أصبحنا خمسة ملايين.. ألا نستوعب أبناءنا الباحثين؟!
تاريخ النشر: 3rd, August 2025 GMT
خالد بن سعد الشنفري
تجاوزنا في يوليو هذا العام 2025 (شهر الخير والبركات على عُمان) حاجز 5.3 مليون نسمة وأصبحنا 3.3 مليون عُماني وظلت نسبة الوافدين إلينا في حدود 40%، ومع أنَّها الأقل على مستوى دول مجلس التعاون والحمد لله إلا أنَّ مؤشرات الباحثين (طاقات عُمانية معطلة) في بلادنا تتزايد باضطراد عامًا بعد عام وإذا لم يتم تدارك هذا الأمر وبقينا على نفس المنوال الذي عليه نسير في حلولها واستنباط فرص عمل لهم ستستفحل هذه المشكلة وتتفاقم ويصعُب حلها.
لقد استكملنا البنية التحتية الأساسية للبلد، وحققنا لعُمان مكانتها المرموقة بين دول العالم.. ألا يستدعي ذلك وقفة جادة الآن وحازمة لحل هذا الموضوع ووضع أولوية تشغيل الباحثين على رأس خططنا وأهدفنا في هذه المرحلة وتنفيذ ذلك عملاً لا قولاً ولو على مدى الخمس سنوات القادمة.
لا يختلف اثنان أن الإنسان هو أداة التنمية وصانعها وبما أن حاجتنا في بدايات نهضتنا إلى هذه العمالة الوافدة للبناء والتعمير كانت ضرورة يقتضيها الحال، إلا أننا اليوم وبعد توالي ثلاثة أجيال من أبنائنا منذ النهضة استلموا زمام الأمور بجدارة واقتدار من أعلى السلم الوظيفي إلى أدناه، وفي ظل ما حبا الله به بلادنا من نعم كثيرة من ثروات طبيعية ومصادر أولية وأن المواطن قد أصبح مُسهماً بفاعلية في رفد الميزانية السنوية للدولة من خلال ما يدفعه من رسوم خدمات وضرائب وجمارك وغيرها من الرسوم، ولم تعد الدولة تصرف بالكامل إلا على قطاعين اثنين هما الصحة والتعليم العام إضافة إلى قواتنا المسلحة وهي المؤسسات التي لا تدر بطبيعتها موارد مالية على الدولة.
إنَّ وجود أكثر من 100 ألف باحث عن عمل من أبنائنا أصبح أمرا ليس مقلقاً فقط بل محيراً بالفعل لابد من فك شفرته إذا جاز لنا تسميتها شفرة، فلكل شفرة حل وألا نسمح للأمور أن تستمر بالسير على هذا المنوال أكثر مما سلف ووجب تغيير النمط الرتيب الذي نسير عليه حالياً في إيجاد الحلول في هذا الجانب وتركنا هذا الأمر يستفحل عامًا بعد عام ونمضي وكأنَّ شيئاً لا يحدث بين ظهرانينا لهذا الكم الكبير من أبنائنا.
أصبح هذا الوضع لا يتناسب مع ما أصبحت عليه بلادنا من تطور في شتى المجالات وكثافة سكانية وقوة شرائية مع توافر الإمكانيات لدينا من مواد أولية وخلافه.
مما تقدم الإشارة إليه ولمعالجة هذا الأمر ولاحتواء هؤلاء الشباب الذين تجاوزت أعمار كثير منهم 35 عاماً في انتظار الوظيفة بصورة لم نسمع عنها في دول كثيرة عندما نُقارن أنفسنا بها وعدم إمكانية القطاع العام استيعابهم وتواضع القطاع الخاص لدينا، لماذا نظل نترجى الحل من داخل هذين الصندوقين ونحن نعلم عدم قدرتهما على استيعاب هذا الكم من الباحثين لدينا وما تضيفه السنون من مخرجات جديدة منهم بعشرات الآلاف..
بالإضافة إلى تقليص ولو نسبة من الوافدين لدينا وبالنظر إلى موقعنا الجغرافي كبلد تُحيط بنا دول جوار يتميز البعض منها بكثافة سكانية عالية (قوة استهلاكية) والبعض الآخر بقوة شرائية كبيرة، ما الذي يعوقنا أن نستثمر في طاقات شبابنا هؤلاء المعطلة ونستغل هذه الفرص لتدريبهم وتستثمر شركات أذرعنا الحكومية في مشاريع تعدينية وصناعية وبحرية كحلول ناجعة في هذا الجانب، وهذه مجرد فكرة خطرت لي (لست بمختص بهذا الشأن) وأنا بصدد كتابة هذا المقال وهناك الكثير منها يعلمه المختصون بهذا الجانب والمسؤولون عنه وفي مجالات عدة يمكن أن يخطط لها وتنفذ ولو تدريجيا لإيجاد فرص عمل لهم، أصبح الأمر يحتاج إلى مؤسسة أو مؤسسات حكومية على أعلى المستويات تقوم على ذلك، وهذا ما أصبح يؤكده الكثير من المسؤولين.
احتواء هؤلاء الشباب الباحثين أصبح ضرورة ملحة قبل أن نصل بهم لا سمح لمرحلة لا يحمد عقباها ـ ونحول بينهم وبين سلوك طرق أخرى مضطرين أو منقادين لها بسهولة نظرا لما يمرون به نتيجة هذه الحال التي أصبحوا عليها من أمور، لم تعد خافية على أحد منَّا نتائجها، فالشباب طاقة هائلة إذا لم تستوعب قد لا نستوعب نحن مالا يحمد عقباه منها .. كفانا دس الوجوه وعلينا مواجهة ذلك مواجهة جادة ولو اضطررنا إلى تسخير كافة إمكاناتنا وهي كثيرة والحمد لله وخلق حتى غير المتاح من الفرص لأجل مستقبلهم ومُستقبل عُمان في نهاية المطاف.
كانت أقل أمانينا في ثلاثة أشياء هي الوظيفة، الزواج، ومنزل الزوجية، فأين هم ولو من أي واحدة من هذه الأماني الطبيعية لأي شاب.
صحيح أن شبابنا خلوق وحيي وأثبت في السنوات الأخيرة صبرا يحسده عليه الآخرون ومحب لوطنه وسلطانه ولكن يفترض بنا نحن في المقابل أن نظهر لهم مسؤولياتنا تجاههم وأهمها إيجاد فرص العمل لهم ولو اختلاقا ولن نعذر في ذلك مهما كانت أسبابنا وأعذارنا، فبدونها لن يتحقق لأي منهم زواج ولا منزل، والزمن يسرق من جانبه أغلى سنوات أعمارهم وبالتالي لا حياة طبيعية لهم ستتحقق.
أليس بإمكان بلد تجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين ويتمتع بأرض مترامية الأطراف ومتنوعة الطبيعة والتضاريس غنية الموارد وتختزن ثروات من الطاقة والمعادن أن يستغل هذه الطاقة البشرية المؤهلة ولو بمجرد تفعيل هذه الثروات وخلق قيمة مضافة منها فقط والاستفادة من ذلك بإيجاد فرص العمل وبالتالي نستفيد منهم ونجعل منهم أداة وصناعاً للتنمية في بلادهم، خصوصا وأن نسبة أكثر من 90% من هؤلاء مؤهلون تأهيلا أكاديميا عالي المستوى وأن تدريبهم إذا لزم الأمر لتطويعهم للقيام بأي وظيفة عمل سيجد لديهم كل القبول، المهم بالنسبة لهم الآن أن يجدوا فرصة العمل وأصبحوا متلهفين إليها بعد كل هذه السنين من الحرمان منها وسيقبضون عليها حال توفرها بالنواجذ والأقدام، أليس هؤلاء هم من استثمرنا فيهم المليارات تعليما وتأهيلا، هل نكتفي الآن بهذا الحد الذي أوصلناهم إليه وتركهم نهباً للقلق والحسرة وفي النهاية الضياع، ذلك ليس من طبعنا ولا هذه شيمنا العمانية الأصيلة ولا مبادئنا.
وختاماً أناشد كل مسؤول في هذا البلد العزيز، سواء كان مسؤولا عن هذا الملف بصورة مباشرة أو غير مباشرة وجلهم من الجيل الثالث من أجيال نهضتنا الحديثة وأقول؛ هؤلاء أمانة لديكم ومسؤولية في أعناقكم ونحن معكم ومستعدون لشد الحزام أكثر مما هو مشدود في سبيل حل مشكلتهم (فهم بدورهم قد ضيقوا الحزام علينا نحن أولياء الأمور مكرهين لا أبطال، نحن الذين أصبح معظمنا متقاعدين وديون البنوك تثقل وتطوق أعناقنا ما خف منها وما ثقل ولازلنا نُعيلهم! "ضعف الطالب والمطلوب"، فقط أرونا فيهم بشارات خلق بيئات عمل وبإمكان بلدنا الكبيرة والتي لديها كل المقومات لذلك، وكل ذلك من منطلق بسيط جدا علينا الانطلاق منه ولطالما غرس فينا من ايام الصفوف الاولى لدراستنا ألا وهو أن الإنسان أداة التنمية وصانعها وحتى لا نحولهم نحن إلى عائق لهذه التنمية، هؤلاء هم الجيل الذي سيليكم في تحمل مسؤولية الوطن من أجيال النهضة فهل نرتضي ذلك لهم ولنهضتنا ولمستقبل عُماننا الحبيبة.
وفقنا الله جميعاً في ظل حكومتنا الرشيدة تحت قيادة سلطان التجديد السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- لأن نجتاز معاً هذه العقبة الكأداء التي أصبحت تقلق هؤلاء الباحثين من أبنائنا وتقلقنا معهم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
اسماء عبدالعظيم تكتب: «حين سبقنا التطوير.. ونسينا الإنسان»
في السنوات الأخيرة تغيّر شكل التعليم عندنا، تبدّلت المناهج، وتقدّمت التكنولوجيا، وظهر ما يسمّى بالمنظومة الحديثة، لكن شيئًا واحدًا لم يتغير… الإنسان. فالطفل الذي لم يُهَيّأ، والمعلم الذي لم يُدرَّب، ووليّ الأمر الذي فوجئ بما لا يفهمه، جميعهم وجدوا أنفسهم داخل تجربة أكبر منهم، تجربة تبدو متطورة على الورق لكنها متعبة على الأرض.
أردنا أن ندخل التعليم عصر الحداثة قبل أن نُدخل الإنسان نفسه في التجربة. أردنا أن نلحق بالعالم بينما نسينا أن الخطوة الأولى تبدأ من الداخل، من النفس، من التربية، من الوعي الذي يسبق كل تطور. وهكذا أصبح المشهد مضطربًا، كمن يبني بيتًا بأدوات ذهبية على أرض غير ممهدة… فيبدو البيت جديدًا، لكنه لا يصمد.
لم تكن المشكلة في الكتب ولا في الامتحانات ولا في شكل الفصول. المشكلة كانت في الفلسفة. يوم قررنا أن نغيّر طريقة التعليم بينما تركنا التربية تتآكل بصمت. المعلم الذي كان قدوة أصبح منهكًا، يواجه نظامًا لا يعرف كيف يحتويه. والطالب الذي كان يدخل المدرسة ليبحث عن معنى أصبح يدخلها ليواجه قلقًا لا يعرف سببه. ووليّ الأمر الذي كان سندًا أصبح يسير في طريق لا يرى بدايته ولا نهايته.
سقطت التربية قبل أن يسقط الدرس، وتاه التعليم لأنه فقد بوصلته. فما قيمة العلم إذا غابت عنه الروح؟ وما فائدة التطوير إذا دخل الطفل المدرسة حاملًا خوفًا بدلًا من شغف؟ وما جدوى المنظومة الحديثة إذا كان الإنسان القديم لم يُعَدّ لها بعد؟
التعليم ليس سباقًا في تغيير المناهج، ولا استعراضًا للأجهزة، ولا ضوءًا يلمع فوق منصة. التعليم هو الإنسان، وهو القلب الذي يحتضن الفكرة قبل أن تصل إلى العقل، وهو السلوك الذي يتربى قبل أن تُفتح أول صفحة في الكتاب. التعليم رحلة أخلاقية قبل أن يكون رحلة معرفية، وهو بناء للضمير قبل بناء الدروس.
إن خسارتنا الكبرى اليوم ليست في مستوى التحصيل ولا شكل الامتحان، بل في أننا نُخرج جيلًا يعرف الكثير ولا يشعر بشيء. جيلًا يحفظ المعلومات لكنه لا يعرف كيف يضعها داخل ضمير حي، ولا كيف يرى الإنسان قبل المادة، ولا كيف يفهم أن العلم رسالة وليس عبئًا.
وبداية الإصلاح لن تأتي من تعديل المناهج، بل من إعادة الروح إلى الإنسان نفسه: معلم يشعر بقيمته قبل أن يُطلب منه العطاء، وطفل يجد من يفهمه قبل أن يحاسبه، ووليّ أمر يعرف الطريق بدلًا من أن يسير فيه معصوب العينين. نريد مدرسة تُعيد تشكيل النفس قبل شرح الدرس، وتزرع الأخلاق قبل أن تقدّم المعلومة، وتُعيد للتربية مكانتها التي كانت أصل كل شيء.
وعندها فقط… حين يعود الإنسان إلى قلب العملية التعليمية، سيصبح الطريق واضحًا، وسيعود التعليم كما يجب أن يكون: بناءً للعقل، وتزكيةً للروح، وتأهيلًا لجيل يعرف أين يقف… وإلى أين يسير.