسامية" بين ما يعلن وما يمارس تشبه المناطق الجيولوجية الانتقالية حيث تتصادم الصخور الرسوبية بالنارية، منتجةً تربةً خصبةً للصراع الفكري والتناقض السياسي.
سؤال الختام: هل نستحق عدالة جديدة؟
اليوم، في ظل صعود "الدولة الرقمية" و"الرأسمالية السحابية"، تتشكل ملامح "ثورة يوليو رقمية": التعليم الإلكتروني كبديل لمجانية التعليم، العمل الحر بديلًا عن التوظيف الحكومي، المنصات الإعلامية الحرة كإحياء لاتحاد الإذاعة والتلفزيون. غير أن هذه المظاهر الرقمية تفتقر للعدالة البنيوية، مما يجعلها مجرد واحات رفاهية وسط صحراء من اللا مساواة.
في زمن كزمننا هذا؛ حيث تباع الذاكرة في أسواق النسيان، يبقى السؤال المصيري: هل فشلت يوليو؟ الجواب الأهم: هل نستحق نحن – كشعب – أن تشرق شمس عدالة جديدة على هذا الوادي الخالد؟
إن الشعوب لا تسير إلا حيث تميل عدالتها، كما أن الأنهار لا تجري إلا حيث تميل الأرض. وما العدالة إلا جغرافيا تميل نحو الإنسان.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: ثورة يوليو ثورة يوليو 1952 الضباط الأحرار ثورة یولیو عبد الناصر
إقرأ أيضاً:
نبؤة أحمد بهاء الدين التي تحققت
في السياسة، كما في التاريخ، هناك لحظات تَشبه النبوءات. لا لأنها تُسجل ما سيحدث حرفياً، بل لأنها ترسم بعمقٍ نادرٍ صورة المستقبل إذا ما اختلَّ ميزانه. ومن بين هذه اللحظات، تظل كلمات الكاتب والمفكر الكبير أحمد بهاء الدين في يناير 1970، ثم بعد وفاة عبد الناصر في أكتوبر من نفس العام، بمثابة النبوءة التي تحققت.
لم يكن أحمد بهاء الدين مديحياً ولا محابياً، لكنه كان قارئاً مدهشاً لخريطة العالم العربي، وقارئاً لوجه التاريخ قبل أن يُكتب. فقد كتب، في ذروة الحصار والحرب النفسية، عن معنى وجود جمال عبد الناصر في المنطقة: الزعيم الذي لم يكن قائداً سياسياً فحسب، بل كان حائط الصد الأخير أمام لعبة الأمم.
فقد كان يدرك أن الشرق الأوسط ليس مجرد جغرافيا، بل ساحة تنافس، كل قوة كبرى تُريد رسمه على هواها. وعبد الناصر كان "الحجرة الكؤود" أمام هذا الرسم. لم يسمح للاعبين الدوليين أن يتحكموا بالمنطقة كأنها رقعة شطرنج، ولم يُسلم مفاتيح القرار لمن هم خارج الجغرافيا والتاريخ العربي.
وها نحن بعد نصف قرن، نرى الخرائط الجديدة تُرسم على مهل، بخيوط أمريكية، وأقلام إسرائيلية، وتوقيعات عربية للأسف. نشهد قادةً يلهثون خلف تطبيعٍ مهين، وآخرين يرفعون شعارات وطنية زائفة وهم يفتحون الأبواب خلف الستار للمشاريع الانقسامية. منهم من رقص مع الذئاب، ومنهم من صار ذئبًا على أهله.
نبوءة بهاء الدين كانت واضحة: إذا غابت زعامة تحمل روح الأمة، انفرط العقد، وتحول الوطن إلى قطيعٍ يبحث كل فردٍ منه عن مظلة تحميه، وعن خلاص فردي في مواجهة طوفان التمزق. وهذا ما نراه اليوم، قُطُر بلا تنسيق، صراعات دموية، تطاحن على الحدود، وتحالفات ضد الذات.
في غياب "المركز" غابت الهيبة، وفي غياب "الرمز" تجرأ الضعفاء، وتكاثر المتآمرون.
وما زال السؤال المرير يطرق رؤوسنا كل يوم: ماذا كنا؟ وماذا صرنا؟
عبد الناصر لم يكن معصوماً، ولم يكن فوق النقد.لكنه كان عنواناً للكرامة، وامتداداً لحلم التحرر، وصدى لصوت الشعوب في زمنٍ كان فيه الصمت سيد الموقف. وعندما رحل، رحل معه كثير من الأمل. ما تبقى من أثره لم يكن نظاماً، بل فكرة. الفكرة التي قاومت الانهيار زمناً، قبل أن يغدر بها الأقربون قبل الغرباء.
ولعل في نبوءة أحمد بهاء الدين اليوم، دعوة للعودة إلى الجذر، إلى الفكرة، لا إلى الأصنام.
أما الذين كلما كتب كاتب عن عبد الناصر أو دافع عن المشروع الوطني، وسموه فوراً "ناصرياً"، فهم لم يقرأوا كتاب أستاذنا الشهيد العالم جمال حمدان، الذي أدرك أن الكلمة لا تُختزل في التصنيف، وأن "الناصرية" إن وُجدت، فهي مشروع سياسي - حضاري له ما له وعليه ما عليه، لا حكمٌ مطلق ولا هتاف أجوف. مشروع يُقيمه المؤرخون لا هواة القطيع ولا تجار الرجعية.
الكاتب لا ينقّب في قبور الأموات، ولا يُصدر صكوك غفران، ولا يحكم على بشر من أهل الجنة أو الجحيم. الكاتب لا يكتب للـ"لايكات"، ولا يرتدي عباءة الوعظ الزائف. بل يكتب لأنه وجد موقفاً أخلاقياً لا يُمكن السكوت عنه.
يكفي جمال عبد الناصر شرفاً أنه مات في القمة العربية في أيلول الأسود، وهو يحاول حقن الدم العربي في عمّان.
فيا من تنتقد عبد الناصر اليوم، ما الذي فعلته لأطفال غزة؟ ما الذي فعلته حين ذُبح الحلم؟ هل تجرأت على ذئب، أم صرخت على جثة؟!
ليتك كنت ناقداً حقيقياً، لا متفرجاً على مأساة.. .، ، ، !!
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.. ، !!
[email protected]