إن حروب السرديات، هي انعكاس لحروب وصراع الأفكار والمعتقدات والرؤى، ولذلك، لا يمكن فهم جوهرها ونقدها إلا بممارسة التفكيك، حيث ينطق نص السردية بما يعتوره من تناقضات وأساطير وخرافات تأسيسية تعتمل في الخفاء وتؤسس لنتائج قد تبدو عقلانية من منظور المنطق الاستعماري، حيث الحرب شرعية بمقاييس الرأسمالية الاحتكارية.
فمن المعلوم أن تأسيس دولة إسرائيل، كما مر معنا، لم يكن نتاج أحداث سياسية مباشرة، بقدر ما كان نتيجة لتراكمات تاريخية لخطاب استشراقي يمتد بجذوره إلى القرن السابع عشر، حيث تم إنتاج وتسويق تصورات غربية عن الشرق، بما يشمل الهند والصين، وعموم العرب والمسلمين.
وهي تصورات نفت المنطق والعقل والعقلانية عنه، بمقابل انفراد الغرب بالحضارة والعقلانية، وهو ما سيشكل الأساس الإبستيمي (المعرفي) لخطاب الاستشراق، ولعلنا نجد في كتابات جاك غودي، وخاصة كتاب: "الشرق في الغرب"، خير تفكيك لهذه الأسس.
لكن التركيز الاستشراقي، كما الأنثروبولوجي، كان من نصيب العرب والمسلمين، ومن بينهم طبعا الفلسطينيون، الذين شكلوا هذا الآخر المعاكس والمناقض للذات الغربية، حيث شكلت هذه الصور والرؤى والتصورات المنافية للعقل والعقلانية والحضارة والمدنية عن هذا الآخر الأساس المرجعي للجهاز المعرفي للغرب عن الشرق، وبالتماثل إسرائيل عن العرب والمسلمين والفلسطينيين.
وهي رؤية لا يخفيها القادة الإسرائيليون باختلاف انتماءاتهم السياسية، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو في أحدث طبعة لسيرته الذاتية "مكان تحت الشمس".
ففلسطين في الخطاب الاستشراقي كانت أرضا خلاء، استوطنها بعض من البدو العرب الرحّل في سياق البحث عن الكلأ والمراعي، ولا تربطهم أية صلة بها، وهم متخلفون حضاريا، وهو عين خطاب ما يسمى بالاستشراق المساند للصهيونية، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر.
إعلان الخطاب الاستشراقي من المعرفة إلى الاستعمار الاستيطانيإذا كان رواد الاستشراق يعتبرون الخطاب الاستشراقي مشروعا معرفيا وفكريا، وكان مثقفو الغرب الديكولونياليون يعتبرون أن هذا الخطاب سقط، دون قصد، في إنتاج أنماط ونماذج جاهزة مؤسسة على أحكام قيمة، وسرعان ما تم تجاوزها، فإن واقع الحال يقول العكس تماما.
فهذا الخطاب بالرغم من الانتقادات التي وجهت إليه، كما حدث مع الأنثروبولوجيا، ما زال يتأسس على أحكام القيمة التغريضية والتنقيصية من الشرق، خاصة من العرب والمسلمين، بعد أن فندت الصين وكافة نمور آسيا مقولة الاستشراق الغربي، وأصبحت من البلدان الأكثر تقدما في العالم، بل وصارت الصين المنافس الذي يهدد عرش الولايات المتحدة الأميركية ذاتها، ويهدد هيمنة الغرب على العالم.
ذلك أن الاستشراق لم يكن مجرد دراسات حول الشرق، بقدر ما هو بنية معرفية لا تنفصل عن السيطرة الاستعمارية والهيمنة الرأسمالية الاحتكارية الغربية، وهو ما شكل جوهر كتاب المفكر الأميركي من أصول فلسطينية إدوارد سعيد: "الاستشراق" الذي صدر في طبعته الإنجليزية سنة 1978، حيث وضّح هذا الأخير كيف أنتجت أميركا وعموم الغرب تمثلات وصورا نمطية ومشوهة عن العرب والمسلمين وعموم الشرق الذي بات يمثل في الاستشراق الآخر المتخلف البربري وغير العقلاني، بمقابل الذات الغربية المالكة حصرا للعقل والعقلانية والحداثة والمدنية.
ولذلك، فهي تملك حق تمدين العالم ومساعدة الشعوب المتخلفة في نظرها على التحضر والتمدن عبر الاستعمار والاستيطان.
على المستوى الفلسطيني، وبالرجوع إلى الكتابات التاريخية الغربية، يتضح أن الخطاب الاستشراقي بدأ في بلورة تصور عن الإنسان الفلسطيني منذ القرن التاسع عشر، قبل وعد بلفور، وحتى قبل المؤتمر الأول للصهيونية في مدينة بازل السويسرية في أغسطس/ آب 1897 برئاسة وإشراف ثيودور هرتزل، والداعي لتشكيل وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، التي يعتبرها هذا الخطاب أرضا بلا شعب، أرضا خلاء.
كما تحضر في السيرة الذاتية لنتنياهو، وفي كتابات منظري الصهيونية بشكل عام والمستوحاة من الخطاب الاستشراقي، عبارة عن "أرض مقدسة ضائعة"، و"أرض ضاع مجدها ويجب إحياؤه"، و"الإحياء المقدس لأرض فلسطين"… إلخ، وأن الفلسطينيين هم مجرد عرب بدو أجلاف استقر بعضهم في مرحلة تاريخية مؤقتة في سياق الترحال والبحث عن المراعي، دون أن تكون لهم أية صلة تاريخية وشرعية بالأرض.
وفي مقابل ذلك، يتم تصوير اليهودي بوصفه "الابن الأصلي والشرعي لأرض كنعان"، وأن "اليهود طُردوا منها ظلما وجورا، وأن لهم دوما الحق في العودة، وهي عودة مقدسة".
وقبيل وعد بلفور أسهم الضابط والمؤرخ البريطاني لورنس العرب في تقوية الفصل بين الشرق والغرب، بين الإسرائيلي والعربي، معتبرا أن العرب غير قادرين على إدارة أمورهم. ولذلك كان يرى أنهم في حاجة إلى الوصاية حتى يتم ترقيتهم حضاريا ومدنيا، وهي مهمة الغرب بامتياز.
وعلى هذا المستوى، لم يكن وعد بلفور سوى الترجمة الحرفية لهذه المهمة الغربية، ولهذا الخطاب الاستشراقي، فإسرائيل تمثل تجمعا ليس لليهود، من منظور الدولة الدينية التي أساسا تتناقض مع الحداثة الغربية، فحسب، بل تمثل شعبا أوروبيا سُلبت الأرض من أجداده، وهو شعب منسجم يمتلك حضارة وعقلانية ومنطقا، بمقابل العرب الفلسطينيين الذين ليسوا سوى مجرد بدو رحّل في الأصل، لا تجمعهم وحدة ولا رابط، لكونهم طوائف وعشائر، وهو ما يعكس انحيازا استشراقيا لا تخطئه العين من أول سطر في هذا الخطاب الذي شكل الخلفية المرجعية للدعم البريطاني للمشروع الصهيوني قبل أن تصبح أميركا عرّابه الأكبر.
إعلانفإذا كان الاستشراق ظاهرة فكرية وسياسية ظهرت قُبيل بداية الغزو الاستعماري الأوروبي، جوهرها الخطابي هو إنتاج معرفة إمبريالية عن الشرق بغية تبرير الاستعمار وتسويغه، فإن بروز المشروع الصهيوني جعل هذا الاستشراق يتخذ من العالم العربي وفلسطين تحديدا موضوعه الأهم، بالنظر إلى ارتباط هذا المشروع باحتلال واستيطان أرض فلسطين، التي تحولت بفضل هذا الخطاب إلى بلاد كنعان، وأرض الميعاد، ومملكة إسرائيل التاريخية، بعدما أُفرغت تخييليا من سكانها الأصليين.
حيث تعاونت مراكز أبحاث وجامعات وباحثون غربيون مع نظرائهم من إسرائيل لإنتاج دراسات وأبحاث وكتابات تُعنى بالمنطقة العربية والإسلامية تكون في خدمة الأهداف الأيديولوجية والسياسية للحركة الصهيونية. وهو ما تولد عنه الاستشراق الصهيوني الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بإسرائيل كدولة استعمار استيطاني.
لقد ظل هذا المشروع الأيديولوجي المغرض بعيدا عن المساءلة عربيا وإسلاميا إلى أن جاء إدوارد سعيد، حيث أظهر بجلاء في كتابه "الاستشراق" كيف أن بعض المستشرقين اليهود استخدموا أدوات الاستشراق الغربي لخدمة أهداف صهيونية، أبرزها تقديم العرب كتهديد دائم لمشروع الدولة اليهودية.
ومن هذا المنطلق، كثرت وازدهرت الكتابات من هذا النوع، خاصة من قِبل مؤرخين إسرائيليين حاولوا تزوير الأحداث التاريخية وابتكار أخرى واستدعاء ثانية من وحي الخيال والأساطير لصناعة سردية غربية إسرائيلية مُخصبة باليورانيوم الاستشراقي، حيث العرب والفلسطينيون تهديد قائم لليهود ولدولة إسرائيل، بالنظر إلى أنهم مجبولون بالفطرة على الإرهاب والغلو والتطرف والبربرية، وهم، كما باقي الشرق، لا يتوفرون على شروط ومقومات العقلانية والحداثة بالنظر إلى توغلهم في حياة البداوة وتخلف دينهم، خاصة فيما يتعلق بكل نشاط فكري إسلامي.
ولعلنا نجد في البريطاني برنارد لويس خير مؤشر مرجعي على الاستشراق الصهيوني، فيما كتبه من كتب ومنشورات تفيد تخلف العرب وعداءهم المرضي لليهود، وضمن هذا السياق التأسيسي، يمكن اعتبار إسرائيل شاحاك أحد أهم الباحثين الذين أسسوا اللبنات الأولى للاستشراق الصهيوني، حيث كان هدفه إنتاج معرفة استشراقية من أجل تيسير التحكم في العرب وقيادتهم وإقناع نخبهم بمهمة إسرائيل الحضارية في المنطقة.
وهنا أعتقد أن شاحاك، بالرغم من أنه انقلب فيما بعد منتقدا الصهيونية، فدوره تاريخي في التأسيس للاستشراق الصهيوني. وكما هو شأن الاستشراق الغربي، ليس فقط نزعة فكرية ومعرفية فردية مرتبطة بأشخاص معينين، ما دام أنه بنية بحثية وفكرية مؤسساتية، يُعد الاستشراق الصهيوني بنية مؤسساتية قائمة الذات، ترتكز على مؤسسات جامعية ومعاهد ومراكز أبحاث.
ولهذا، نجد الجامعات الإسرائيلية، مثل الجامعة العبرية وتل أبيب، قد أنشأت أقساما متخصصة بالدراسات الشرقية، مرتبطة بالمؤسسة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية.
ومثلما يشير إلى ذلك عدد من المفكرين المنتقدين للصهيونية، من قبيل إيلان بابيه ونعوم تشومسكي، وزيجمونت باومان، وحنة أرندت، وأبرهام ملتسر، وغيرهم كثر، سعى المشروع الاستشراقي الصهيوني إلى توفير معرفة إستراتيجية لتوجيه السياسات الإسرائيلية في التعامل مع العرب، وتشويه صورتهم وصورة المسلمين بشكل عام بوصفهم غير عقلانيين، متخلفين، وعدوانيين، لتبرير سياسات الاحتلال.
ومن ثم نزع الشرعية عن الثقافة العربية، عبر تزييف الوقائع والأحداث للبرهنة على أن العرب لا يتوفرون على أي إرث حضاري، والهدف من ذلك هو إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني، وتصوير فلسطين كأرض بلا شعب قبل مجيء الصهاينة، وهنا يمكن إدراج تهويد الأماكن والفضاءات والأسماء ومنحها هوية يهودية وإسرائيلية، والسعي نحو إقناع العالم بذلك.
إعلانلهذا، في الحقيقة، لا ينفصل المشروع الاستشراقي الصهيوني عن "الهاسبارا"، أي جهاز الدعاية الإسرائيلية الموجهة إلى الغرب، خاصة أن الكتابات والدراسات الجامعية والأكاديمية تُوجّه تحديدا إلى الغرب والنخب الحاكمة في العالم العربي لتبرير الاستيطان وتزييف الرواية الفلسطينية.
بيد أنه في السنوات الأخيرة باتت هذه الكتابات تُوجّه أيضا إلى النخب العربية من مختلف التوجهات، خاصة الحداثية، من أجل تعبئة هذه النخب خدمة للصهيونية الوظيفية، بتعبير عبدالوهاب المسيري.
الاستشراق الصهيوني والتقابل الانحيازيتأسيسا على ما سبق، سوف ينحو الاستشراق الصهيوني منحى الدعم المباشر لقيام دولة إسرائيل، وفيما بعد لدعم حروبها وتبريرها بدعاوى حضارية ومدنية، من خلال إعادة إنتاج وتحيين التصورات والتمثلات الاستشراقية، خاصة بعد أن تعرض الاستشراق نفسه لضربات موجعة من قبل الدراسات الثقافية وما بعد الكولونيالية.
هذا الخطاب الاستشراقي الصهيوني، والذي تطور على يد باحثين ينتمون أساسا إلى جيش الاحتياط الإسرائيلي، يصور الجندي الإسرائيلي كرجل غربي جديد يعيد التمدن لمنطقة مقدسة مهملة، ويصور الجيش كمجموعة من الرجال والنساء الذين يقومون بمهام مقدسة جليلة.
وبما أن هذا الخطاب تواضع على مزاعم أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهي مقولة استشراقية بامتياز، فإن الفلسطينيين ليسوا سوى إرهابيين يحاربون المدنية والحضارة، ويقوضون أسس القداسة في أرض الميعاد.
وهو ما عملت على ترويجه ومأسسته وترسيمه الجامعات الغربية والإسرائيلية على حد سواء، كشكل من أشكال الدعم الصريح لإسرائيل، فمنذ أوائل القرن العشرين لم تتوانَ المؤسسات الأكاديمية والجامعية ومراكز الدراسات والأبحاث في إغناء وتكريس هذا الخطاب الاستشراقي المؤيد للرواية الإسرائيلية، حتى صارت مصطلحات مثل "الدراسات الشرق أوسطية" مقابلا موضوعيا للسردية الصهيونية الاستشراقية.
إن هذا الخطاب الاستشراقي الصهيوني ليس خطاب نخبة، بل خطاب المدرسة، والإعلام، والأسرة، والجامعة، والجيش، وخطاب الحاخامات على حد سواء.
لقد بات بفضل الدعاية والترويج والتسويق للسردية الغربية، ذاكرة جماعية تأبى أن تتفكك على وقع الأحداث اليومية التي تكشف زيفه وتسقط أقنعته، وإذا كانت أحداث الانتفاضة الأولى 1987، أو ما سُمي بأطفال الحجارة، والانتفاضة الثانية 2015، قد أسهمت في إعادة إحياء القضية الفلسطينية، على الأقل إعلاميا ومؤسساتيا: (الأمم المتحدة، مجلس الأمن، مجلس الاتحاد الأوروبي، جامعة الدول العربية)، وفكريا من خلال (الكتب والإصدارات… إلخ)، فإن أحداث طوفان الأقصى قد كشفت، بشكل غير مسبوق في تاريخ الكيان، زيف أقنعة الحداثة والمدنية والحضارة، وأظهرت للعالم وجه الإبادة الحقيقية التي تمارسها إسرائيل في حق أرض بشعب وشعب بأرض.
بيد أن الدعاية الغربية ما تزال مستمرة في تبرير حروب إسرائيل الاستيطانية والإحلالية في فلسطين، وحروبها التوسعية في المنطقة: لبنان، سوريا، إيران… إلخ.
إن الحروب الإسرائيلية المستديمة في منطقة الشرق الأوسط، منذ حروب: 1948، و1956، و1967، و1973، ومنذ قصفها المفاعل النووي السلمي العراقي 1981، إلى حرب لبنان الأولى 1982، وحرب لبنان الثانية 2006، مرورا بحروب غزة المتكررة: 2006، 2012، 2014، 2016، 2021، 2022، 2023، 2025، انتقالا إلى حرب إيران في يونيو/ حزيران 2025، وهي سلسلة طويلة ولا تنتهي، وإن كان جوهرها الأساس هو الغارات الجوية كل مرة على بلدان المنطقة، ليس آخرها قصف العاصمة دمشق في يوليو/ تموز 2025، تُعد بمثابة امتداد لمشروع استعماري طويل الأمد، يجد تبريراته في التمثلات الاستشراقية التي تسبق وتصاحب كل حرب من حروبها.
ولعلنا نجد في التبرير الإعلامي، سواء الغربي أو الإسرائيلي، للحروب المرتبطة بالمستوطنات والتهويد الذي طال الذاكرة الفلسطينية المادية والرمزية على حد سواء، ما يعكس بجلاء هذه التصورات الاستشراقية، وأن أعداء الحضارة والتقدم والازدهار يرفضون إسرائيل فقط؛ لأنها ممثل الحضارة الغربية والمدنية التي جاءت من أجل مهمة حضارية، وإعادة إحياء أرض مقدسة طُرد منها يهود بني إسرائيل ظلما وعدوانا.
على سبيل الختمإذا كان المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد قد أبرز كيف يتم استخدام الاستشراق من أجل صياغة سياسات الهيمنة، وجعل العالم ينتبه للاستشراق الصهيوني، وكشف عبدالوهاب المسيري البنية الاستعمارية للخطاب الصهيوني، فإن المؤرخين الجدد في إسرائيل، مثل إيلان بابيه، قد فضحوا الطابع الأيديولوجي للتاريخ الاستشراقي الإسرائيلي.
إعلانفي حين أسقط المفكر نعوم تشومسكي ألاعيب وإستراتيجيات الاستشراق الصهيوني الساعية إلى استلاب العالم وإخضاعه لمشيئة الصهيونية من خلال شيطنة العرب والفلسطينيين وسلبهم تاريخهم الحضاري والمدني العريق، بينما أبرز المفكر جوزيف مسعد كيف أن أحداث غزة كشفت زيف الغرب وأوهام الحداثة، فيما أظهره من كراهية عرقية للفلسطينيين.
ومن هذا المنطلق، يجب على النخب في العالم العربي والإسلامي أن تعي جيدا أن الحروب الدائرة في الميدان في غزة والضفة الغربية، وفي لبنان وسوريا، وفي اليمن وإيران… إلخ، ليست سوى الترجمة الحرفية لحرب تتم بعُدة وعتاد مختلفين، أساسهما المعرفة والتاريخ والأيديولوجيا.
إن الاستشراق الصهيوني ليس مجرد معرفة محايدة، كما هو حال الاستشراق الغربي عامة، بل هو أداة سياسية وأيديولوجية، وجزء من الحرب المعلنة على العرب والمسلمين، تخدم مشروعا استعماريا استيطانيا وإحلاليا.
ولذلك، فتفكيك هذا الخطاب وإسقاط أقنعته وفضح تحيزاته تُعد ضرورة معرفية وأخلاقية لمواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة وفي العالم ككل من منظور نقدي ومعرفي. وهو ما يشكل إحدى مهام الجامعات والمفكرين والباحثين في العالمين العربي والإسلامي بشكل خاص، وكل المفكرين الأحرار في العالم بشكل عام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات العرب والمسلمین فی العالم من أجل من هذا وهو ما
إقرأ أيضاً:
كيف تشتري “إسرائيل” سكوت جمهورها وصمت العالم؟
في سؤال: لماذا يصمت الإسرائيلي، بل ويتعاطف مع جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يرتكبها جيشه وحكومته ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة منذ زهاء السنتين، دون أن يتحرّك فيه ساكن سياسي أو إنساني، اللهم سوى مظاهرات ذوي الأسرى الإسرائيليين التي تقتصر فحوى شعاراتها وأهدافها على معاناة «الرهائن تحت القصف في أنفاق حماس»، دون الالتفات للفلسطينيين الواقعين «عراة» تحت القصف الإسرائيلي المباشر بعد أن دُمّرت بيوتهم، يُقتلون ويُهجّرون ويُجَوّعون حتى الموت.
في هذا السؤال، كان جوابنا التلقائي أننا أمام مجتمع استيطاني استعماري تتوحّد فيه مصالح المستعمرين الأفراد بمصالح السلطة المستعمِرة، ويستفيدون جميعًا من عدوانيتها وتوسّعها واستيطانها وحروبها، من خلال التشارك في غنائمها ومغانمها ومردوداتها الاقتصاديّة والسياسيّة، ويزداد هذا التوحّد كلّما استشعر هذا المجتمع المزيد من الخطر على مشروعهم الاستعماري المُربح الذي يسمّونه «خطرًا وجوديًّا».
وهم، على عكس المجتمع الأميركي الذي تحوّل بعد مرور مئات السنين على استيطانه الاستعماري إلى مجتمع «طبيعي»، ولذلك رأيناه يخرج في مظاهرات عارمة مُندّدة بالحرب الإجراميّة التي خاضتها بلاده على فيتنام، ونراه اليوم يخرج، أسوة بغيره من المجتمعات الغربيّة، لِيُندّد بحرب الإبادة على غزّة، فإنهم لم يتحوّلوا إلى مجتمع طبيعي، لأن الصراع على مشروعهم الاستعماري لم يُحسم مثلما حدث هناك، لسببين: الأول يرتبط بطبيعة هذا المشروع المختلفة، والثاني يرتبط بطبيعة السكّان الأصليّين والمقاومة العنيدة للشعب الفلسطيني المتواصلة منذ مئة عام وأكثر.
وفي سياق الاستفادة الماديّة العينيّة من حرب الإبادة على غزّة، والتي تُسهم في كتم أصوات هذا المجتمع واصطفافه الأعمى وراء حكومته اليمينيّة الدينيّة المتطرّفة، تساعدنا مقالة كتبها المؤرخ آدم راز، وعالم الاجتماع آساف بوند، على فهم هذه العلاقة المركّبة وإدراك بعض ديناميكيّاتها الداخليّة، حيث يكشف المقال أنّ الدولة تدفع لجندي الاحتياط، لقاء كلّ شهر «تطوّع» في الخدمة العسكريّة في غزّة، 29 ألف شيكل، وهو مبلغ يُنافس، كما يقول الكاتبان، الأجر اليومي للعاملين في مجال «الهايتك»، الذين يحظون بالأجر الأعلى في سوق العمل الإسرائيلي.
هذا الأجر المرتفع، برأي الكاتبين، هو ليس لقاء الحصول على قوّة عمل عسكريّة لتنفيذ سياستها فقط، بل لقاء الحصول على أمر آخر لا يقلّ قيمة: يتمثّل بالشراكة وكسب الدعم والمصداقيّة الواسعة للحرب، إذ إنّ «عملة» خدمة الاحتياط تلك تخلق منظومة مصالح يقع في شباكها جمهور يتّسع باطّراد، الأمر الذي يجعل جندي الاحتياط، الذي يحظى بعشرات آلاف الشواقل شهريًّا، لا ينتقد الحرب، وأن تتحوّل عائلته وأصدقاؤه وزملاؤه إلى شركاء غير مباشرين في «المشروع الحربي»… ويصمتوا عن انتقاد هذه السياسة وتداعياتها.
أمّا في سؤال صمت العالم على الإبادة الجماعيّة للشعب الفلسطيني، ومواصلته توفير الغطاء والدعم اللازم لاستمرارها على مدى السنتين الماضيتين، فجوابنا كان دائمًا أننا أمام منظومة استعماريّة تقودها أميركا، تعتبر إسرائيل ذراعها الضارب وقاعدة ارتكاز لها في المنطقة العربيّة، وهي لهذا السبب تواصل دعمها لها في كلّ الأحوال، حتى حين ترتكب جرائم ضدّ الإنسانيّة وحرب إبادة.
في هذا السياق أيضًا، خاض الباحث في الشأن العسكري الإسرائيلي يغيل ليفي، في مقال نشرته «هآرتس»، في تفاصيل التدخّل أو عدم التدخّل الدولي لدى تعرّض شعب من الشعوب لحرب إبادة، فأشار إلى مسؤوليّة المجتمع الدولي في منع الإبادة الجماعيّة، وجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانيّة، والتطهير العرقي، في حال فشلت الحكومة المحليّة في منعها، وذلك باستعمال الوسائل الدبلوماسيّة والإنسانيّة وغيرها لحماية الجماعة التي تتعرّض لمثل هذه الجرائم، بما فيها فرض العقوبات الاقتصاديّة واستعمال القوّة العسكريّة.
ليفي يعطي أكثر من مثال على التدخّل الدولي عسكريًّا لمنع «الإبادة الجماعيّة»، أو ما كان يُعتقد أنّه «إبادة جماعيّة»، أحدثها في 2011م بعد اتخاذ قرار في مجلس الأمن باستخدام القوّة العسكريّة ضدّ ليبيا، بادّعاء حماية سكّانها من «جرائم» حكومتها، وكلّنا يذكر كيف قصفت طائرات الناتو العاصمة طرابلس وأطاحت بنظام القذافي.
والمثال الثاني في 1999م، عندما تجاوز حلف «الناتو» مجلس الأمن، وشنّت قوّاته غارات جويّة على صربيا لمنع «التطهير العرقي» ضدّ الألبان في كوسوفو، هذا علمًا أنّ عدد القتلى الألبان، كما يقول، بلغ عشية شنّ هذه الهجمات 2000 مدني فقط، مقابل أكثر من 50 ألف قتيل مدني، و350 ألف جريح، ومليوني مهجّر في غزّة، وهي أعداد كافية وجديرة بأن تجعل زعماء الناتو ورئيس الولايات المتحدة يلقون خطبًا ناريّة حول المسؤوليّة الأخلاقيّة للحلف، ويُذكّروا بالمحرقة النازيّة.
لكن في حالة إسرائيل، فإنّه ما من مسؤول غربي قد يفكّر بتدبير أقلّ من ذلك بكثير، مثل فرض حظر جويّ عليها أو نشر قوّات دوليّة لفضّ الاشتباك في غزّة، ليس لأنّ إسرائيل تحظى بحماية الولايات المتحدة فقط، كما يقول، بل لأنّها تُعتبر جزءًا من العالم الغربي، وجزءًا من «الجدار الحديدي» في وجه العالم الإسلامي، ويجب أن تكون محلّ شفقة بسبب صدمة السابع من أكتوبر والتداعيات التي تثيرها ذكرى المحرقة.
لهذه الأسباب، ستبقى الدول الغربيّة تواصل التفرّج على الجوع، والخراب، والقتل، والاقتلاع، وعلى أطفال غزّة الذين يُدفنون وتُدفن معهم الهويّة الأخلاقيّة الإسرائيليّة، دون أن تُحرّك ساكنًا.
كاتب فلسطيني