من جديد، يخرج علينا بعض الساسة بمبادرات مريبة تحت عناوين براقة من قبيل "المصالحة الوطنية" و"إعلاء مصلحة الوطن". كلمات منمقة، وشعارات رنانة، لكنها في حقيقتها لا تعدو أن تكون طوق نجاة لنظام فقد شرعيته منذ أن اغتصب السلطة على جماجم المصريين عقب انقلاب 2013. هذه الدعوات مهما اختلفت صيغها أو تحايلت على اللغة تحمل مضمونا واحدا لا لبس فيه: إنقاذ النظام من ورطته، ومنحه قبلة حياة سياسية هو في أمسّ الحاجة إليها، بينما يغرق في أزمات غير مسبوقة داخليا وخارجيا.



النظام الذي يحكم مصر اليوم لم يعد يملك سوى أدوات البطش والقمع. هو نظام أضاع كل رصيد، وأحرق كل الجسور مع شعبه، وأثقل الدولة بديون لا يمكن سدادها، وجعل من مصر دولة مرهونة للخارج. هذا النظام لم يعد يحكم بالإجماع أو حتى بالرضا الصامت، بل بالقهر وحده، وسط غضب شعبي متصاعد وانهيار اقتصادي شامل جعل حياة المواطن جحيما لا يُطاق. وعلى الصعيد الإقليمي، فشل في كل ملف تولاه: في غزة تواطؤ وفضيحة وجريمة أخلاقية وإنسانية وعروبية قومية، ومع دول الجوار والإقليم توتر وفقدان وزن سياسي، وحتى في علاقاته الدولية بات ورقة مستهلكة بيد من يمسك بخيوطه.

في مثل هذا السياق المنهار، يطل علينا من يروج لفكرة "الحوار الوطني"؛ حوار مع مَن؟ ومع أي سلطة؟ هل يُعقل أن يكون الحوار مع سلطة قتلت خيرة شباب هذا البلد، وملأت السجون بعشرات الآلاف من الأبرياء، ونهبت ثروات مصر وباعت أرضها ومقدراتها؟ أي حوار هذا الذي يطلب من الضحية أن تصافح الجلاد، ومن المقهور أن يبتسم للجلاد الذي يده ملطخة بالدماء؟

الأخطر أن هذه المبادرات لا تأتي في فراغ، بل في لحظة يتشكل فيها وعي جمعي حقيقي، وتتصاعد فيها أصوات الشعب الحرة داخل مصر وخارجها، لتقول بوضوح إن هذا النظام انتهى، وإن استمراره لم يعد ممكنا. لكن بدلا من البناء على هذه اللحظة التاريخية، يحاول البعض جرّ مناهضي النظام الحالي إلى مستنقع "المبادرات" والحوارات الشكلية، لتفكيك الموقف الوطني الجامع الذى يجب أن يكون وإضاعة الزخم الشعبي المتنامي، وإعادة تدوير الطغيان في ثوب جديد.

ومن يتحدث اليوم عن "الحوار الوطني" حتى لو افترضنا سلامة نيته؛ فإنه في حقيقة الأمر يضع يده في يد النظام بشكل غير مباشر نعم، يضع يده في يد سلطة فاقدة للشرعية، ليخرجها من أزمتها ويمنحها شرعية سياسية لا تستحقها، وليقدم لها ما عجزت عن انتزاعه بالقمع والسجون. هذه ليست مبادرة، بل قبلة حياة صريحة للنظام تتجاهل معاناة الشعب الذي لم يعد يحتمل، وخيانة لتضحيات الشهداء والمعتقلين والمشردين.

لقد جُرّب هذا الوهم من قبل، في صيغ مختلفة وتحت مسميات متعددة، وكانت النتيجة دائما واحدة: النظام يزداد قوة وسطوة واستبدادا، والمعارضة تزداد ضعفا وتشرذما، والشعب يُترك وحيدا يواجه القهر. فمن يكرر هذه الأكذوبة اليوم إنما يحاول إعادة إنتاج مشهد مفضوح، لن ينطلي على شعب أدرك الكذب والخداع، وذاق مرارة القمع والاستبداد وخداع هذا النظام.

الحوار الحقيقي لن يكون مع سلطة مغتصبة قتلت ونهبت وباعت، الحوار سيكون بين قوى الشعب الحرة التي تملك مشروعا وطنيا جامعا، يعيد بناء الدولة على أسس الحرية والعدالة والكرامة، الحوار الحقيقي سيكون بين الضحايا أنفسهم، لبناء جبهة وطنية متماسكة تُسقط هذا النظام وتفتح الطريق لمرحلة جديدة، لا بين الجلاد والضحايا تحت سقف واحد يفرضه الطاغية.

أما ما يروج له البعض اليوم، فهو لا يعدو أن يكون مؤامرة جديدة لتأجيل لحظة الحساب، لكنه حساب قادم لا محالة، مهما طال الزمن. الشعب الذي صبر كل هذه السنوات لن يقبل أن يُخدع مرة أخرى، ولن يسمح بأن تتحول دماء أبنائه إلى أوراق تفاوض على طاولة نظام يحتضر.

إن ساعة الحقيقة تقترب، وأي دعوة للحوار مع هذا النظام في هذه اللحظة العصيبة ليست سوى محاولة لإطالة عمر الاستبداد، على حساب أوجاع الناس وحقوقهم. هذا وهم كبير، ووهم قاتل، ولن يكون مصيره إلا السقوط مع سقوط النظام نفسه.

الأهم أن من يطلق هذه المبادرات بدعوة الحوار مع مؤسسات الدولة في الحقيقة؛ لم يذكرها معلنة أنه لا يوجد في مصر من يمتلك اتخاذ أي قرار يخص الحوار أو المصالحة إلا رأس النظام والقوات المسلحة، وما دون ذلك مجرد شكليات ولا يمتلك حتى مجرد قراره.

وأظن أن رأس السلطة منذ ثورة يناير لم نر منه سوى الخديعة تلو الأخرى، وحتى بفرض عقد حوار فلا يوجد ضامن لقراره أو وعوده، فلم نعهد عليه سوى صناعة المؤامرات، ولكل من يريد أن يطرح حلولا أو مبادرات عليه أن يكون أول بنوده رحيل رأس السلطة وإعادة هيكلة الشكل السياسي في مصر ومشاركة كافة القوى دون شروط أو إقصاء.

إن أكثر ما أغضبني أن من طرح تلك المبادرات شخصيات لها باع سياسي وما كان يجب أن تخرج منهم مثل هذه المبادرات. كفى لعبا على مشاعر هذا الشعب فإن هذا الشعب "آن له أن يَحكم".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء المصريين الحوار القمع قوى مصر السيسي قمع حوار قوى قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات مقالات سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذا النظام أن یکون لم یعد

إقرأ أيضاً:

اليمن.. المبادرات المجتمعية بديلاً من مشاريع الدولة الخدمية

وسط أزمات اليمن المتراكمة، تغيب المشاريع الخدمية التي تنفّذها السلطات في البلاد، فيُحرَم المواطنون من الكثير. لكنّ مبادرات تُسجَّل هنا وهناك، تأتي بها جهات مختلفة في محاولات لسدّ النقص الرسمي.

 

مرّ أكثر من أربعين عاماً على شقّ طريق مديرية مشرعة وحدنان، التابعة لمحافظة تعز اليمنية، جنوب غربي البلاد، الذي يربط المديرية بمدينة تعز، غير أنّ أبناء قرية عدن ديمة ظلّوا يحلمون بوصول الطريق إلى قريتهم، وذلك من أجل التخفيف من معاناتهم في نقل المواد التي يحتاجون إليها في عيشهم وكذلك نقل المرضى. يُذكر أنّ الطريق الرئيسي يبعد عن قرية عدن ديمة نحو كيلومترَين، الأمر الذي يضاعف معاناة الأهالي. من هنا، بجهود ذاتية، قرّر الأهالي شقّ الطريق بأنفسهم وبأدوات بدائية عبر مبادرة مجتمعية أنشأوها، وذلك بعد طول خلاف بينهم وبين أهالي قرية المحرس المجاورة على قطعة أرض. وفي النهاية، حُلّت المشكلة بالتحكيم القبلي، وكان التراضي بين الجانبَين.

 

يقول داؤود العبيدي، من أبناء قرية عدن ديمة، لـ"العربي الجديد" إنّ "بعد حلّ الخلاف بين القريتَين، اجتمعنا نحن أبناء قرية عدن ديمة، وقرّرنا شقّ الطريق الفرعي الذي يصل قريتنا بطريق المديرية الرئيسي. فشكّلنا مبادرة مجتمعية، واستعنّا بخبراء قدّموا دراسات هندسية للطريق المزمع إنجازه". يضيف العبيدي أنّ "أهالي عدن ديمة عمدوا إلى تعويض أهالي قرية المحرس عن الأراضي الخاصة بمزارع القات التي سوف يجتازها الطريق. ثمّ بدأوا بشقّ الطريق الذي من شأنه أن يفيد أكثر من ثلاثة آلاف نسمة؛ هم سكان قرى عدن ديمة والنوامي والرباط والأرجام والعويرضة".

 

ويوضح العبيدي: "بدأنا العمل بجهود ذاتية، علماً أنّ سكان القرية هم من المزارعين البسطاء، وليس من بينهم تجّار أو مغتربون قادرون على تقديم الدعم وتبنّي المشروع. وعرضنا مبادرتنا على فاعلي خير عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام محلية، وقد أظهرنا معاناة الأهالي في شقّ الطريق يدوياً". يتابع أنّ "بعد إنجاز نحو نصف الأعمال، تلقّينا دعماً من فاعلي خير، وأتممنا العمل"، واصفاً الطريق بأنّه "إنجاز كبير خفّف كثيراً من الأعباء عن الأهالي الذين بدت واضحة عليهم الفرحة عند وصول أول سيارة إلى القرية".

 

وتُعتبر مبادرة طريق عدن ديمة واحدة من مئات المبادرات الاجتماعية التي نفّذها يمنيون، بوصفها مشاريع خدمية، في ظلّ غياب الدولة، مع العلم أنّ تلك المبادرات تعتمد بصورة رئيسية على المواطنين في تمويلها وإنجازها. ويُسجَّل هذا النوع من المبادرات في الريف اليمني، خصوصاً في محافظات تعز وذمّار وريمة.

 

وكانت الحرب التي يشهدها اليمن، منذ أكثر من عشر سنوات، قد أدّت إلى غياب مؤسسات الدولة، وتخلّفها عن دورها في ما يخصّ تقديم الخدمات العامة للمواطنين، إذ إنّها صارت عاجزة عن القيام بدورها وسط الأزمة الإنسانية الكبرى. وقد دفع هذا الغياب المجتمع إلى تحمّل مسؤولياته، من خلال مبادرات خاصة بمشاريع متنوّعة بدعم من أبناء المجتمع، ولا سيّما من التجّار والمغتربين الذين يُعَدّون العمود الفقري لهذه المبادرات. وتشمل أبرز المشاريع شقّ طرقات ودعم قطاع التعليم، بالإضافة إلى أخرى في مجالات الزراعة والصحة والمياه والصرف الصحي وغيرها.

 

ووسط الحرب في البلاد، سُجّلت واحدة من أولى المبادرات المجتمعية في منطقة وصاب وسط اليمن، قبل أن تتوسّع المبادرات وتتمدّد إلى مختلف محافظات اليمن، خصوصاً محافظة ريمة التي قامت فيها مشاريع شقّ طرقات في جبال شديدة الوعورة، وهو أمر سُجّل في مختلف أنحاء البلاد.

 

وإلى جانب شقّ الطرقات، غطّت المبادرات المجتمعية جوانب أخرى، كما هي الحال في ريف تعز، مع إطلاق أبناء العزاعز مبادرة لدعم التعليم في المنطقة. ويقول صبري العزعزي، من مؤسّسي المبادرة، لـ"العربي الجديد" إنّ "مع نشوب الحرب في اليمن وتوقّف صرف الرواتب، اضطرّ مدرّسون كثيرون إلى ترك التعليم والبحث عن مصادر دخل أخرى، الأمر الذي انعكس سلباً على هذا القطاع. فأنشأنا مبادرة تعتمد على جمع التبرّعات من المغتربين والتجّار لتشييد مدارس، وتوفير رواتب شهرية للمدرّسين في مقابل استمرارها بأداء العملية التعليمية. كذلك دعمنا التلاميذ بالمستلزمات المدرسية".

 

في هذا السياق، يقول الصحافي، أحمد الكمالي، مؤسس ورئيس تحرير منصة بناء المتخصّصة في رصد المبادرات المجتمعية، لـ"العربي الجديد": "لا بيانات رسمية شاملة لمشاريع المبادرات المجتمعية التي نُفّذت في اليمن خلال الحرب. ووفقاً للأرقام المتوفّرة، فإنّ عدد المبادرات التنموية التي نُفذِّت في 13 محافظة يمنية تحت سيطرة الحوثيين بلغت 1537 مبادرة، خلال عام 2020، علماً أنّ العدد الأكبر منها شمل طرقات بنسبة 59%، يليها التعليم بنسبة 11%، ثمّ المياه والزراعة ومبادرات أخرى في الصحة والبيئة والصرف الصحي والأوقاف بنسب متفاوتة".

 

ويشير الكمالي إلى أنّ "تأثير الحرب يقف وراء انتشار هذه المبادرات، إذ من الممكن قراءة ازدهار هذه التجارب بوصفه تعبيراً لمقاومة المجتمع ورفضه الحرب". ويتابع أنّ "نجاح المبادرات يكمن في أنّها تلبّي متطلبات خدمية ماسة للمجتمعات المحلية حيث تُنفَّذ، بالتالي يرى السكان مصلحة حقيقية لهم من خلال الالتفاف حولها. كذلك يأتي دعم المغتربين عامل نجاح، ثمّ تطويع منصات التواصل الاجتماعي بما يخدم تلك المبادرات المجتمعية ونشاطها، الأمر الذي جعلها تزدهر وتتوسّع بوقت قياسي"، مشدّداً على أنّ "في نجاح كلّ تجربة إلهاماً لتجربة أخرى في منطقة أو قرية أخرى من اليمن".


مقالات مشابهة

  • إعلان تشكيل اللجنة التحضيرية لتأسيس “التكتل الوطني الجامع"
  • الاطلاع على عدد من المبادرات المجتمعية في الزهرة بالحديدة
  • وزارة الخارجية تشارك في حفل «اليوم الوطني لجمهورية كوريا»
  • حزب الميثاق الوطني ينظم ورشة لمناقشة نظام الثانوية العامة الجديد “صور”
  • أمير حائل يدشن عددًا من المبادرات الصحية بالمنطقة
  • عليا الشعب السوري: 80% بقاعدة الناجحين بالانتخابات كفاءات
  • اليمن.. المبادرات المجتمعية بديلاً من مشاريع الدولة الخدمية
  • فوائد زيت جوز الهند.. هل يستحق أن يكون جزءًا من روتين الجمال؟
  • السويحلي يتدرب تحت أنظار جماهيره، التي تأمل أن يكون هذا موسمًا استثنائيًا للفريق
  • الأولى منذ سقوط الأسد.. انطلاق انتخابات مجلس الشعب في سوريا