الحديدة.. مدينة تذكُر أنها كانت شيئاً ما
تاريخ النشر: 7th, August 2025 GMT
في بلادٍ يشكّ الناس في كل شيء إلا الخراب، لم تُصب الحديدة بالشيخوخة الطبيعية، بل أُسقِطت عليها السنين دفعةً واحدة، كما تُرمى بقايا الولائم في البحر. مدينة وُلدت مرفأً، وحلمت أن تكون حاضرةً بحرية، فانتهى بها الحال عشةً مهترئة تُطِل على البحر، لكن لا تراه.
ولدت الحديدة لا كمدينة، بل كخطأ طباعي في رواية تاريخية مشوشة.
وُلدت مرفأً، لكنها لم تغادر المهد يوماً. بقيت هناك، تتأمل السفن تمر، كما يتأمل العاطل عن العمل اعلانات التوظيف.
من أيام المخا العثمانية حتى بهرجات التحديث الوهمية، تسير الحديدة بقدم واحدة، وتُزلق الأخرى في وحل الجغرافيا. أعطوها لقب العاصمة العثمانية (1849 – 1873)، فاحتفلت ثم تخلّت عنه سريعاً، كفتاة أُلبست فستان زفاف مُستعار، ثم عادت إلى المطبخ قبل نهاية العُرس.
ولأن قناة السويس غيّرت قواعد اللعب، تحوّلت الحديدة إلى ممر دولي للغزاة الجدد. لم تأتِ الإمبراطوريات لتبني فيها شيئاً، بل جاءت لتجرب عليها هواياتها العسكرية.
ومن سوء طالعها أنها وقفت على البحر، لا على نبع نفط. ولهذا لم تأتِ القوى الدولية لتصنع فيها مدينة، بل لتقصف ما تبقّى منها. العثمانيون، البرتغاليون، الإسبان، الطائرات الإيطالية، والبريطانية، والحريق العظيم 1961. الى عاصفة الحزم، وعمليات حارس الازدهار والذراع الممدودة.
هذه المدينة جُرّبت بكل طرق الإهانة الدولية تقريباً، إلا الزلزال، وربما هو في الطريق، لكن يبدو أن الطبيعة في طريقها لتجريب آخر أوراقها.
هنا "حارة السور" الإسم وحده كافٍ لتذكيرك أنك في مدينة تعرف أنها كانت عظيمة، ولكنها تنسى التفاصيل عمداً. الحارة التي كانت يوماً محاطة بسور له أربعة أبواب – باب مشرف، باب النخيل، باب اليمن، باب الستر – تحوّلت إلى متاهة لا سور لها.
بول إميل بوتا ذلك العالِم الفرنسي ذو المزاج اللاتيني، كتب ببهجة عام 1836: "شوارع الحديدة أنظف من شوارع القاهرة"، وأشاد بعمارتها التي كانت تلمع تحت الشمس، وكأن البحر ذاته كان ينحني احتراماً. كان ذلك قبل اختراع البلاستيك، وقبل أن تصبح الأكياس السوداء وسائد نوم لكائنات بلا مأوى.
المباني التي لا تزال صامدة، من الطوب الأحمر المحروق، تقف كحُفَرٍ معمارية في جسد الزمن، تذكّرنا أننا ذات مرة عرفنا معنى المشربيات، والسقوف المنقوشة التي تتدلّى منها بقايا أناقة سابقة، قبل أن يُغشى البصر بالإسمنت والقمامة.
هذه المدينة لا تُهدم فقط، بل تُستبدل بنُسخ رديئة عنها، في كل زاوية، تتناسخ في صور أكثر قبحاً، كأنها تُمارس نوعاً من إعادة التدوير المَرَضي للخيبة.
في الرصيف البحري، حيث كانت السفن تفرغ شحناتها على ظهور الرجال لا الرافعات، تبدو الحديدة تمثيلًا حيّاً لعصرٍ تجاوزها بنيةً ومعنى.
جاء المخرج السوفياتي فلاديمير شنايدروف عام 1929، التقط صوراً، صنع فيلماً، وكتب كتاباً، ثم عاد إلى بلاده تاركاً خلفه مدينةً لم تَعِ بعد أنها بدأت الغرق. أما نحن، فأصدرنا فيلماً واحداً: فيلم طويل، ممل، بلا نهاية... اسمه "النسيان".
قلعة المدينة، التي بُنيت حامية، تحوّلت إلى سجن. تماماً كما تحوّلت الثورات إلى جنازات، والوعود إلى نشرات، والسياسة إلى دعابة حزينة. القلعة لا تحمي أحداً، بل تُذكّرك أن السجن في اليمن غالباً ما يكون أعلى نقطة في المدينة.
أما الشيخ صديق "الشاذلي"، الذي قيل إنه "حامي الحديدة"، فقد دُفن خارجها. من باب الحذر ربما، أو لأنه أدرك أن من يحمي هذه المدينة سينتهي حتماً مدفوناً بعيداً عنها.
الحديدة مدينة أُشبعت بالقصف، هي الميناء الذي صار إشاعة. ذاكرة نصفها محو، ونصفها الآخر صدى لما كان. وعلى الرصيف، يجلس البحر، يتأمل المدينة... ويتساءل إن كانت لا تزال تعرف الفرق بين الزرقة والندم.
إنها مدينة تكتب التاريخ بالماضي التام، وتعيش الحاضر بالمجهول المستمر. كأنها تتقن فنون الانقراض البطيء، وتُجيد استقبال الزوار بالمقابر المفتوحة، والخرائط المطوية، والبحر الذي لا يعود.
*نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك.
المصدر: الموقع بوست
كلمات دلالية: الحديدة مدينة الحديدة ميناء الحديدة تاريخ الحديدة تاريخ تهامة
إقرأ أيضاً:
ولايتي:جلسة البرلمان برئاستي كانت صحيحة
آخر تحديث: 7 غشت 2025 - 10:29 ص بغداد/ شبكة أخبار العراق- أكد النائب الأول لرئيس مجلس النواب العراقي، محسن ولايتي، أن إجراءات انعقاد جلسة البرلمان ليوم الثلاثاء الماضي وقراراتها المتخذة صحيحة وقانونية وفقا للنظام الداخلي للمجلس.وذكر المكتب الاعلامي للنائب الاول في بيان ، أن “المندلاوي أكد بشأن إجراءات انعقاد جلسة البرلمان ليوم الثلاثاء الماضي و قراراتها المتخذة صحيحة وقانونية وفقا للنظام الداخلي للمجلس”، مبينا ان “رفع الجلسة لا يجوز إلا بتشاور رئيس المجلس مع أحد نائبيه وليس قرارا انفرادي وفقا للنظام الداخلي”.وطالب المندلاوي بضرورة الاستعانة بالقضاء فهو الحكم بصحتها او بطلانها.وأشار البيان الى ان”انعقاد الجلسة تم وفق المادة (35/أولاً/أ) من النظام الداخلي للمجلس، والتي تخوله إدارة الجلسات في حال غياب الرئيس أو تعذر قيامه بمهامه، مشيراً إلى أن مغادرة المشهداني قاعة الجلسة كانت مخالفة للمادة (24) من النظام الداخلي، كما أن تأخر الجلسة لأكثر من ثلاث ساعات دفع إلى تفعيل المواد (23 و24) لضمان انعقادها بشكل قانوني”.وبحسب البيان، فقد تحقق النصاب بحضور 169 نائباً، وفقاً لاستمارة دائرة العلاقات العامة والمراسم النيابية الموقعة من مقرر المجلس، ما يؤكد صحة الإجراءات والقرارات الصادرة ضمن الجلسة رقم (4).وتطرق البيان أيضاً إلى الآليات التنظيمية المعتمدة للاعتراض داخل الجلسات، موضحاً أن أحكام المواد (11/ثالثاً)، (27)، و(42) تتيح للنواب، بمن فيهم رئيس المجلس، تقديم اعتراضات بـ”نقطة نظام” في حال مخالفة الدستور أو جدول الأعمال.