في مشهد جديد يعكس تعقيدات الصراع المستمر في الشرق الأوسط، عادت إلى الواجهة تقارير دولية تتحدث عن محادثات إسرائيلية مع دول أجنبية ـ بينها دول أفريقية ـ تهدف إلى إعادة توطين فلسطينيين من قطاع غزة في أراضٍ خارجية.

وبينما نُشرت هذه المعلومات في وسائل إعلامية مرموقة كصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، تبقى الأسئلة الكبرى مطروحة: هل نحن أمام خطوة عملية تتبلور خلف الكواليس؟ أم مجرد تسريب سياسي له أهداف تتجاوز الظاهر؟ خاصة مع نفي خارجية جنوب السودان لما أوردته هذه التقارير.



معلومات أولية.. ومفاوضات لم تنضج

بحسب ما أوردته الصحيفة الأمريكية في تقرير مفصل بتاريخ 12 أغسطس/آب 2025، بعنوان "إسرائيل تجري محادثات لإمكانية إعادة توطين فلسطينيين من غزة في جنوب السودان"، فإن مسؤولين إسرائيليين أجروا اتصالات استكشافية مع حكومة جنوب السودان، بهدف بحث إمكانية استقبال نازحين فلسطينيين من غزة، كجزء من تصور موسّع لـ "حل إنساني" للوضع السكاني المتأزم في القطاع.

ورغم أن التقرير يشير إلى أن هذه المباحثات لا تزال في مراحلها الأولى، فإن مجرد طرح الفكرة أثار موجة من ردود الفعل داخل الأوساط السياسية والإعلامية.

مصدر دبلوماسي مطلع، تحدث للصحيفة دون الكشف عن هويته، أكد أن المقترح لم يأتِ من فراغ، بل من داخل أوساط يمينية في إسرائيل، ترى أن استمرار وجود أكثر من مليوني فلسطيني في غزة ـ في ظل الحصار والصراع المتواصل ـ يمثل "معضلة أمنية وديموغرافية" لا حل لها إلا بتفريغ جزئي أو تدريجي للقطاع.

يبدو أن خيار جنوب السودان ـ رغم هشاشة وضعه الداخلي ـ قد طُرح لكونه دولة حديثة العهد، تربطها علاقات تعاون مع إسرائيل، وقد تكون أكثر مرونة سياسيًا في التعامل مع مثل هذه المقترحات الحساسة.ومع أن التقرير لم يؤكد وجود اتفاق فعلي، إلا أن مجرد انخراط إسرائيل في مثل هذه الحوارات يفتح الباب أمام نقاشات أوسع بشأن نواياها المستقبلية، خصوصًا في ظل فشلها في كسر المقاومة العسكرية في غزة رغم الحملات المتكررة.

ما وراء التوقيت.. ولماذا جنوب السودان؟

طرح هذا النوع من المبادرات في هذا التوقيت تحديدًا ليس مصادفة. فإسرائيل، التي تواجه ضغوطًا متصاعدة بسبب الوضع الإنساني في غزة، تسعى إلى تقديم "بدائل" توحي بأنها تبذل جهودًا لتخفيف المعاناة، لكن دون المساس باستراتيجيتها الأمنية.

من هنا، يبدو أن خيار جنوب السودان ـ رغم هشاشة وضعه الداخلي ـ قد طُرح لكونه دولة حديثة العهد، تربطها علاقات تعاون مع إسرائيل، وقد تكون أكثر مرونة سياسيًا في التعامل مع مثل هذه المقترحات الحساسة.

جدير بالذكر أن وكالة أسوشيتد برس سبق وأفادت بمحادثات مماثلة بادرت بها إسرائيل والولايات المتحدة مع السودان والصومال، وهما دولتان تعانيان من الحرب والجوع، بالإضافة إلى إقليم أرض الصومال الانفصالي، كوجهات محتملة لهذا "التوطين"، ولا يُعرف مصير هذه المحادثات.

وفي الثالث عشر من أغسطس/آب 2025 أصدرت وزارة خارجية جنوب السودان، بيانا نفت فيه صحة التقارير الإعلامية حول هذا الموضوع، وقالت إن هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة. ويطرح ذلك سؤلا حول مصداقية ما تم تداوله، وما إذا كانت هذه التسريبات يهدف اختبار ردود الأفعال أو التمهيد لطرح سياسي قادم.

يُعد ملف اللاجئين الفلسطينيين عنصرًا محوريًا في الصراع العربي الإسرائيلي، إذ تصر الأطراف الفلسطينية والدول الداعمة لها على أن حق العودة هو حق غير قابل للتنازل، ومكفول بقرارات دولية. وأي طرح لتوطين الفلسطينيين خارج الأراضي الفلسطينية يُنظر إليه باعتباره محاولة لنسف هذا الحق من أساسه.اللافت أن التقرير الأمريكي لم يذكر بشكل قاطع وجود مفاوضات مع دول عربية بعينها، على عكس ما تم تداوله في منصات التواصل وبعض المواقع الإخبارية ذات التوجهات الدعائية، والتي أشارت إلى دول مثل ليبيا، ومصر، وسوريا، دون أن تستند إلى مصادر موثوقة أو تصريحات رسمية.

هذا التركيز المتكرر على الدول العربية دون غيرها يرتبط بعدة أبعاد استراتيجية:

أولا ـ استهداف حق العودة

يُعد ملف اللاجئين الفلسطينيين عنصرًا محوريًا في الصراع العربي الإسرائيلي، إذ تصر الأطراف الفلسطينية والدول الداعمة لها على أن حق العودة هو حق غير قابل للتنازل، ومكفول بقرارات دولية. وأي طرح لتوطين الفلسطينيين خارج الأراضي الفلسطينية يُنظر إليه باعتباره محاولة لنسف هذا الحق من أساسه.

ثانيا ـ تحميل العرب تبعات الاحتلال

يرتبط هذا النوع من المزاعم بمحاولة تحميل بعض الدول العربية مسؤوليات إضافية عن الأعباء التي خلقتها السياسات الإسرائيلية، سواء على صعيد الحروب أو الحصار، كما يُستخدم لتأليب الرأي العام العربي على حكوماته من خلال الإيحاء بوجود "صفقات سرية" على حساب الفلسطينيين.

ثالثا ـ الضغط الإعلامي والنفسي

يندرج الحديث عن مزاعم التوطين في سياق الضغط الإعلامي، وكجزء من أدوات الحرب النفسية التي تستهدف تقويض الروح المعنوية، وإيصال رسائل ضمنية بأن "الرحيل" هو الخيار الوحيد المتاح، وأنه لا أمل في بقاء آمن أو مستقر في غزة.

اختبار ردود الفعل

يرى مراقبون سياسيون أن مثل هذه المزاعم تأتي ضمن محاولات بعض الأطراف "اختبار ردود الفعل"، سواء من الحكومات المعنية أو من الشارع العربي.

 ولا يبدو أن أياً من الدول العربية المذكورة أبدت استعدادًا للتعاطي مع مثل هذه الطروحات، بل إن بعضها ـ وعلى رأسها مصر ـ أعلن رفضه القاطع لأي مشروع توطين على أراضيه.

مصر وسيناء.. خط أحمر واضح

لم تكن هذه المرة الأولى التي يتم فيها تداول سيناريو "توطين فلسطينيين في سيناء".

فعلى مدار السنوات الماضية، ظهرت مرارًا تسريبات عن ضغوط دولية، وحتى طروحات إسرائيلية، تقضي بجعل أجزاء من شمال سيناء ملاذًا مؤقتًا أو دائمًا لسكان غزة. إلا أن مصر، وعلى لسان قياداتها السياسية والعسكرية، أكدت مرارًا أن هذا الخط الأحمر لا يمكن تجاوزه، لما له من تداعيات على الأمن القومي، والسيادة، والتركيبة السكانية في منطقة حساسة استراتيجيًا.

على مدار السنوات الماضية، ظهرت مرارًا تسريبات عن ضغوط دولية، وحتى طروحات إسرائيلية، تقضي بجعل أجزاء من شمال سيناء ملاذًا مؤقتًا أو دائمًا لسكان غزة. إلا أن مصر، وعلى لسان قياداتها السياسية والعسكرية، أكدت مرارًا أن هذا الخط الأحمر لا يمكن تجاوزه، لما له من تداعيات على الأمن القومي، والسيادة، والتركيبة السكانية في منطقة حساسة استراتيجيًا.في هذا السياق، يقول أحد الباحثين في الشأن الفلسطيني "إن مجرد طرح فكرة التوطين، ولو إعلاميًا، يُعد إهانة للذاكرة العربية، ومحاولة لإعادة إنتاج نكبة جديدة بأساليب ناعمة، وتحت غطاء إنساني مخادع".

ما الذي تريده إسرائيل حقًا؟

في العمق، لا تبدو نوايا إسرائيل إنسانية أو تنظيمية. فالمؤشرات السياسية والميدانية توحي بأن المشروع الأوسع يتمثل في تقليص الوجود الفلسطيني على الأرض عبر وسائل غير تقليدية، تبدأ من الضغط العسكري، ولا تنتهي بإغراءات الهجرة أو الطرد المقنّع.

ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية، تحت تأثير تيارات يمينية متشددة، باتت تعتبر أن أي حل للصراع يجب أن يتضمن "ترتيبًا سكانيًا جديدًا"، يُفرغ الأرض من أهلها، أو على الأقل يقلل من تواجدهم السياسي والمجتمعي.

في مقابل ذلك، تبقى التحركات الدولية محدودة، فيما تزداد المخاوف من أن يؤدي استمرار الحرب ومحاولات التهجير القسري في نهاية المطاف إلى خلق أمر واقع يصعب التراجع عنه.

ويأتي تجدد الحديث عن سيناريوهات التوطين في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية على القطاع، وخطة مرتقبة لاجتياح مدينة غزة، وسط تقارير إعلامية تفيد بأن حماس وافقت على اقتراح هدنة جديدة لوقف إطلاق النار لمدة 60 يومًا، يتضمن تبادل جزئي للرهائن ومفاوضات لاحقة حول وقف شامل، وذلك بتاريخ 18 أغسطس/آب 2025.

ختاما.. التوطين هو الورقة القابلة للاشتعال

مهما تعددت التسريبات وتنوعت التقارير، فإن الحقيقة الثابتة، هي: أن أي محاولة لتهجير الفلسطينيين قسرا خارج أرضهم، أو توطينهم في بلد آخر، سواء عبر صفقات سياسية أو تحت ستار مبادرات إنسانية مموّهة، ستظل امتدادا لنكبة مستمرة منذ عام 1948.

والمسؤولية لا تقع على الفلسطينيين وحدهم، بل على العالم العربي والمجتمع الدولي الذي يُفترض أن يحمي حقوق الشعوب لا أن يُشارك بصمته في إزاحتها.

ليس المهم من قال، بل من يجرؤ على التنفيذ. وحتى اللحظة، لا يزال التوطين مجرّد ورقة سياسية في لعبة كبرى، لكنها ورقة قابلة للاشتعال.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء فلسطينيين الاحتلال الرأي التهجير احتلال فلسطين تهجير رأي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة جنوب السودان مثل هذه مرار ا فی غزة

إقرأ أيضاً:

الولايات المتحدة تطالب إسرائيل بإزالة الأنقاض من غزة

طلبت الولايات المتحدة من إسرائيل تحمل تكاليف إزالة الأنقاض من قطاع غزة، بعد عامين من العدوان بتكلفة تُقدّر بمليارات الشواكل. 

إزالة أنقاض غزة

وقالت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، إنه واشنطن طالبت إسرائيل بتحمّل تكاليف إزالة الدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزة خلال العامين الماضيين من القتال، بما في ذلك قصف سلاح الجو وهدم المباني باستخدام جرافات .

التصعيد يقترب .. جيش الاحتلال يهدد لبنان بخطة عسكرية غير مسبوقةأبناء شقيق مادورو.. الخزانة الأمريكية تفرض عقوبات ضد فنزويلا

ونقلت يديعوت أحرونوت عن مصدر سياسي رفيع، أن إسرائيل وافقت على هذا المطلب مؤقتًا.

وذكر تقرير في صحيفة "وول ستريت جورنال" هذا الأسبوع أن غزة تُعاني من تراكم 68 مليون طن من مخلفات البناء، حيث دُمّر أو تضرّرت معظم المباني في القطاع. 

بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، المشرف على إزالة الأنقاض في غزة، يُقدّر الوزن التراكمي لمخلفات البناء في القطاع بنحو 68 مليون طن. 

الإدارة الذاتية الكردية: إحباط محاولة هروب نساء وأطفال من مخيم الهولنيودلهي تواجه الضربة الأمريكية .. محادثات بين مودي وترامب بشأن الرسوم الجمركية

ووفقًا لحسابات صحيفة أمريكية، يُعادل هذا الوزن وزن نحو 186 مبنى، مثل مبنى إمباير ستيت في نيويورك.

إعادة إعمار غزة

وتُعدّ إزالة الأنقاض شرطًا أساسيًا لبدء أعمال إعادة إعمار غزة في المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار وترغب الولايات المتحدة في البدء بإعادة إعمار منطقة رفح، آملةً أن تجعلها نموذجًا ناجحًا لرؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإعادة الإعمار، وبالتالي استقطاب العديد من السكان من مختلف أنحاء قطاع غزة، على أن تُعاد إعمار المناطق التي تم إخلاؤها في مراحل لاحقة.

طباعة شارك الولايات المتحدة إسرائيل إزالة الأنقاض من غزة إزالة أنقاض غزة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إعادة إعمار غزة

مقالات مشابهة

  • إسرائيل تصف الرئيس السيسي بأنه حجر عثرة ضد تهجير الفلسطينيين وتصفية القضية |فيديو
  • مقتل 6 مدنيين على الأقل في قصف مبنى الأمم المتحدة بجنوب السودان
  • وزير الخارجية: مصر ترفض محاولات تهجير الفلسطينيين وتؤكد ضرورة تنفيذ خطة الرئيس ترامب
  • النفط يُحمى.. والشعب السوداني يترك للمجهول!
  • مصر تحذر أمريكا من محاولات إسرائيل فرض وقائع جديدة في غزة
  • الأمم المتحدة تعتمد قرارًا يلزم “إسرائيل”بإدخال المساعدات وعدم تهجير الفلسطينيين بغزة
  • جنوب السودان يتولى أمن حقل هجليج النفطي بعد سيطرة الدعم السريع
  • الولايات المتحدة تطالب إسرائيل بإزالة الأنقاض من غزة
  • عاجل- السيسي وملك البحرين يؤكدان رفض أي محاولات لتهجير الفلسطينيين ويشددان على إعادة إعمار غزة
  • الرئيس السيسي وملك البحرين يؤكدان ضرورة بدء إعادة إعمار غزة