بوابة الوفد:
2025-08-16@21:03:45 GMT

السيدة "فورب"

تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.

"سمية عبدالمنعم"

عن قصة جابريال جارثيا ماركيز 
فى ذات ليلة، فوجئنا عند عودتنا للمنزل بثعبان بحرى ضخم، داكن السواد، يطل برأسه من إطار الباب، عيناه براقتان، أسنانه حادة مثل أسنان المنشار. كنت في التاسعة من العمر في هذا الوقت، فشعرت بفزع شديد أفقدنى صوتي وترك أخى - الذى يصغرنى بعامين ـ  أسطوانات الأكسجين، الزعانف والنظارة وهرب صارخًا من خلال الدرج الحجرى الذى يؤدى إلى الصخور المطلة على المرسى.
سمعت السيدة "فورب" صرخته فأتت مهرولة مبهورة الأنفاس. ما إن رأت الثعبان حتى فهمت كل شىء، فراحت تصب علينا جام غضبها ولومها باللغة الألمانية ـ وذلك على خلاف العقد المبرم بينها وبين أبى لتعليمنا اللغة الإنجليزية ـ ربما لأنها فزعت في بادئ الأمر، لكن سرعان ما استعادت طبيعتها الصارمة كمربية فقالت بالإنجليزية: 
- إنه أبو مرئية، يطلقون عليه كذلك لأنه حيوان مقدس عند الإغريق..
ظهر "أورست" فجأة ـ الشاب الذى يتكفل بتعليمنا الغوص ـ يرفع النظارة إلى جبهته، يرتدى لباس البحر، يلف حول خصره حزامًا من الجلد يحتوى على ستة سكاكين بأحجام وأشكال مختلفة، فهو لا يقنع بطريقة أخرى للصيد سوى مواجهة الوحوش البحرية وجهًا لوجه.. كان فى العشرين من العمر، قضى فى أعماق البحر أكثر مما قضى على سطح الأرض، جسده دائمًا يلمع من أثر التلوث بزيوت المحركات فيبدو كأنه حيوان بحرى. عندما تقابل مع السيدة "فورب" لأول مرة، قالت لوالدى: لم أر في حياتى ما هو أكثر جمالًا من هذا الشاب. بيد أن جماله لم يجنبه اللوم والتوبيخ لأنه هو الذى أتى بالثعبان ليفزعنا على سبيل المزاح. أنذرته السيدة "فورب" أنه يجب رفع الثعبان بطريقة لائقة بحيوان مقدس. ثم أمرتنا بالاغتسال وتبديل ثيابنا استعدادًا للعشاء..
بذلنا مجهودًا كبيرًا حتى ننفذ أوامرها بكل دقة، لقد تعلمنا منذ أن خضعنا لسطوتها منذ أسبوعين أن فن الحياة هو أصعب شىء في الدنيا..
فى أثناء الاستحمام لاحظت أن أخى مازال يفكر فى الثعبان فقال فى خوف: 
ـ عيناه مثل عين الإنسان.
كنت أشعر بالخوف مثله لكنى حاولت أن أبدو متماسكًا، غيرت مجرى الحديث لكنه طلب منى أن أظل جواره، فطمأنته بأن الليل لم يهبط بعد، ولكى أبعث فى نفسه الأمان أزحت الستار. كنا فى منتصف أغسطس، فبدا لنا السهل الخيالى الحار حتى الطرف الآخر من الجزيرة. الشمس مازالت ساطعة. لكنه مع ذلك ظل خائفًا. بيد أنه بدا أكثر هدوءاً أثناء تناول العشاء، بل إنه استطاع الفوز بنقطتين إضافيتين لحسن سلوكه بينما خسرت أنا نقطتين لأننى أسقطت قطعة من الطعام ـ الحصول على خمسين نقطة يمنحنا الحق فى الحصول على وجبة مضاعفة من الحلوى - لكن لم يستطع أحدنا الحصول على أكثر من خمس عشرة نقطة، وهذا شىء مؤسف لأن السيدة "فورب"  تتقن صناعة الحلوى الشهية..
قبل الجلوس على مقاعدنا صلينا واقفين أمام الأطباق الفارغة رغم أن السيدة  "فورب" لم تكن كاثوليكية، لكن عقدها مع والدى ينص على أنه يجب الصلاة ست مرات يوميًا، ثم جلسنا ثلاثتنا نلتقط أنفاسنا بينما راحت هى تتفحص أوضاعنا بدقة متناهية، وعندما تأكدت من انضباط كل شىء دقت الجرس، فدخلت "فولفيا فلامينا" الطباخة تحمل الطبق اليومى من حساء الشعيرية.
فى الماضى، عندما كنا مع والدينا، كانت "فولفيا" تخدمنا وهى تدور حول المائدة، لأننا كنا نجلس سعداء على سجيتنا دون التقيد بنظام محدد، ثم تجلس معنا، نلتقط الطعام من أطباق بعضنا البعض فى مرح وسعادة. منذ أن أصبحت السيدة "فورب" مسؤولة عن تربيتنا  أصبحت "فولفيا" تخدمنا بهدوء كثيف حتى أننا نسمع صوت غليان الحساء فى الآنية، أصبح للعشاء نظام دقيق، يجب مضغ الطعام عشر مرات على الجانب الأيمن ثم عشر مرات على الجانب الأيسر، مراقبين بنظرات شرسة من هذه السيدة العجوز التى تتقن كل قواعد البروتوكول. لقد أصبح للعشاء رهبة مثل القداس  لكن بلا غناء..
يوم أن وجدنا الثعبان البحرى، حدثتنا السيدة "فورب" أثناء العشاء عن الواجب الوطنى. ووضعت "فولفيا" فى أطباقنا بعد الحساء لحمًا مشويًا شهى الرائحة. بما أننى كنت أفضل الأسماك عن كل أنواع الغذاء لم أملك سوى الحسرة على الأيام الخوالى مع والدى. لكن أخى أزاح الطبق دون أن يتذوقه قائلًا: 
ـ لا يروق لى اللحم.
قطعت السيدة "فورب" الدرس قائلة: 
ـ لا تستطيع أن تحكم على شىء لم تجربه.
ثم نظرت إلى الخادمة نظرة محذرة، لكن اندفعت "فولفيا" قائلة: 
- الثعبان البحرى من أشهى الأسماك. ذقه وستتأكد من ذلك جيدًا..
لم ترتبك السيدة "فورب" وراحت تقص علينا بأسلوبها الصارم ما يُقال عن ثعبان البحر فى التراث القديم: إنه فاكهة الملوك، كان الجنود يحقدون على الملوك لأنهم يعتقدون أن ثعبان البحر يمنحهم شجاعة غير طبيعية. ثم راحت تعدد مزاياه الكثيرة بحيث لم تبق لنا عذرًا واحدًا للامتناع عن الطعام. 
بما أننى قد تذوقته من قبل أن أعرف ماهيته، لم أستطع التراجع الآن. رائحته شهية لكن حزينة جدًا. صورة الثعبان المطل من إطار الباب لا تفارق ذهنى. تناول أخى القطمة الأولى بعد مجهود جبار،  وسرعان ما  تقيأ  كل ما بجوفه. قالت السيدة "فورب" دون أن يرتجف لها جفن: 
- اذهب إلى دورة المياه، نظف نفسك وعد لتكمل عشاءك.
شعرت بجذع شديد لأننى أقدر مدى الخوف الذى سيشعر به وهو يخترق المنزل بأكمله فى الظلام، ثم البقاء فى دورة المياه بمفرده لتنظيف ملابسه. لكنه عاد سريعًا يرتجف مرتديًا قميصًا نظيفًا. لقد نجح فى هذا الاختبار القاسى. وضعت السيدة "فورب" قطعة أخرى من ثعبان البحر فى طبقه وأمرته بإتمام عشائه.  لكن  أخى رفض رفضًا قاطعًا. فقالت بهدوء: 
ـ حسن. أنت محروم من الحلوى.
بعث رفض أخى الشجاعة فى نفسى فتركت الشوكة قائلًا:
ـ أنا أيضًا لا أريد الحلوى.
ـ ولن تشاهد التليفزيون.
        وضعت السيدة "فورب" المنشفة على المنضدة، وقفنا نحن الثلاثة  لنصلى، ثم أمرتنا بالذهاب للنوم فورًا. كل النقاط التى قد اكتسبناها ضاعت الآن. كما أخبرتنا بأننا لن نتناول الحلوى بالكريمة أو البسكويت بالفانيليا إلا بعد اكتساب عشرين نقطة.  وكان من الطبيعى أن نصل إلى مثل هذا الصدام..
لقد انتظرنا هذا الصيف لمدة عام كامل نحلم بالحرية والانطلاق فى جزيرة هادئة نائية، لكن لم يدم انطلاقنا سوى الشهر الأول فقط، حين كنا مع والدينا. مازلت أذكر حتى الآن  مرحنا تحت الشمس الساطعة، نسبح فى البحر السرمدى، نقفز على الدرج الجيرى فى مدخل المنزل، قضينا ليالى صافية بلا عواصف نتأمل أضواء الفنار. غطست لأول مرة مع والدى، اكتشفنا معه عمق البحر. اكتشفنا مجموعة من السفن الغارقة منذ الحرب الأخيرة، عثرنا فى إحداها على جرة نبيذ اعتقد أبى أنه قد أصبح سامًا الآن وتعرفنا على "فولفيا فلامينا"..
كانت مثل المطران السعيد، تمشى فى خفة ورشاقة القطة الناعسة. تصحبنا فى المساء إلى بيتها الذى يبعد عن منزلنا مائة متر فقط بينما يشاهد والدى برامج التليفزيون الخاصة بالكبار. فى منزلها  تعلمنا العادات القديمة والأغانى الشعبية.. زوجها يبدو صغيرًا بالنسبة لها، يعمل طوال شهور الصيف فى الفنادق السياحية القائمة فى الطرف الآخر من الجزيرة  ولا يعود إلا من أجل النوم فقط..
"أورست" يعيش مع والديه بالقرب من هنا. يأتى كل مساء محملًا بالأسماك الطازجة التى اصطادها فى سلة من الخوص، يضعها فى المطبخ، ليأخذها زوج "فولفيا" صباح اليوم التالى ليبيعها للفنادق. ثم يضع "أورست" مصباح الغطس على جبينه ويأخذنا لنصطاد معه القواقع، ثم نعود لمنزلنا لنجد والدينا قد غطّا فى سبات عميق. لا ننام إلا بعد جهد طويل نتيجة الضجة التى تحدثها القوارض فى صحن الدار. لكن هذه المضايقة البسيطة كانت كالسحر بالنسبة لنا..
قرار انتداب مربية ألمانية لا يمكن أن يصدر إلا من والدى. كاتب من البحر الكاريبى له طموحات كبيرة وموهبة ضئيلة. لأنه مبهور بأمجاد أوروبا فلقد كان دائمًا ما ينكر أصله سواء فى كتاباته أو فى حياته الشخصية، لا يريد أن يجعلنا نعرف شيئًا عن ماضيه. بينما كانت والدتى فى غاية البساطة والتواضع، دائمًا ما ترى أن أفكار والدى ما هى إلا وحى سماوى. لم يفكر أحدهما كيف ستكون حياتنا تحت سطوة هذا العسكرى الألمانى الذى يحاول أن يرسخ فى نفوسنا بالقوة أدق وأعقد تقاليد المجتمع الأوروبي..
وصلت السيدة "فورب" فى الأسبوع الأخير من شهر يوليو بالسفينة. عندما رأيناها لأول مرة أدركنا أن عصر البهجة قد ولى. تمشى تحت حر الشمس القائظة ترتدى حذاء برقبة طويلة وفستانا بياقة ضخمة، شعرها قصير مثل الرجال تغطيه بقبعة ملبدة. رائحتها عفنة مثل رائحة القرود، فيقول أبي:  إنها رائحة كل الأوروبيين خاصة في الصيف، إنها رائحة الحضارة. بالرغم من روحها العسكرية إلا أنها هزيلة البنيان، كان من الممكن أن نتقبلها لو كنا أكبر من ذلك قليلًا، أو لو أبدت لنا بعض الحنان. تغير كل شىء. تقلص تدريب السباحة إلى ساعة واحدة فقط بعد أن كنا نقضى ست ساعات سعيدة مرحة نسبح على سجيتنا مبهورين بشجاعة "أورست" وهو يصارع الإخطبوط وجهًا لوجه، منعته من الانتظار أكثر من الساعة المحددة. كذلك حرمتنا من زيارات "فولفيا" المسائية في منزلها، لقد اعتبرت ذلك تدخلًا من الخادمة فى شئون الأسرة، وراحت ترسخ فى نفوسنا تحاليل "شكسبير". لم نكن نتخيل ما هو أقسى وأبشع من هذه التعاليم الملكية..
اكتشفنا بعد قليل إنها ليست صارمة معنا فقط، بل مع نفسها أيضًا. فى البداية كانت تجلس تحت الشمسية المتعددة الألوان ترتدى ملابس ما قبل الحرب تقرأ أشعار "شيللر"  بينما نتعلم الغوص من "أورست"، ثم تدرس لنا قواعد السلوك الاجتماعى الراقى لمدة ساعات طويلة حتى وقت الغداء تقريبًا. فى أحد الأيام طلبت من "أورست" اصطحابها الى أحد المتاجر السياحية فى الطرف الآخر من الجزيرة، عادت بعد أن اشترت ثوبا  للبحر من قطعة واحدة أسود لامع فى لون كلب البحر، ومع ذلك لم تستحم أبدًا، بل تجلس تحت أشعة الشمس أثناء دروس الغوص تمسح عرقها بمنشفتها دون أن تتجرع نقطة ماء واحدة، وبعد ثلاثة أيام أصبحت مثل سرطان البحر المسلوق، وأصبحت رائحة الحضارة  لا تُطاق..
منذ حضورها شعرنا بأن هناك أحدًا يمشى فى المنزل المعتم أثناء الليل، هلع أخى من فكرة أن تكون روح أحد الغرقى التائهين الذين حدثتنا عنهم "فوليفيا". لكن اكتشفنا سريعًا أنها السيدة  "فورب" التى كانت تعيش حياة المرأة المنعزلة أثناء الليل. فى فجر أحد الأيام فاجأناها فى المطبخ  ترتدى قميص نوم قديمًا تصنع الحلوى الفاخرة، ملوثة بالدقيق من خصلة شعرها حتى أخمص قدمها. 
تشرب الخمر كأنها شخص آخر غير تلك التى نعرفها. علمنا أنها لا تذهب إلى حجرتها بعد أن تطمئن علينا فى فراشنا، بل تذهب للاستحمام فى الخفاء أو تسهر فى الصالون أمام التليفزيون الذى تخفض من صوته لمشاهدة الأفلام الممنوعة عن الصغار وهى تلتهم الحلوى وتشرب النبيذ الذى يحتفظ به أبى للمناسبات السعيدة، كانت تشرب بشراهة. سمعناها وهى تنشد فى حجرتها بألمانية وخيمة مقطوعات كاملة من أشعار "اورليانز"، سمعناها وهى تبكى فى فراشها حتى الفجر، ثم نراها فى الصباح منتفخة العينين. ومع مرور الأيام تصبح أكثر حزنًا وأكثر تسلطًا.
كنت على استعداد لتجرع الكأس حتى الثمالة، ولكن واجهها أخى بكل تقلباتها فتحول الصيف السعيد إلى جحيم. كانت حادثة الثعبان البحرى هى الحد الفاصل القاطع، فى هذه الليلة، بينما كنا نسمع الحركة الدائمة فى المنزل المظلم قال أخى بتصميم منفثًا عن الأحقاد المكبوتة بداخله:
ـ سأقتلها.
لم أندهش من قراره، لكن اندهشت من أن نفس الفكرة كانت تراودنى فى نفس اللحظة، بالرغم من ذلك حاولت أن أثنيه قائلًا: 
ـ سيحكمون عليك بالإعدام.
ـ لا يوجد هنا حكم بالإعدام، ثم إنهم لن يعرفوا القاتل..
كان يفكر فى جرة النبيذ السام التى أخرجناها من عمق البحر ـ  كان أبى مازال يحتفظ بها بغية إجراء تحليلات كيماوية لها لمعرفة نوع السم ومدى فاعليته ـ لو نجحنا فى استخدام هذا السم فى قتلها ستعتبرها الشرطة قضية انتحار أو حادثًا عابرًا، نجحنا فى دس السم لها فى زجاجة النبيذ التى كان أبى يحتفظ بها للمناسبات السعيدة وتذكرنا قوله: من الممكن أن تكون أقل جرعة كافية لقتل حصان..
بعد يومين، أثناء تناول الإفطار الذى تعده لنا السيدة "فورب" بنفسها، فهمت من نظرات أخى أن زجاجة النبيذ السام لم يمسها أحد حتى الآن. كان ذلك يوم الخميس، لم تشرب طوال الأسبوع، لكن فى سهرة الثلاثاء شربت نصف الزجاجة وهى تشاهد الأفلام الجنسية فى التلفزيون. بالرغم من ذلك كانت تجلس معنا صباح الأربعاء تتناول الإفطار وهى تنظر إلينا نظراتها القلقة المعتادة من خلال عدسات نظاراتها السميكة. رأينا فى سلة الخبز خطابًا عليه طابع بريد ألمانى قرأته وهى ترتشف القهوة ـ كانت تمنعنا من الكلام أو القراءة أثناء تناول الطعام ـ لاحظنا الابتهاج على وجهها ثم خلعت الطوابع ووضعتها فى السلة مع بقايا الخبز لتكمل مجموعة الطوابع التى يجمعها زوج "فولفيا".  ثم حدث ما أثار فى نفوسنا الحقد، كأنها تعاندنا أو تشمت فينا..
غطست معنا لاكتشاف عمق البحر أثناء تدريب السباحة وعدنا إلى المنزل دون أن تلقننا دروسًا جديدة فى فنون البروتوكول الثقيلة. كانت فى حالة نفسية طيبة جدًا، بدت مفعمة بالحيوية والنشاط على غير عادتها أثناء العشاء، لكن أخى لم تكن تنقصه الشجاعة، أبعد طبق حساء الشعرية قائلًا:
ـ لقد سئمت هذا الطبق..
شحب وجهها، تجمدت شفتاها، سقطت دموعها على عدسات نظارتها، رفعتها ونظفتها بالمنشفة، ثم هبت واقفة وهى تقول:
- افعلا ما تشاءان، لن أستمر معكما..
دخلت حجرتها منذ السابعة مساء، لكن بعد منتصف الليل ـ عندما اعتقدت أننا نائمان ـ رأيناها تسير فى المنزل ترتدى ثوب النوم القديم، تحمل طبق الحلوى بيد وباليد الأخرى تحمل زجاجة النبيذ السام. ارتجفت شفقة على المسكينة، قال أخى:
- نحن المساكين إن لم تمت..
لم نسمعها فى هذه الليلة وهى تنشد قصائد "شيللر"، اختفت صرختها الختامية المسعورة التى ترج المنزل كل ليلة.
استيقظنا فى الصباح منهكين من أثر توتر الليلة السابقة. لاحظنا أضواء الشمس الساطعة تدخل الحجرة من خلال النافذة المغلقة. كنا فى العاشرة صباحًا. لم توقظنا السيدة "فورب" فى الثامنة كعادتها. المنزل هادئ ساكن. لم نعد نسمع صوت صنبور المغسلة ولا طرقات الحديد الموجودة بنعل حذائها، ولا الثلاث ضربات المفزعة على الباب كأنها نخاس قديم يسوق العبيد. ألصق أخى أذنيه على الحائط، لم يسمع أى حركة فى الحجرة المجاورة فتنفس الصعداء سعيدًا بنشوة الحرية.
قبل أن تأتى "فولفيا" أعددنا الإفطار فى الحادية عشرة، ثم هبطنا إلى الشاطئ ومع كل منا أسطوانتان من الأكسجين بالإضافة إلى أسطوانتين إضافيتين. رأينا "أورست" فى انتظارنا، أخبرناه بأننا انتظرنا السيدة "فورب" حتى الحادية عشرة، لكن بما أنها كانت تغط فى نوم عميق قررنا الهبوط إلى الشاطئ بمفردنا، كما أخبرناه ببكائها على العشاء ليلة البارحة، ربما تكون قد فضلت البقاء فى الفراش لتستريح من أرق الليلة السابقة، لم يهتم بحديثنا وغطس معنا أكثر من ساعة، ثم أمرنا بالعودة وأبحر بزورقه، فعاودنا الغطس بمفردنا بحرية مطلقة.
كانت هناك غمامة وصوت رعد يأتيان من الأفق، لكن البحر صافٍ رائقٍ، سبحنا حتى وصلنا إلى الفنار، ذهبنا إلى المكان الذى رأينا فيه من قبل سفن الحرب الغارقة، تجولنا خلف الفنار بحثُا عن المدينة التى طالما حدثتنا عنها "فولفيا"، لم نجد شيئًا، صعدنا إلى السطح بعد ساعتين.
لقد هبت عاصفة صيفية أثناء الغطس، فوجئنا بالأمواج العاتية والطيور الجارحة تحلق فى السماء تصيح فى شراسة بحثًا عن الأسماك المنهكة بطول الشاطىء. بالرغم من ذلك كنا سعداء بالحرية بعيدًا عن السيدة "فورب". صعدنا على الصخور الوعرة بعد مشقة كبيرة فرأينا حشدا كبيرا من الناس يتكدس داخل منزلنا وسيارتي شرطة تقفان أمام الباب. حاول أخى التراجع قائلًا: 
ـ لن أدخل.
كان لدىّ شعور أكيد بأننا سنكون بعيدين عن الشبهات إذا رأينا جثتها. فقلت له:
ـ اهدأ. ولا تقل إلا كلمة واحدة: لا نعرف شيئًا..
لم يلتفت أحد لوجودنا. خلعنا أمام الباب عدة الغطس، دخلنا خلال رواق جانبى حيث كان هناك رجلان يجلسان يدخنان بجوار النقالة. عربة الإسعاف تقف أمام الباب الخلفى حولها جمع من العسكر. فى الصالون يجلس جيراننا من النساء يصلون بينما يتجمع أزواجهن فى حديقة المنزل يتحدثون عن أشياء كثيرة غير الموت. أمسكت أخى من يده الباردة المتجمدة ودخلنا.
كان باب حجرتنا مفتوحًا كما تركناه فى الصباح، هناك ضابط شرطة يعاين حجرة السيدة "فورب" الملتصقة بحجرتنا، باب حجرتها كان مفتوحًا فألقينا نظرة أخيرة عليها. وكان مشهدًا لا يُنسى. 
رجلان مدنيان يقيسان المسافة بين الفراش والحائط، الثالث يلتقط الصور. لم تكن السيدة "فورب" على فراشها، بل ممددة على الأرض عارية غارقة فى بحر من الدم الجاف، جسدها ممزق بسبع وعشرين طعنة خنجر مميتة. استنتج رجال الشرطة أنها انتحرت نتيجة صدمة عاطفية من حب يائس دون أن تصرخ ودون دمعة واحدة.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: ترجمات قطوف بالرغم من ا أنها قائل ا من ذلک دون أن

إقرأ أيضاً:

دير السيدة العذراء يستقبل الزوار بإجراءات أمنية مشددة

دير السيدة العذراء في جبل درنكة بمحافظة أسيوط يشهد منذ بداية صوم العذراء 2025 إقبالاً كثيفًا من الزوار المسيحيين والمسلمين على حد سواء. ويستمر الدير في استقبال الرواد لمدة خمسة عشر يومًا، بدءًا من 7 أغسطس وحتى 21 أغسطس، مع تكثيف الإجراءات الأمنية لضمان سلامة الزائرين خلال فترة الاحتفالات.

بوابات إلكترونية وفِرَق تفتيش منتشرة في مداخل الدير تراقب الدخول، مع التأكيد على ضرورة حمل بطاقة إثبات هوية لكل زائر. وتأتي هذه الإجراءات في إطار حرص إدارة الدير على توفير بيئة آمنة للزوار والمصلين خلال الصوم الذي يمثل أحد أهم المناسبات الروحية للمسيحيين في مصر.

قداسات ونهضات صوم العذراء تحت إشراف الأنبا يؤانس

يتولى نيافة الأنبا يؤانس، أسقف أسيوط، قيادة القداسات والنهضات الروحية على مدار فترة الصوم، حيث تُقام النهضات اليومية من الساعة الخامسة وحتى العاشرة مساءً. ويستقبل الدير سنويًا نحو مليوني زائر من مختلف محافظات مصر، ما يعكس مكانة دير السيدة العذراء كوجهة روحية مهمة تجمع بين المؤمنين من مختلف الديانات.

ويترأس الأنبا يؤانس أيضًا زفة أيقونة السيدة العذراء، وهي لحظة محورية تعكس تقاليد الاحتفال بالصوم والتقديس للقديسة مريم العذراء. ويحرص الزوار على المشاركة في هذه الطقوس بهدف التضرع إلى العذراء طلبًا للبركات وتلبية النذور الشخصية.

أهمية دير السيدة العذراء التاريخية والدينية

يعود قدسية دير السيدة العذراء بجبل أسيوط الغربي إلى زيارة العائلة المقدسة لمصر، حيث أقامت العذراء مريم والطفل يسوع مع القديس يوسف النجار فترة من الزمن في مغارة الدير بعد رحلتهم من فلسطين مرورًا بصحراء سيناء وبلاد الوجه البحري وصولًا إلى صعيد مصر. وتعتبر هذه الزيارة جزءًا من التاريخ الديني العريق الذي يعزز من مكانة الدير ويجعل منه مقصدًا للزوار الباحثين عن الروحانية والتأمل.

صوم العذراء وطقوسه الخاصة

صوم العذراء يصنف ضمن الصوم من الدرجة الثانية، ويُسمح خلاله بتناول الأسماك، ما عدا يومي الأربعاء والجمعة، بينما يختار بعض الأقباط الالتزام بنظام نباتي كامل أو الصيام بالماء والملح، خصوصًا أصحاب النذور الذين يلتزمون بالصوم تضرعًا لتحقيق طلباتهم عند العذراء. ويتميز هذا الصوم بالانضباط الروحي والزهد في المأكل، حيث يسعى المؤمنون خلاله إلى تعميق الصلة بالله عبر الصلاة والعبادة المستمرة.

مقالات مشابهة

  • ماهر فرغلي: هناك عناصر في أمريكا ثبت أنها كانت مع جماعة الإخوان
  • بوتين: المحادثات مع ترامب كانت صادقة وجوهرية
  • كانت أم وجدة حنينة..رانيا فريد شوقي تحيي ذكرى ميلاد هدى سلطان
  • بوتين: أوكرانيا كانت إحدى القضايا الرئيسة في محادثاتي مع ترامب
  • ماذا تفعل إذا كانت قدميك باردة باستمرار؟
  • المطران إبراهيم في عيد السيدة: كم يحتاج لبنان اليوم إلى نجاتك
  • دير السيدة العذراء يستقبل الزوار بإجراءات أمنية مشددة
  • البرهان يتحدى الضغوط الدولية: لا مصالحة مع الدعم السريع مهما كانت الكلفة
  • وزير الثقافة مع فتيات البرنامج الرئاسي لأبناء المحافظات الحدودية: الثقافة المصرية كانت وستظل مِلكًا لأهل مصر