مصطلح "هندسة التجويع" بات يتردد في وسائل الإعلام مؤخرا، فماذا يعني؟ وهل يمكن فعلا "هندسة" عملية تجويع شعب بأكمله؟!
ببساطة، "الهندسة" تعني التخطيط الممنهج، والإدارة المنظمة، وهذا بالضبط ما تقوم به إسرائيل بحق قطاع غزة. فما نراه من فرض حصار شامل، وإغلاق للمعابر، ومنع دخول المساعدات الإغاثية والغذائية، أو السماح المحدود بها وفق شروط تعجيزية، ليس مجرد قرارات عشوائية، بل سياسات مدروسة بعناية، ولها أهداف واضحة ومحددة.
الاحتلال يتعمد تشديد الحصار ومنع دخول حتى أبسط أشكال الغذاء، بما في ذلك رغيف الخبز أو حبة القمح. قادة إسرائيل أعلنوا ذلك صراحة، دون خوف أو محاسبة، مستندين إلى حصانة دولية تمنحهم الضوء الأخضر ليقتلوا ويجوعوا ويبيدوا.
حين تبدأ المواد الغذائية بالنفاد، يبدأ الجوع في قضم أرواح الأطفال والنساء وكبار السن. أجسادهم الهزيلة لا تقوى على الصمود، وتموت في صمت، ومع تصاعد ضغوط دولية خجولة، يُسمح بإدخال كمية محدودة من المساعدات لا تكفي لسد رمق الجائعين، لكنها كافية لتبرير وجود "إغاثة إنسانية" أمام الكاميرات.
حملة دعائيةومع كل شاحنة، تنطلق حملة دعائية تُضخم وصول المساعدات، كأن المجاعة انتهت! تتسابق وسائل إعلام أجنبية- ممنوعة أصلا من دخول غزة- لنقل رواية الاحتلال، في حين يتم منع الصحفيين الفلسطينيين أو تجاهل تقاريرهم، حتى وهم ينهارون على الهواء من شدة الجوع، ومعهم صور آلاف الأطفال المرضى والمجوعين، المنتظرين الموت بصمت، حتى لا يزعجوا العالم بأنينهم.
الاحتلال لا يسمح بدخول ما يسد حاجة السكان، بل يبقيهم دائما على "حافة المجاعة"، دون تخطي العتبة التي تحرك القانون الدولي.
مرحلة جديدةلكن المأساة لا تنتهي هنا.
ما إن تدخل الشاحنات، تبدأ مرحلة جديدة من هندسة التجويع:
لا تُوفر حماية للمواد الغذائية، لا من الشرطة ولا من المؤسسات والعشائر، الشاحنات تُجبر على السير في مسارات محددة تحت تهديد السلاح، مرورا بين الدبابات الإسرائيلية. وفي نقاط معينة- قريبة جدا من مواقع الاحتلال- يُمنع السائق من التقدم، ويُترك كل شيء هناك.
ثم تبدأ "المعركة"عصابات مسلحة- صنعها الاحتلال في الحرب- تهاجم القوافل، تسطو على المساعدات، تمنع المدنيين من الاقتراب. من يحاول، يُقتل أو يُسلب. كل شيء يُنهب أمام أعين الجائعين الذين لا حول لهم ولا قوة، بينما تعجز المؤسسات الدولية عن الوصول للمخازن أو التوزيع الآمن.
إعلانتُباع المواد المسروقة في الأسواق بأسعار خيالية، تضاعف من قهر الناس. أصبح كيلو الطحين يباع بأكثر مما كان يباع به كيس كامل قبل الحرب. المجاعة هنا لم تَعُد غيابا للغذاء فقط، بل إذلالا وابتزازا ممنهجا.
في المقابل، يسمح الاحتلال بدخول شاحنات خاصة بتجار من غزة، بعد "تنسيق" مباشر مقابل مبالغ طائلة. هذه الشاحنات لا تُهاجَم، لأنها مؤمنة من مسلحين بعلم ورضا جيش الاحتلال، الذي يريد إرسال رسائل سياسية أكثر مما يسعى لحل أزمة.
ما يُسمح بإدخاله في هذه الحالة ليس الدواء أو الخبز، بل كميات صغيرة من الفواكه والمسليات وغيرها، ثم تُلتقط لها صور تُنشر عبر الإعلام الإسرائيلي ووكالات أجنبية لتكذب الحديث عن المجاعة: "انظروا! هل من مجاعة وهناك فراولة في غزة؟"
إنها ليست تجارة.. إنها سياسةيُستخدم التجويع كأداة لكسر الناس من الداخل، وتفكيك الحاضنة الاجتماعية، ودفعهم نحو الانهيار الكامل، بهدف الضغط سياسيا وإنسانيا لتقديم التنازلات، على حساب الأرض والكرامة والحق في الحياة.
هندسة التجويع ليست مصادفة، بل جريمة منظمة تُدار بعقل بارد، وتنفذ بأدوات الحرب والبيروقراطية والدعاية. إنها سلاح صامت، لكنه فتاك، يُستخدم لإخضاع غزة وإبادة ما تبقى من مقاومتها الإنسانية.
وهذه السياسات، بحسب القانون الدولي، تصنف كجرائم حرب وجريمة إبادة جماعية، لأنها تستهدف المدنيين بحرمانهم من الغذاء، وهو حق إنساني أساسي لا يجوز التلاعب به تحت أي ظرف.
المطلوب حالياالدور المطلوب حاليا وبدون تأخير من أصحاب الضمائر، استمرار العمل على إرسال المواد الغذائية والإنسانية لإنقاذ حياة الناس في غزة بطرق أخلاقية متميزة تحفظ كرامة المواطنين، واستمرار الضغط الشعبي المحلي والعربي والإسلامي والدولي لإنهاء الحصار والتجويع الممنهج الذي يمارسه جيش الاحتلال الإسرائيلي.
يجب أيضا أن يكون الإعلام العربي والإسلامي والدولي قويا في طرح وتأدية رسالته المهنية والأخلاقية بكل أمانة، وتفنيد محاولات التضليل الإعلامي الممنهج الذي يمارسه الاحتلال وإدارته السياسية.
داخليا وفي غزة، من المهم رغم كل ذلك، أن تتواصل مساعي التوعية الداخلية بالمحافظة على السلامة والأمن العام والمساعدة في تأمين سلامة وصول المساعدات إلى مراكز توزيع آمنة تضمن نوعا من عدالة التوزيع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الهلال الأحمر المصري يشرف على عملية تنظيم الشاحنات قبل دخولها لغزة
أكد كريم رجب، مراسل قناة إكسترا نيوز، أن مئات الشاحنات المحمّلة بالمساعدات الإنسانية تقف حاليًا أمام معبر رفح البري من الجانب المصري، استعدادًا للانطلاق نحو الفلسطينيين في قطاع غزة، وأن هذه القوافل تتضمن شحنات كبيرة من المواد الغذائية مثل الطحين والأرز، إلى جانب مواد بترولية وغاز الطهي اللازم لإعداد الوجبات الساخنة وتشغيل المنشآت الحيوية داخل القطاع.
وأضاف رجب، خلال مداخلة عبر الهواء، أن فرق الهلال الأحمر المصري تشرف على عملية تنظيم الشاحنات وتجهيزها، بعد أن أنهت فرق أخرى عمليات التعبئة والتغليف داخل المخازن المصرية تمهيدًا للدفع بها إلى منفذي كرم أبو سالم والعوجا.
ولفت إلى أن هذه الجهود تأتي في إطار حرص مصر المتواصل على دعم الفلسطينيين وتخفيف معاناتهم، خاصة في ظل النقص الحاد في المواد الغذائية والبترولية خلال العامين الماضيين.
وأشار كريم رجب إلى أن برنامج الأغذية العالمي أعلن عن تشغيل عدد من المخابز في غزة، ستعمل باستخدام شحنات الطحين والوقود المصري لتلبية احتياجات المواطنين من الخبز. وأكد أن وفرة هذه السلع في الأسواق الغزية ستنعكس إيجابيًا على الأسعار، وتحدّ من التضخم الذي تفاقم خلال السنوات الأخيرة بسبب الحصار الإسرائيلي ومنع دخول المساعدات لفترات طويلة.
وأضاف المراسل أن الضغط المصري المستمر أسفر عن تسريع وتيرة دخول القوافل الإنسانية، خصوصًا بعد اتفاق السلام الأخير في شرم الشيخ، الذي نص على ضرورة إدخال كميات كبيرة من المساعدات بشكل يومي، وأن المستهدف حاليًا هو عبور نحو 400 شاحنة يوميًا عبر معبري كرم أبو سالم والعوجا، غير أن العدد الفعلي يعتمد على الإجراءات التي تفرضها سلطات الاحتلال، والتي غالبًا ما تؤدي إلى تأخير دخول المساعدات أو عودة بعضها دون تفريغ حمولتها بسبب بطء الفحص الأمني ومحدودية ساعات العمل على المعابر.
وأكد رجب أن القيود الإسرائيلية لا تزال تعرقل انسيابية تدفق المساعدات، سواء كانت غذائية أو طبية أو إغاثية، مشددًا على أن مصر تواصل التنسيق مع المنظمات الدولية والجانب الفلسطيني لضمان وصول الدعم الإنساني إلى مستحقيه في أقرب وقت ممكن.
اقرأ أيضاًوزير الإسكان الفلسطيني: نرحب بالمؤتمر الدولي لإعمار غزة الذي تنظمه مصر
حماس تعلن تسليم رفات رهينتين في غزة إلى إسرائيل مساء اليوم