من النزوح إلى العالمية.. كيف حولت سوريات المحن إلى أمل وريادة؟
تاريخ النشر: 4th, August 2025 GMT
دمشق – دفعت النساء السوريات ثمنا باهظا جراء التداعيات الإنسانية والاقتصادية الهائلة للصراع في سوريا خلال 14 عاما. وغدت هذه الشريحة من بين الفئات الاجتماعية الأكثر تضررا بفعل الحرب؛ إذ فقدت الكثيرات أزواجهن أو المعيل الأساسي لأسرهن، ليجدن أنفسهن وحيدات في مواجهة مسؤوليات كبرى وسط واقع معيشي بالغ الصعوبة.
وبالرغم من قسوة الظروف وتعقيدات الواقع السوري آنذاك، تمكنت بعض النساء من تحويل المحنة إلى فرصة للاعتماد على الذات، فبدأن بإطلاق مشاريع صغيرة لتأمين لقمة العيش.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 25 أخطاء تطيح بقيمة التركات والشركات العائليةlist 2 of 24 إشارات على أنك تتحمل مخاطر استثمارية زائدة.. كيف تتصرف؟end of listغير أن هذه المبادرات ما لبثت أن تطورت بشكل لافت خلال الأشهر القليلة الماضية التي شهدت فيها البلاد تحولات سياسية واقتصادية جذرية عقب سقوط الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وتقف اليوم نساء سوريات على رأس مشاريع تجارية ناجحة، أثبتن من خلالها أن الإرادة الشخصية إذا ما اقترنت بمناخ إيجابي، يمكن أن تصنع فارقا حقيقيا.
وقد تحولت مشاريع بعضهن إلى نماذج ملهمة للتمكين، في بيئة لا تزال هشة، مع بداية مسار التعافي الذي تخوضه البلاد.
زراعة الأملكانت عائلة سميرة (51 عاما) من العائلات التي اضطرتها الحرب إلى النزوح من مخيم اليرموك جنوبي العاصمة دمشق، بعد المعارك العنيفة التي اندلعت بين جيش النظام المخلوع وفصائل المعارضة المسلحة عام 2012.
عملت سميرة، في السنوات التي سبقت نزوحها من المخيم، في مجال التجارة الحرة، وتمكنت من جمع رأس مال يكفي لتحقيق حلمها بإنشاء مطعمها الخاص، غير أن الحرب كانت كفيلة بإجهاض ذلك الحلم.
"شاءت الظروف أن أخسر منزلي وعملي وعائلتي، فُقد من فُقد في مخيم اليرموك، وهُجر كثيرون إلى أصقاع الأرض، فيما أُصبت أنا بمرض حال دون قدرتي على مزاولة العمل"، تقول سميرة للجزيرة نت.
وفي ذروة هذا الإحباط، تماثلت سميرة للشفاء، وقررت العودة إلى العمل لتوفير مقومات الحياة بعد النزوح، ولـ"زراعة الأمل" وتجاوز الإحساس بالعجز.
إعلانومن هنا جاءت فكرة "مطبخ ماما سميرة"، وسرعان ما تحولت إلى مشروع ناشئ بعد حصولها على منحة "زهيدة" من منظمة غير حكومية.
سر النجاحيُعد "مطبخ ماما سميرة" من المشاريع الصغيرة التي تقوم على فكرة الطهي المنزلي "بنفَس الأمهات المحِبات" لأشهى الأطباق السورية والشامية التقليدية.
ويعتمد المشروع على طلبات الزبائن عبر الهاتف أو من خلال تطبيق توصيل، ويستهدف أفرادا من مختلف الطبقات، مقدما أطباقا تناسب الموائد العائلية اليومية وموائد المناسبات في الأفراح والأتراح.
وتقدم سميرة، بمساعدة ابنتها، مجموعة كبيرة من المأكولات الشامية التي تتطلب خبرة واسعة في الطهي و"لمسة فنية تجعل هذه الأطباق جديرة بمنافسة المأكولات الغربية السريعة في السوق السورية"، بحسب تعبيرها.
ومن بين أشهر تلك الأطباق: المحاشي، "الضابط وعساكره" (أكلة مكونة من لحم الغنم واللبن)، الكبة بلبنية، المنسف الأردني، والكبسة السعودية، وغيرها من الأطباق التي تتطلب تحضيرا مسبقا ودقة في الإعداد.
أطلقت سميرة مشروعها عام 2022، لكنه شهد مؤخرا انتشارا واسعا، تعزوه سميرة إلى عدة عوامل.
"ربما المسألة مرتبطة بأسلوب الطبخ والمذاق، أو بكوني أما، ولذلك أطبخ للجميع بنفَس وعاطفة الأم"، تضيف سميرة.
وتولي المتحدثة اهتماما كبيرا بالتفاصيل البسيطة، وتعتبرها من العوامل الحاسمة في نجاح المشروع. فقد اعتنت بالهوية البصرية التي ساعدت على استقطاب الزبائن عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبطريقة تغليف الوجبات التي تحافظ على سخونة الطعام، كما تبنّت أساليب تسويقية تعتمد على مخاطبة الزبائن لا كعملاء، بل كأبناء يطلبون من أمهم أن تطهو لهم طبقا مشتهى.
وتضيف إلى ذلك البطاقات التذكارية المرفقة مع الوجبات، والتي تتضمن عبارات لطيفة تعكس هوية المشروع. بينما تركز سميرة على عامل أخير تعتبره حاسما في نجاح مشاريع الطعام، وهو "الكرم والكرم.. أن تكون الوجبات مشبعة".
وتختزل سر نجاح مشروعها في" الحفاظ على الطابع الحميمي للطبخ"، لكون المطبخ بالنسبة لها ليس مجرد مكان لإعداد الطعام، بل "مساحة للفن والتعبير عن الذات".
وواجه "مطبخ ماما سميرة" عددا من التحديات المرتبطة بواقع الخدمات المتردي، وارتفاع الأسعار، والانقطاع الطويل للكهرباء، مما كلّفها في بداية المشروع التخلص من كميات كبيرة من الطعام الذي فسد خارج البراد.
بصمة فريدةوأطلقت مجموعة من النساء السوريات النازحات من منطقة داريا بريف دمشق عام 2014 مشروع "سما للمشغولات اليدوية" بهدف تأمين مصدر دخل للعاملات فيه.
تقول عُلا الشيخ حسن، إحدى مؤسسات المشروع، إن الشرارة الأولى لـ"سما" انطلقت عندما جمع أحد المؤسسين تبرعات مالية لشراء أغطية وتوزيعها على مراكز إيواء النازحين.
بيد أن سيدة اقترحت شراء أقمشة وخيوط ومواد أولية لصناعة الأغطية يدويا بدلا من شرائها، وتوفير المال المتبقي للعاملات كأجر، وهو ما تم فعلا.
"من هنا جاءت فكرة سما لدعم السوريات وتمكينهن. كان المشروع في بدايته خجولا، وانطلق بمشغولات بسيطة: إكسسوارات وحقائب نسائية وشالات. ثم توسع ليشمل لاحقا الملابس، ويضم نساء خبيرات بفنون الكروشيه والخياطة والتطريز والنول"، تضيف علا في حديثها للجزيرة نت.
إعلانوتطور "سما" على مراحل، وانتقل من مشروع محدود يشمل بعض مدن ريف دمشق إلى مشروع تجاري متكامل يغطي كامل الجغرافيا السورية، وكان عماد هذا التطور خصوصية تصاميمه وفرادتها وارتباطها بالإرث الثقافي للمدن السورية.
وتقول علا إن لديها "تصاميم ديرانية مستوحاة من شجرة العنب التي تشتهر بها المدينة، وأخرى إدلبية من شجرة الزيتون، بالإضافة إلى تصاميم تدمُرية وشامية وغيرها، وكلها مستوحاة بعناية من الطابع المميز لتلك المدن".
وتشير علا إلى أن عددا من المصممين والمصممات الشباب السوريين شاركوا على مدى سنوات في تطوير هذه التصاميم لمنحها طابع الفرادة، إلى جانب إطلاق ورش تدريبية خرّجت نحو 200 فتاة في المشغولات اليدوية خلال السنوات الـ11 الماضية.
نحو العالميةشهد مشروع "سما" تحولا مفصليا عام 2017، مع انتقاله إلى السوق العالمية بعد ترخيصه في الولايات المتحدة، وتوسعه بافتتاح مستودعين خارجيين في كل من أميركا وألمانيا.
وتزامن هذا التوسع مع تشكيل فريق إداري خارج البلاد يتكامل في عمله مع الورشات والإدارة الداخلية في سوريا.
وتربط علا هذا النجاح بالدعم المجتمعي والتطوع الذي أحاط بـ"سما" منذ انطلاقته، فـ"قصة نجاح سما هي باختصار جهد جماعي جبار مقرون بتعاطف ومساندة الناس"، في إشارة إلى من ساهموا في بيع المنتجات خلال الفعاليات المختلفة، تسرد علا.
لكن المشروع واجه تحديات عديدة قبل أن يحقق هذا النجاح، بدءا من تداعيات الحرب المستمرة، وصعوبة تأمين المواد الأولية، وصولا إلى العقبات اللوجستية والأمنية، لا سيما في ظل ملاحقات النظام السابق للعاملات في المشروع.
وقد وضعت هذه الملاحقات فريق "سما" في دائرة الخطر، حيث تعرضت السيدات العاملات للمساءلة والاتهام الجماعي بسبب الثورة.
"هؤلاء السيدات كن متهمات بشكل جماعي"، تتابع علا.
ومع سقوط نظام بشار الأسد المخلوع في ديسمبر/كانون الماضي، زال عبء ثقيل عن كاهل تلك السيدات، فعُدن إلى مدينتهن داريا، وأعلنّ من هناك، بخطوة رمزية، إعادة افتتاح مشغل وورشة "سما" من قلب المدينة التي هجّرهن النظام منها قبل سنوات.
وتؤكد علا أن الفريق يطمح حاليا إلى افتتاح مستودعات جديدة وتوسيع نشاطه التجاري ليشمل دولا أخرى، لا سيما في ظل رفع العقوبات والانفتاح الاقتصادي الذي تشهده سوريا مؤخرا.
وإلى جانب "مطبخ ماما سميرة" و"سما للمشغولات اليدوية"، انطلقت في الآونة الأخيرة مشاريع نسائية عدة في سوريا، اتخذت من الطابع الفني والحرَفي هوية لها، مثل الرسم اليدوي على الملابس، والتزيين، وتصميم الديكورات، والمشغولات اليدوية.
وبدأ أغلب هذه المبادرات من المنازل وبتمويل ذاتي، قبل أن تجد لها موطئ قدم عبر منصات التواصل الاجتماعي، محققة انتشارا ملحوظا في وقت قياسي.
ومثلت التحولات الاقتصادية والسياسية التي شهدتها سوريا مؤخرا فرصة حقيقية لصاحبات المشاريع الصغيرة، بعد سنوات من التضييق وارتفاع الأسعار وصعوبة استيراد المواد الأولية، وهي تحديات بدأت بالتراجع مع تحسن سعر صرف الليرة، وعودة حركة السوق، وفتح نوافذ جديدة أمام النساء السوريات لريادة مشاريعهن الخاصة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات ريادة
إقرأ أيضاً:
شاهد.. أحلام أطفال غزة يختزلها بيت ولقمة خبز
غزة- وسط خيام النزوح وتفاقم المجاعة التي تضرب قطاع غزة، تلاشت أحلام الطفولة البريئة لتحل محلها أمنيات مؤلمة في بساطتها، لم تعد تتعلق بالألعاب أو العودة إلى المدارس، بل بالحصول على لقمة تسد الرمق.
في هذا التقرير المصور، يعبر أطفال غزة عن أمانيهم البسيطة التي تتمحور حول الطعام، وخصوصا الخبز، بعدما غاب عن موائدهم. ويقولون إن الجوع يمنعهم من النوم، وإن الدوار والإعياء يلاحقهم عند محاولة اللعب بسبب ضعف أجسادهم، فيما يتمنون العودة لتناول الحليب والفاكهة واللحوم كما كان في السابق.
ويحلم هؤلاء الصغار بانتهاء رحلة النزوح القاسية، والعودة إلى منازلهم المدمرة بدل البقاء في خيام تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.
ويعكس هذا التقرير الميداني حجم المأساة التي تطحن طفولة غزة، إذ بات الأطفال، الذين يفترض أن ينشغلوا بالأحلام والمستقبل، يخوضون يوميا معركة ضد الجوع والمرض والدوار في بيئة غير صحية نفسيا وجسديا.