معارضة فرنسية:

مستقبل العلاقات الأمريكية الأوروبية عقب اتفاق التعريفات الجمركية

 

 

 

توصلت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، والرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في 27 يوليو 2025، إلى اتفاق إطاري بشأن التعريفات الجمركية والتجارة بين الجانبين؛ حيث تم الاتفاق على المعايير الرئيسة للعلاقات التجارية بين واشنطن وبروكسل، مع تحديد تعريفة جمركية أمريكية، بنسبة 15%، على غالبية صادرات الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة.

وتُعد التعريفات الجديدة أعلى من نسبة الـ10%، المطبقة حالياً على معظم السلع الأوروبية منذ إبريل الماضي؛ ولكنها أقل من نسبة الـ30%، التي هدد ترامب بفرضها على الكتلة الأوروبية، قبل أيام قليلة من الاتفاق، ويتوقع أن تشهد الأسابيع المقبلة مزيداً من المفاوضات بين واشنطن وبروكسل لصياغة تفاصيل الاتفاق التجاري الجديد.

اتفاق جديد للتعريفات الجمركية:

بعد عدة أشهر من حالة عدم اليقين وتصاعد حدة الخطاب، توصل الاتحاد الأوروبي لاتفاق جديد مع الولايات المتحدة، بعد مباحثات جرت بين الجانبين في اسكتلندا، بشأن المعايير الرئيسة للعلاقات التجارية بينهما، ويمكن عرض أبعاد هذا الاتفاق الجديد على النحو التالي:

1- سقف جديد للتعريفات الجمركية الأمريكية على بروكسل: تضمن الاتفاق التجاري الأمريكي الأوروبي الجديد تحديد سقف للتعريفات الجمركية الأمريكية على دول الاتحاد الأوروبي، بنسبة 15%؛ حيث يفترض أن تبدأ الولايات المتحدة، بدءاً من مطلع أغسطس 2025، في تطبيق هذه التعريفات الجمركية على 70% من صادرات الاتحاد الأوروبي إلى واشنطن، بما في ذلك السيارات، التي تخضع حالياً لتعريفات جمركية تصل لـ27.5%. في المقابل، سيلتزم الاتحاد الأوروبي، بموجب الاتفاق الجديد، بإلغاء التعريفات الجمركية القطاعية الحالية، لا سيما الرسوم الجمركية، على واردات السيارات البالغة 10%. في المقابل، ستبقى التعريفات القطاعية على الصلب والألومونيوم والنحاس من دون تغيير؛ حيث سيواصل الاتحاد الأوروبي دفع رسوم بنسبة 50%، مع توقع بإجراء مزيد من المفاوضات للإبقاء على نظام الحصص فيما يتعلق بهذه السلع.

2- غموض بشأن صناعة الأدوية: أثارت تصريحات ترامب وفون دير لاين حالة من الغموض بشأن تأثير الصفقة التجارية الجديدة في صناعة الأدوية، فبينما أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أن الصفقة الجديدة بين بروكسل وواشنطن لا تشمل الأدوية؛ فإن رئيسة المفوضية الأوروبية أكدت أن صناعة الأدوية ضمن الاتفاق، وأن الأدوية سيتم فرض رسوم جمركية عليها بنسبة 15% أيضاً، مع إعفاء بعض الأدوية من التعريفات الجمركية.

3- إعفاء كامل ومتبادل على بعض المنتجات الاستراتيجية: سيمنح الاتفاق الجديد بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معاملة خاصة لعدد من المنتجات الاستراتيجية؛ إذ يتضمن الاتفاق إعفاءً كاملاً من الرسوم الجمركية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على كافة الطائرات وقطع غيارها، وبعض المواد الكيميائية وبعض الأدوية الأساسية، بالإضافة لعدد من المنتجات الزراعية ومعدات تصنيع أشباه الموصلات.

وفي هذا السياق، سيعمل الاتحاد الأوروبي على إلغاء الرسوم الجمركية، المنخفضة بالفعل، على السلع الصناعية القادمة من الولايات المتحدة، مع إتاحة السوق الأوروبي لكميات محدودة من منتجات مصايد الأسماك الأمريكية، بالإضافة لتحسين فرص وصول بعض الصادرات الزراعية الأمريكية، كزيت فول الصويا وبذور الزراعة والحبوب، بالإضافة للمواد الغذائية المصنعة كالكاكاو، إلى أسواق الاتحاد الأوروبي.

4- استثمارات أوروبية هائلة في السوق الأمريكي: يتجه الاتحاد الأوروبي إلى شراء منتجات الغاز الطبيعي المسال والنفط والطاقة النووية الأمريكية، بقيمة 750 مليار دولار، خلال السنوات الثلاث المقبلة؛ ما يعني شراء بروكسل لمنتجات الطاقة الأمريكية بقيمة 250 مليار دولار سنوياً، مقابل 70 مليار دولار حالياً، وذلك لدعم جهود الاتحاد الأوروبي لاستبدال النفط والغاز الروسيين في السوق الأوروبية. كما يعتزم الاتحاد الأوروبي، بموجب الاتفاق الجديد، شراء رقائق ذكاء اصطناعي، بقيمة 40 مليار يورو، من الولايات المتحدة، وكمية غير محددة من المعدات العسكرية الأمريكية، بالإضافة إلى ضخ استثمارات أوروبية، بنحو 600 مليار دولار، في العديد من القطاعات الأمريكية، بحلول عام 2029.

 

مواقف أوروبية متباينة:

تباينت ردود الأفعال الأوروبية إزاء الاتفاق التجاري الأخير بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فبينما اعتبره البعض إنجازاً لتجنب حرب تجارية مفتوحة مع واشنطن، وأعلن دعمه للاتفاق، عبرت بعض الدول عن اعتراضها على بنود الصفقة الأمريكية الأوروبية الجديدة. وفي هذا السياق، يمكن عرض أبعاد الموقف الأوروبي إزاء الاتفاق التجاري الجديد بين بروكسل وواشنطن على النحو التالي:

1- انقسام ألماني إزاء الاتفاق: فبينما رحب المستشار الألماني، فريدريش ميرز، بالاتفاق، معتبراً أنه سيجنب بلاده صراعاً تجارياً مع الولايات المتحدة، كان سيلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الألماني، الذي يعتمد بدرجة كبيرة على التصدير، لا سيما قطاع السيارات. فإن بعض أعضاء البرلمان الألماني، وعدداً من الأحزاب الألمانية، عبروا عن اعتراضهم على الاتفاق، باعتباره يضر بالمصالح الأوروبية لصالح الولايات المتحدة.

2- دعم إيطالي للصفقة: أعربت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، عن دعمها للاتفاق الأخير الذي أبرمته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مشيرةً إلى أنه يشكل خطوة مهمة لتجنب عواقب خطرة كانت ربما تتمخض عن أي تصعيد في المواجهات التجارية. ويتسق الموقف الإيطالي مع بعض الدول الأوروبية، خاصةً تلك الأقل تأثراً بهذا الاتفاق، والتي تستهدف تعزيز التقارب مع الولايات المتحدة؛ ومن ثم المبادرة للإعلان عن دعم الصفقة التجارية الجديدة مع واشنطن.

3- معارضة فرنسية حادة: في المقابل، اعتبر رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، أن الاتحاد الأوروبي قد استسلم من خلال الاتفاق التجاري الجديد لتهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية متزايدة، واصفاً الاتفاق بـ”اليوم المظلم” في تاريخ الاتحاد الأوروبي. كذلك، أعلن وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي، بنيامين حداد، أن هذا الاتفاق غير مرضٍ، مطالباً الاتحاد الأوروبي بمواجهة مساعي الإكراه التي تنتهجها الولايات المتحدة. وعلى المنوال ذاته، انتقد وزير التجارة الفرنسي، لوران سان مارتن، تعامل الاتحاد الأوروبي مع المفاوضات، منتقداً موقف الاتحاد الأوروبي في مواجهة التصعيد التجاري الأمريكي.

وعلى المنوال ذاته، عبرت المجر عن اعتراضها على الاتفاق التجاري الجديد مع الولايات المتحدة، فقد انتقد رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الصفقة التجارية الجديدة بين بروكسل وواشنطن، باعتبارها خسارة كبيرة للاتحاد الأوروبي في مواجهة الولايات المتحدة.

ويرتبط الموقف الفرنسي الراهن إزاء الاتفاق التجاري مع الولايات المتحدة بفكرة الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، والتي لطالما روج لها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فضلاً عن هدف باريس لتعزيز موقفها كقائد داخل الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن تطلعات باريس إلى توجيه الدول الأوروبية بشكل أكبر ناحية السوق الفرنسية.

وقد أثارت العديد من التقارير تساؤلات تتعلق بمدى قدرة باريس على تعطيل الصفقة التجارية الأخيرة بين واشنطن وبروكسل، بيد أن ثمة تقديرات شككت في مدى قدرة فرنسا على تحقيق هذا الأمر، لا سيما في ظل الانقسامات الأوروبية الداخلية، وعدم استعداد غالبية الدول الأوروبية لاتخاذ موقف معارض للولايات المتحدة في الوقت الراهن، ناهيك عن تمتع المفوضية الأوروبية بصلاحيات واسعة تتعلق برسم السياسات وتوقيع الاتفاقيات التجارية.

4- صفقة غير متكافئة لكنها ضرورية: هناك عدد من الدول داخل الاتحاد الأوروبي، على غرار هولندا وبلجيكا وفنلندا وإسبانيا ورومانيا والسويد، تنظر لهذه الصفقة باعتبارها غير متكافئة؛ لأنها تخدم بشكل رئيس المصالح الأمريكية على حساب الأوروبية؛ لكنها في الوقت ذاته ترى أن هذه الصفقة ضرورية لتجنب فرض رسوم جمركية أكبر من قبل إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والحيلولة دون الدخول في حرب تجارية غير محسوبة مع الولايات المتحدة.

الرابحون والخاسرون:

رغم وصف الاتفاق التجاري الذي تم الإعلان عنه مؤخراً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنه صفقة تاريخية بين الجانبين؛ فإنه يبقى، حتى الآن، مجرد إطار لاتفاق تجاري مرتقب بينهما، وليس صفقة تجارية كاملة؛ إذ لا تزال التفاصيل الكاملة بخصوص هذه الصفقة غير واضحة، كما أنه لم يتم حتى الآن الانتهاء من كتابة البنود الكاملة لهذا الاتفاق، غير أن الأرقام الرئيسة التي تم الإعلان عنها من قبل ترامب وفون دير لاين تقدم مؤشرات بشأن القطاعات والمجموعات التي قد تتضرر بشدة، وتلك التي ستحقق أكبر قدر من المكاسب من هذه الصفقة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- نجاح ترامب في إبرام أكبر صفقة تجارية: يبدو الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من بين أكبر الرابحين من الصفقة الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي؛ وهو ما ينعكس في الترويج الراهن لهذه الصفقة باعتبارها إنجازاً تاريخياً لترامب، خاصةً وأن الأخير كان قد تعهد بإبرام صفقات تجارية جديدة مع العديد من الدول؛ ومن ثم يشكل الاتفاق الأخير الذي أبرمته الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي أكبر هذه الصفقات على الإطلاق، في ظل حجم الاقتصاد الأوروبي، رغم أن هذه الصفقة تشبه في كثير من البنود الاتفاق الأخير الذي أبرمته إدارة ترامب مع اليابان، فقد أبرمت الولايات المتحدة خلال الأسابيع الأخيرة اتفاقيات تجارية مع المملكة المتحدة وفيتنام والفلبين وإندونيسيا واليابان. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي عمد إلى تقديم كثير من التنازلات التجارية لإدارة ترامب، خاصةً بعدما هدد ترامب، قبل أيام قليلة من الاتفاق، بفرض رسوم جمركية بنسبة 30% على الاتحاد الأوروبي.

2- خسارة المستهلكين الأمريكيين: على الرغم من المكاسب التي ربما يحققها الاقتصاد الأمريكي من الاتفاق الأخير مع الاتحاد الأوروبي؛ فإن ثمة تقديرات غربية تشير إلى أن الخطوات المتسارعة التي يتخذها ترامب لإعادة تشكيل الاقتصاد الأمريكي ربما تأتي بنتائج عكسية؛ وهو ما ينعكس في المؤشرات المرتبطة بمعدلات التضخم والوظائف وثقة المستهلك الأمريكي؛ حيث يشعر المستهلكون الأمريكيون بالاستياء بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، ويتوقع أن تؤدي هذه الصفقة إلى زيادة الأعباء على هؤلاء المستهلكين، وذلك بسبب رفع أسعار السلع القادمة من الاتحاد الأوروبي. فرغم أن معدل التعريفة الجمركية الأمريكية الجديدة، بنسبة 15%، يبدو أقل من الرسوم السابقة التي كان قد فرضها ترامب على بروكسل في إبريل الماضي، بنسبة 20%؛ فإن هذه النسبة الجديدة لا تزال كبيرة مقارنة بفترة ما قبل ترامب؛ ما يعني مزيداً من الضغوط على المستهلكين الأمريكيين.

3- تفاقم الانقسامات الأوروبية: تشير بعض التقديرات إلى أن الصفقة الجديدة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ستكون لها تأثيرات سلبية في التضامن الأوروبي، خاصةً في ظل المواقف المتباينة لدول الاتحاد الأوروبي إزاء الاتفاقية؛ حيث إن المصالح المختلفة لهذه الدول، ناهيك عن اختلاف مستويات اعتمادها على تصدير السلع إلى الولايات المتحدة، ربما تؤدي إلى إنزعاج بعض الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا، من هذا الاتفاق؛ الأمر الذي ستكون له تأثيرات سلبية في التضامن الأوروبي؛ ومن ثم تفاقم التصدعات والانقسامات القائمة بالفعل في الاتحاد الأوروبي.

4- خسارة بعض الشركات الأوروبية: تشير العديد من التقارير الغربية إلى أن الاتفاق الأخيرة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ستكون له انعكاسات سلبية على بعض الشركات الأوروبية، لعل أبرزها شركات صناعة السيارات الألمانية، وتُعد السيارات من أبرز صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، وباعتبار ألمانيا أكبر مُصنع للسيارات في الاتحاد الأوروبي، فالاتفاق الأخير سيؤثر سلباً في شركات السيارات الألمانية، كفولكس فاغن ومرسيدس وبي إم دبليو. فرغم أن الاتفاق الأمريكي الأوروبي خفَّض التعريفات الجمركية على السيارات الأوروبية التي تدخل السوق الأمريكية إلى النصف، من نحو 27.5% كان قد فرضها ترامب في إبريل الماضي، إلى 15% وفقاً للاتفاق الجديد؛ فإن هذه التعريفات الجديدة تبقى مرتفعة أيضاً وستكلف صناعة السيارات الألمانية مليارات الدولارات سنوياً، وذلك وفقاً لاتحاد صناعة السيارات الألمانية (VDA).

والأمر ذاته يتعلق بشركات الأدوية الأوروبية، فعلى الرغم من إعلان ترامب بأن الأدوية غير مشمولة في الاتفاق الأخير مع الاتحاد الأوروبي؛ فإن رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أكدت أن الأدوية متضمنة في الاتفاق، والأمر ذاته أكدت تقارير صادرة عن البيت الأبيض؛ ما يعني استمرار الغموض حتى الآن بشأن معدل الرسوم الجمركية التي ستفرض على الأدوية الأوروبية المصدرة إلى الولايات المتحدة، غير أن كلا السيناريوهين سيشكلان خسارة كبيرة لشركات الأدوية الأوروبية، والتي كانت تتطلع لإعفاء كامل من الرسوم الجمركية الأمريكية، خاصةً وأن هذه الصناعة تتمتع بتعاملات قوية مع السوق الأمريكي، ولعل هذا ما ينعكس في الانتقادات الحادة التي وجهتها أحزاب المعارضة في أيرلندا للاتفاق؛ بسبب تداعياته المحتملة على صناعة الدواء الأوروبية.

5- دعم بعض الشركات الأمريكية: سيفضي الاتفاق الأمريكي الأوروبي الأخير إلى بعض المكتسبات بالنسبة للكثير من الشركات الأمريكية. فعلى سبيل المثال، تلقت شركات صناعة السيارات الأمريكية دفعة قوية بعدما ألغى الاتحاد الأوروبي رسومه الجمركية على السيارات الأمريكية، بموجب الاتفاق الأخير، والتي كانت بنسبة 10%؛ وهو ما قد يؤدي إلى زيادة وتيرة شراء السيارات الأمريكية في السوق الأوروبية؛ ومن ثم زيادة مبيعات السيارات الأمريكية في الخارج. غير أن هذا الاتفاق ربما لا يكون مرضياً تماماً بالنسبة للمبيعات المحلية للسيارات الأمريكية؛ وهو ما يعزى إلى طريقة تجميع السيارات الأمريكية؛ حيث يُجمع الكثير منها خارج الولايات المتحدة، لا سيما في كندا والمكسيك، واللتان فرض ترامب عليهما رسوماً جمركية بنسبة 25%، مقارنة بالرسوم المفروضة على الاتحاد الأوروبي، بموجب الاتفاق الجديد، بنسبة 15%؛ الأمر الذي قد يجعل السيارات الأوروبية أكثر منافسةً داخل السوق الأمريكية.

من ناحية أخرى، تُعد شركات الطاقة الأمريكية من بين أبرز الرابحين من الاتفاق الأخير بين واشنطن وبروكسل؛ حيث يفترض أن يشتري الاتحاد الأوروبي من شركات الطاقة الأمريكية بنحو 750 مليار دولار. والأمر ذاته يتعلق بشركات صناعة الطيران في الولايات المتحدة، وكذلك الاتحاد الأوروبي، فقد نصت الاتفاقية على عدم خضوع بعض المنتجات الاستراتيجية، بما في ذلك الطائرات وقطع غيارها وبعض المواد الكيميائية وأشباه الموصلات وبعض المنتجات الزراعية، لأي رسوم جمركية؛ ومن ثم تُعد هذه القطاعات من أبرز الرابحين من الاتفاق التجاري الجديد.

دلالات مهمة:

عكس الاتفاق التجاري الذي وقعته الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي مؤخراً جملة من الدلالات المهمة، يمكن عرضها على النحو التالي:

1- صفقة أحادية: أشارت بعض التقارير الأمريكية إلى أن الصفقة التجارية التي أبرمها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، تبدو متحيزةً إلى حد كبير لصالح الولايات المتحدة، وأن الاتحاد الأوروبي اضطر إلى تقديم الكثير من التنازلات لتوقيع هذا الاتفاق، وتجنب الرسوم الجمركية السابقة التي كان ترامب قد فرضها بنسبة 20%، في إبريل الماضي، أو تلك التي هدد مؤخراً بفرضها على الاتحاد الأوروبي بنسبة 30%؛ لذا قدمت بروكسل التزامات مالية ضخمة لاستيراد الطاقة من الولايات المتحدة والاستثمار في السوق الأمريكية.

بالتالي، رغم أن هذه الصفقة تبدو سيئة بالنسبة للاتحاد الأوروبي؛ فإنها قد تحول دون تفاقم الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الصفقة تبدو أسوأ من الاتفاق الذي أبرمته المملكة المتحدة مؤخراً مع واشنطن، والذي تضمن رسوماً جمركية بنسبة 10% على لندن، وربما تعزى هذه النسبة إلى العجز التجاري الذي تعاني منه المملكة المتحدة لصالح الولايات المتحدة. أما في حالة الاتحاد الأوروبي، فهي تشكل هدفاً رئيسياً بالنسبة لترامب، لإنهاء العجز التجاري الراهن لصالح بروكسل.

2- صعوبة تنفيذ بعض بنود الاتفاق: رغم أن الصفقة الأمريكية الأوروبية الأخيرة تبدو، نظرياً، فوزاً كبيراً لبعض الشركات الأمريكية، لا سيما شركات الطاقة؛ فإنه عملياً هناك العديد من التحديات التي ربما تحول دون تنفيذ هذه الصفقة، بل إن هناك بعض التقارير الأمريكية ذهبت إلى حد القول إن هذا الاتفاق غير قابل للتنفيذ بالأساس. فعلى سبيل المثال، يتطلب تنفيذ النص الخاص بشراء الاتحاد الأوروبي منتجات الطاقة الأمريكية بنحو 750 مليار دولار مضاعفة بروكسل وارداتها من الطاقة الأمريكية ثلاث مرات، وذلك بناءً على تقديرات عام 2024، مع مطالبة شركات الطاقة الأمريكية بتحويل كافة تدفقاتها العالمية، وربما أكثر، من الطاقة نحو الاتحاد الأوروبي، يضاف لذلك محدودية أدوات بروكسل لتحقيق هدف زيادة الاستثمارات في السوق الأمريكي، باعتبار الشركات الخاصة هي المسؤولة بالأساس عن هذا الأمر.

ويتسق ذلك مع بعض التقارير الأمريكية، والتي اعتبرت أن تعهدات الاتحاد الأوروبي بشراء منتجات الطاقة الأمريكية بنحو 750 مليار دولار (250 مليار دولار سنوياً) مقارنةً بنحو 70 مليار دولار سنوياً في الوقت الراهن، تبدو بدرجة كبيرة غير واقعية، ناهيك عن تأثيراتها المتوقعة في الأهداف الأوروبية المتعلقة بالمناخ، فضلاً عن تداعيات ذلك على أمن الطاقة في القارة الأوروبية، لا سيما بعدما تخلصت الأخيرة نسبياً من اعتمادها السابق على الغاز الروسي.

3- اتفاق إطاري مبدئي: أشارت العديد من التقارير الغربية إلى أن الاتفاق الذي توصل إليه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، لا يزال يشكل اتفاقاً إطارياً مبدئياً، لم يرق بعد لمرحلة الاتفاق التجاري الشامل؛ وهو ما ينعكس في التفسيرات المختلفة حتى الآن للكثير من البنود، ناهيك عن تباين التصريحات بين واشنطن وبروكسل بشأن تفسير بعض بنود الاتفاق؛ ومن ثم من المقرر أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التفاوض بين بروكسل وواشنطن بشأن التفاصيل الفنية للاتفاق.

وفي هذا الإطار، لا تزال هناك العديد من التحديات القائمة المتعلقة بصياغة تفاصيل هذا الاتفاق التجاري، لتجنب تضارب التفسيرات بشأن بنود الاتفاق، وذلك على غرار الوضع الراهن مع الاتفاق التجاري الأخير بين الولايات المتحدة واليابان، والذي تم إبرامه بشكل سريع؛ الأمر الذي أفضى في النهاية لتفسيرات متضاربة بشأن بنود الاتفاق.

4- مستويات غير مسبوقة من الوصول الأمريكي للأسواق الأوروبية: سيتيح الاتفاق الجديد بين واشنطن وبروكسل للولايات المتحدة مستويات غير مسبوقة من الوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي، في ظل إلغاء التعريفات الجمركية القطاعية الحالية من قبل الاتحاد الأوروبي. في المقابل، سيساعد هذا الاتفاق على تعزيز الاقتصاد الأمريكي وقدراته التصنيعية، وذلك من خلال شراء منتجات الطاقة الأمريكية بنحو 750 مليار دولار، واستثمار 600 مليار دولار جديدة في الولايات المتحدة؛ وهو ما سيضع الأخيرة كوجهة عالمية رائدة للاستثمار والابتكار والتصنيع المتقدم. بالإضافة لدعم قدرات المزارعين ومربي الماشية والصيادين والمصنعين الأمريكيين لزيادة صادراتهم وتوسيع فرص الأعمال، وذلك من خلال إلغاء كافة رسوم الاتحاد الأوروبي على السلع الصناعية الأمريكية المصدرة إليه؛ الأمر الذي سيتيح فرصة هائلة للسلع الأمريكية والمزروعة في الولايات المتحدة للمنافسة في السوق الأوروبية؛ وهو ما سيزيد نمو الاقتصاد الأمريكي، عبر زيادة معدل الصادرات وتوسيع الإنتاج.

انعكاسات محتملة:

هناك جملة من الانعكاسات المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن الاتفاق التجاري الأخير بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يمكن عرضها على النحو التالي:

1- تأثيرات اقتصادية غير مؤكدة: ثمة حالة من عدم اليقين بشان التأثيرات الاقتصادية للاتفاق الأخير بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ حيث تشير كثير من التقديرات إلى أن الرسوم الجمركية الجديدة ستؤثر سلباً في معدلات التضخم في الولايات المتحدة، مع انخفاض متوقع في الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي، بنسبة تتراوح بين 0.2% إلى 0.8%، مع تباين التداعيات الاقتصادية على دول الاتحاد؛ إذ يرجح أن تتأثر بعض الدول، كألمانيا وأيرلندا، بدرجة أكبر بالاتفاق التجاري مع اشنطن، وذلك نتيجة الصادرات الكبيرة لهذه الدول للولايات المتحدة.

لكن، يظل مدى تأثير التعريفات الجمركية الجديدة في المستهلكين الأمريكيين هو المحدد الحاسم الذي سيحدد مآلات الاتفاق التجاري الجديد. ففي بعض الأحيان، قد يتحمل مصدرو الاتحاد الأوروبي بعض التكاليف، أو كلها، للحفاظ على حصتهم السوقية في الولايات المتحدة، بيد أن هذا الأمر سيفرض مزيداً من التكلفة على دول الاتحاد الأوروبي. وفي أحيان أخرى، يمكن أن يتم تمرير التعريفة الجمركية بالكامل ليتحملها المستهلك؛ وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة، فضلاً عن إضعاف قدرة الاتحاد الأوروبي التنافسية في السوق الأمريكي، لا سيما في ظل ارتفاع قيمة اليورو مؤخراً.

2- ضغوط متزايدة في الداخل الأوروبي: يتوقع أن يواجه الاتحاد الأوروبي ضغوطاً متزايدة خلال الفترة المقبلة، لتعويض الصناعات عن الخسائر التي ستتكبدها نتيجةً للرسوم الجمركية الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة بموجب الاتفاق الجديد؛ الأمر الذي سيزيد من الضغوط الاقتصادية على الحكومات الأوروبية؛ إذ يتوقع أن يؤدي الاتفاق التجاري الجديد بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى رفع التعريفات الجمركية على السلع الأوروبية إلى أعلى مستوى منذ عقود؛ وهو ما ستكون له انعكاسات سلبية على النمو الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي؛ حيث تصدر دول الاتحاد الأوروبي سنوياً بضائع إلى الولايات المتحدة بقيمة تتجاوز 300 مليار دولار؛ وهو ما يشكل نحو 20% من إجمالي الواردات الأوروبية.

3- تحفيز التحول الأوروبي بعيداً عن الولايات المتحدة: على الرغم من قبول غالبية دول الاتحاد الأوروبي بالصفقة التجارية الأخيرة مع الولايات المتحدة، وما تتمضنه من تعريفات جمركية بنسبة 15%؛ فإن هذا القبول يبقى محاولةً لتجنب فرض رسوم جمركية أكبر من قبل إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. غير أن هناك العديد من التقارير الغربية التي تشير إلى أن دول الاتحاد الأوروبي ستعمل خلال الفترة المقبلة على اتخاذ خطوات أكبر لفتح أسواق جديدة، ومحاولة تخفيف اعتمادها على الولايات المتحدة؛ الأمر الذي قد يحفز الاتجاه الداعم لتحول بروكسل تدريجياً بعيداً عن الولايات المتحدة.

وفي الختام، على الرغم من التأثيرات الاقتصادية المحتملة لهذا الاتفاق التجاري الجديد في دول الاتحاد الأوروبي، وفي الداخل الأمريكي؛ فإن هذا الاتفاق يتوقع أن يؤدي في المقابل إلى إعادة الاستقرار والقدرة على التنبؤ للمواطنين والشركات على جانبي الأطلسي، مع تمهيد الطريق لمزيد من الاتفاقيات التجارية بين واشنطن وعدد من شركائها التقليديين، لا سيما كندا وكوريا الجنوبية والمكسيك.

 

 

 

 


المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

اتفاق أميركي رواندي لاستقبال مهاجرين مرحّلين

وقّعت الولايات المتحدة ورواندا اتفاقا يقضي باستقبال الأخيرة ما يصل إلى 250 مهاجرا مرحّلين من الأراضي الأميركية، في خطوة تعكس تشديد إدارة الرئيس دونالد ترامب لسياسات الهجرة، بحسب ما نقلته وكالة رويترز عن مسؤول رواندي ومتحدثة باسم الحكومة.

وقال المسؤول، الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، إن الاتفاق جرى توقيعه في العاصمة كيغالي خلال يونيو/حزيران الماضي، مشيرا إلى أن واشنطن أرسلت بالفعل قائمة أولية تضم 10 أسماء للنظر في إمكانية إعادة توطينهم.

ولم يصدر أي تعليق رسمي من البيت الأبيض أو وزارة الخارجية الأميركية حتى الآن، بينما أحالت وزارة الأمن الداخلي الاستفسارات إلى الخارجية.

من جانبها، قالت يولاند ماكولو، المتحدثة باسم الحكومة الرواندية، إن الاتفاق يعكس القيم المجتمعية للبلاد، مضيفة "عانت تقريبا كل أسرة رواندية من مشاق النزوح، وقيمنا تقوم على إعادة الدمج والتأهيل".

وأوضحت أن من تتم الموافقة على توطينهم سيحصلون على تدريب مهني ورعاية صحية ودعم سكني، بما يمكّنهم من بدء حياة جديدة في رواندا والمساهمة في اقتصادها الذي يُعد من الأسرع نموًا في أفريقيا خلال العقد الأخير.

الرئيس الراوندي بول كاغامي كان اتفق سابقا مع المملكة المتحدة على استقبال مرحلين (الجزيرة)

وبحسب المسؤولة ذاتها، ستقدّم الولايات المتحدة دعما ماليا لرواندا على شكل منحة، دون الكشف عن قيمتها.

كما أشارت إلى إمكانية توسيع الاتفاق بالتراضي ليشمل أكثر من 250 شخصا، مؤكدة أن المرحّلين لن يكونوا ملزمين بالبقاء في رواندا ويمكنهم المغادرة في أي وقت.

وشدد المسؤول على أن كيغالي لن تستقبل سوى من أنهوا مدة عقوبتهم أو لا يواجهون قضايا جنائية، مع استثناء مرتكبي الجرائم الجنسية ضد الأطفال، إذ ينص الاتفاق على عدم تنفيذ العقوبات الصادرة في الولايات المتحدة داخل رواندا.

إعلان

وتأتي هذه الخطوة ضمن سياسة أوسع تنتهجها إدارة ترامب لترحيل مهاجرين إلى دول ثالثة، حيث تم ترحيل أكثر من 200 فنزويلي إلى السلفادور في مارس/آذار الماضي، بعد اتهامهم بالانتماء إلى عصابات، قبل أن يُفرج عنهم في عملية تبادل سجناء الشهر الماضي.

وكانت المحكمة العليا الأميركية قد سمحت في يونيو/حزيران بترحيل مهاجرين إلى دول ثالثة دون منحهم فرصة لإثبات تعرضهم للخطر، وهو قرار يواجه طعونا قانونية أمام محكمة اتحادية في مدينة بوسطن.

يُذكر أن رواندا سبق أن وقّعت اتفاقا مماثلا مع بريطانيا عام 2022 لاستقبال آلاف طالبي اللجوء، إلا أن الخطة لم تُنفذ بسبب طعون قانونية، وألغى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الاتفاق العام الماضي.

مقالات مشابهة

  • مسئول أوروبي:اتفاق التعريفة الجمركية مع أمريكا مصدر “ارتياح” لا مدعاة للاحتفال
  • مسؤول أوروبي: اتفاق التعريفة الجمركية مع أمريكا مصدر “ارتياح”
  • الاتحاد الأوروبي يعلق الرسوم الجمركية على سلع أمريكية عقب اتفاق مع واشنطن
  • اتفاق بين الولايات المتحدة ورواندا لاستقبال مهاجرين مرحّلين ضمن سياسة ترحيل إلى دول ثالثة
  • اتفاق أميركي رواندي لاستقبال مهاجرين مرحّلين
  • الاتحاد الأوروبي يتوقع اضطراب العلاقات التجارية مع أمريكا
  • صفقة جيدة.. الاتحاد الأوروبي يعلق على الاتفاق التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية
  • ما مستقبل العلاقات الأمريكية الإيرانية؟
  • الاتحاد الأوروبي يعلّق إجراءاته ضد الرسوم الأمريكية لمدة 6 أشهر