بعد مرور عامين على هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أو ما تعرف إسرائيليا بـ"السبت الأسود"، وفي فلسطين بمعركة "طوفان الأقصى"، ما زالت الصدمة حاضرة بقوة في الوعي الجمعي الإسرائيلي، خاصة في مستوطنات "غلاف غزة" وبلدات النقب الغربي، مثل "أوفاكيم" و"سديروت" و"عسقلان"، فالتحديات النفسية والاجتماعية توازي في ثقلها التداعيات العسكرية والسياسية.

 

وفي الوقت الذي تستمر فيه حرب الإبادة في قطاع غزة بلا أفق واضح، تتصاعد الضغوط الدولية على إسرائيل بسبب حجم الكارثة الإنسانية، وفي الداخل الإسرائيلي، تتسع الهوة بين حكومة متخبطة ومجتمع يعاني أزمة ثقة عميقة، فالخوف من تكرار السيناريو نفسه لا يزال يطارد الإسرائيليين، في حين يزداد القلق من تداعيات طويلة الأمد على تماسك المجتمع واقتصاده.

 

وكأن فترة العامين الماضيين لم تكن كافية لطيّ الصفحة أو تجاوز الصدمة، ففي إسرائيل، لا تزال الأسئلة مفتوحة بشأن الأمن والهوية والثقة بالدولة، بينما يواصل الناجون صراعهم مع الذاكرة، إذ تبحث القيادة السياسية عن إستراتيجية تمنع تكرار "اليوم الأسود"، لكن الطريق مليء بالهواجس والتحديات التي تجعل المستقبل أكثر غموضا من أي وقت مضى.

 

صدمات وكوابيس

 

وإستراتيجيا، مثَّل "طوفان الأقصى" نقطة تحوّل قاسية، إذ انهارت ثقة الجمهور بالمؤسسة العسكرية والأمنية، التي لطالما قدمت نفسها كخط الدفاع الأول، وفشل الردع، وتكشّف عجز استخباري غير مسبوق.

 

ومنذ ذلك اليوم، باتت القيادة الإسرائيلية أمام معضلة وجودية: كيف تحمي الجبهة الداخلية؟ وكيف تعيد ترميم ثقة مواطنيها بعد أن تزعزعت أسس العقد الاجتماعي القائم على "الأمن مقابل الولاء"؟

 

تقف إسرائيل أمام تحد مزدوج: معالجة ندوب مجتمعها داخليا، وصياغة عقيدة أمنية جديدة تستعيد الردع وتوازن بين القوة العسكرية ومتطلبات الشرعية الدولية.

 

ويعيش الناجون صدمة يومية، بين قلق وأرق وشعور بالذنب، في ظل غياب اعتذار رسمي أو دعم كاف من المؤسسة الإسرائيلية والفشل في تحقيق "النصر المطلق" الذي وعد به رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة- وعليه، فإن هناك أغلبية تمتنع عن العودة إلى مستوطنات غلاف غزة.

 

في "أوفاكيم"، لا يزال بيت راشيل إدري رمزا للحظات الرعب خلال الهجوم المفاجئ، في حين يعيش حاييم مويال في سديروت على وقع الكوابيس والأرق، بعد أن شهد هجوما مسلحا أمام متجره، حسب الانطباعات التي وثَّقتها صحيفة "هآرتس".

 

ووسط مدينة "سديروت"، وعلى بعد نحو نصف ساعة من "أوفاكيم"، تبدو الحياة وكأنها متوقفة في كثير من الأحيان، ففي ساعات ما بعد الظهر، تخلو الشوارع من المارة، قد يكون السبب ارتفاع الحرارة، أو ربما الصدمة التي لا تزال تسيطر على السكان منذ اليوم الذي تسلل فيه المقاتلون الفلسطينيون إلى المدينتين.

 

يقول حاييم مويال (67 عاما) إنه يشعر وكأن الهجوم وقع أمس، لا قبل عامين، فبالنسبة له، كانت نقطة التحول بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، حين تلقى مقطع فيديو في أثناء إجلائه إلى فندق على البحر الميت، فقد تعرف فورا على المكان المصور، أمام كشكه القديم في سديروت، ورأى مشهد الهجوم الذي لن ينساه أبدا، "مسلحون يقتحمون المكان" في اللحظة نفسها التي كان يفتح فيها متجره كل صباح.

 

ويضف حاييم أن المشاهد "انطبعت في ذهني كأسطوانة لا تتوقف"، ومنذ عودته إلى سديروت تغيّر كل شيء، ولم يعد يفتح متجره في الموعد نفسه، ويغلقه باكرا خشية أي طارئ.

 

روتينه اليومي -كما يصفه في شهادة لصحيفة هآرتس- بات خليطا من القلق الدائم، والأرق، والأدوية المهدئة، ويضيف "كنت إنسانا نشيطا، أخرج مع زوجتي، وألعب مع أحفادي، اليوم، حياتي صارت بين العمل والمنزل فقط".

 

قلق الذكريات

 

وتعمل مراكز العلاج النفسي والاجتماعي بكامل طاقتها، لكنها -حسب الصحيفة- غير قادرة على استيعاب الكم الهائل من الصدمات التي خلَّفها ذلك اليوم، والأسوأ من ذلك، أن الناجين يشعرون بعبء ذنب ثقيل، وبغياب أي اعتذار رسمي من المؤسسة الإسرائيلية.

 

ورغم أعمال الترميم وعودة السكان إلى منازلهم، فإن القلق لا يزال يسيطر على الحياة اليومية في مدينتي أوفاكيم وسديروت، فبعد عامين على الهجوم المفاجئ، تقول مراسلة صحيفة هآرتس في الجنوب، عيدن سولومون، إن "الأهالي يعيشون ما بين زيارات متكررة لمراكز العلاج النفسي، ومراسم إحياء الذكرى التي تحوَّلت إلى جزء من روتينهم الجديد".

 

وعن النصب التذكارية التي أقيمت بمبادرات شخصية، تضيف سولومون إن "السكان يحاولون التأقلم مع واقع نفسي واجتماعي صعب، فالخوف لا يغادرهم والذاكرة لا تهدأ؛ كثيرون منهم لا يعرفون متى سيتوقف الخوف عن ملاحقتهم، أو متى سيتمكنون من النوم ليلة كاملة دون أن توقظهم أصوات الانفجارات في ذاكرتهم".

 

تقول المراسلة إن "سكان الجنوب يعيشون بين الماضي والحاضر في آن واحد، فالجدران التي أُعيد ترميمها تخفي وراءها جراحا لم تلتئم بعد، وذكريات ذلك اليوم لا تزال تسيطر على تفاصيل حياتهم".

 

عودة محفوفة بالمخاطر

 

وفي تقرير ميداني لصحيفة يديعوت أحرونوت من مستوطنات غلاف غزة، يرسم المراسل عوديد شالوم، مشهدا مكثفا للحياة التي لم تعد إلى طبيعتها بعد عامين على الحرب.

 

يقف شالوم عند محطة الوقود قرب مدخل كيبوتس "كفار غزة"، ويصف اللحظة التي يرفع فيها رأسه نحو الأفق قائلا: "ينجذب نظرك إلى هناك غريزيا، غزة هنا، وحتى لو دمرنا مبانيها، فستبقى هنا".

 

وهذا الحضور الدائم لغزة في الوعي والمشهد اليومي -كما يكتب- "يلخص مأزق سكان الكيبوتسات في منطقة غلاف غزة، الذين عاد بعضهم إلى منازلهم، بينما لا يزال آخرون يعيشون في منازل مستأجرة أو فنادق تمولها الدولة".

 

ورغم إعلان الحكومة أن العودة إلى الكيبوتسات آمنة، فإن جزءا من السكان تقدم بالتماس إلى المحكمة العليا مطالبين بتمديد تمويل إقامتهم خارجها، مؤكدين أن الحرب لم تنته بعد، وأن أصداءها لا تزال تسمع وتشعر كل يوم، لكن المحكمة رفضت التدخل، معتبرة أن القرار بيد الحكومة الإسرائيلية.

 

أما في ناحال عوز، أقرب الكيبوتسات إلى حدود غزة، التي لا تفصلها عنها سوى 750 مترا فقط، عاد أقل من نصف السكان هناك، ويصف المراسل شالوم: "يبدو الواقع هشا ومليئا بالتوتر، والهجوم المتواصل على مدينة غزة -الذي تسمع انفجاراته حتى وسط البلاد- يجعل الأرض والبيوت تهتز باستمرار".

 

"وفي سديروت والمستوطنات الأخرى المحيطة، ما زال دوي القصف وارتجاج النوافذ يذكر السكان في كل لحظة بما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول"، يقول شالوم.

 

ويضيف "لكن في ناحال عوز تحديدا، يصعب وصف الشعور بالكلمات، عليك أن تكون هناك فعليا لتفهم، لتشعر كيف يسكن الخوف الجسد، وتستعاد الهواجس في الذاكرة كما لو أننا في اليوم الأول للطوفان".

 


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: غلاف غزة لا یزال لا تزال

إقرأ أيضاً:

طوفان الأقصى… شرارة أعادت الوعي وأحيت القضية

يمانيون| بقلم: عبدالسلام جحاف

في زمنٍ خيّم عليه الصمت، وكادت فيه فلسطين أن تُختزل في نشرات الأخبار كخبرٍ عابر، جاء طوفان الأقصى كزلزالٍ أيقظ الضمائر، وصرخةٍ مدوّية في وجه النسيان، ليعيد للقضية الفلسطينية حضورها ومكانتها في وجدان الأمة والعالم. لم يكن الحدث مجرّد مواجهةٍ عسكرية، بل كان نقطة تحوّلٍ تاريخية أعادت تعريف الصراع وأظهرت وجه الحقيقة كما هو، لا كما أراد المحتل أن يصوّره للعالم.

لقد كان من أعظم آثار طوفان الأقصى أنه أعاد فلسطين إلى قلب العالم بعد أن كادت تُمحى من الذاكرة السياسية، فعادت راياتها ترفرف في كل ميدان، وعادت صور غزة والقدس لتملأ الشاشات، وارتفعت أصوات الشعوب تلهج باسمها، واشتعلت من جديد مشاعر الغضب والكرامة. لقد كان الطوفان بمثابة تذكيرٍ للعالم بأن هناك شعبًا ما زال حيًّا، يقاوم الاحتلال منذ أكثر من سبعين عامًا، وأن هذا الاحتلال مهما حاول أن يُجمّل وجهه، فإن جرائمه تفضحه أمام العيان.

وفي المقابل، أظهر طوفان الأقصى الوجه الحقيقي للاحتلال، فبمجرد أن ردّ على العملية، كشف للعالم أجمع أنه كيان قائم على البطش وسفك الدماء، لا يعرف للرحمة طريقًا. القصف العشوائي، تدمير البيوت، قتل الأطفال، وانتهاك حرمة المستشفيات والمساجد—all ذلك أعاد رسم المشهد بوضوح: الاحتلال هو الجاني، والشعب الفلسطيني هو الضحية. ومن رحم هذا الألم، ووسط أنقاض غزة، ودماء الأبرياء، وُلد وعي عالمي جديد لم يسبق له مثيل، فبدأت الشعوب الغربية قبل العربية ترى الصورة الحقيقية للصراع، وارتفعت أصوات الأحرار في الجامعات والساحات تندد بالظلم وتدافع عن الحق الفلسطيني.

كما أن الطوفان أعاد الوحدة إلى قلب الشعب الفلسطيني، فوصلت رسالته إلى كل بقعةٍ من فلسطين والشتات: أن القدس لا تخص فصيلًا أو جماعة، بل هي قضية الأمة كلها، وأن المقاومة ليست خيارًا حزبيًا بل قدرٌ شعبٍ أبيٍّ يرفض الذل. اجتمع الفلسطينيون حول هدفٍ واحد، وتلاشت الحدود المصطنعة بين الضفة وغزة والداخل، ليقولوا للعالم إنهم جسدٌ واحد، مهما اختلفت المواقع.

ومن أهم ما فعله الطوفان أنه بعث روح الكرامة والمقاومة في الأمة كلها، بعد أن ظنّ البعض أن الوعي قد تبلّد، وأن العزيمة قد خمدت، فإذا بالشعوب تنتفض من جديد، تهتف باسم الأقصى وتبكي على أطفال غزة، وتدرك أن فلسطين ليست قضية بعيدة بل امتحانٌ للكرامة الإنسانية والإيمان. لقد أيقظ الطوفان ضمائر الملايين، وأعاد للأمة إحساسها بواجبها تجاه قضيتها الأولى.

وفي الوقت ذاته، كشف الطوفان الأقنعة وأسقط الزيف، فأظهر من يقف مع الحق بصدق، ومن يختبئ خلف الشعارات، ومن يبرر للمحتل جرائمه باسم السياسة أو الواقعية. لقد انقسم المشهد بوضوح بين أحرارٍ ينصرون المظلومين، ومتخاذلين صمتوا أمام الدماء، فبان الصادق من المدّعي، وظهر المخلص من المزيّف.

ولم يقتصر أثر الطوفان على الجانب السياسي فحسب، بل كان له بعدٌ إنساني وأخلاقي عظيم، إذ جعل العالم يرى بعينه كيف يُقصف الأطفال في أحضان أمهاتهم، وكيف تُهدم البيوت على ساكنيها، وكيف يُحاصر مليونان من البشر في رقعةٍ صغيرة لا ماء فيها ولا دواء. وهنا تهاوت كثير من الروايات الزائفة التي طالما تذرّع بها الاحتلال، وتبدلت قلوب كثيرة حول العالم لتتعاطف مع الفلسطينيين وتناصر حقهم في الحرية.

ومن رحم هذا الصراع، تجلت حكمة الله في كشف العدو الحقيقي للأمة، ذلك الذي يتربص بها منذ عقود، فيسعى لإضعافها من الداخل بإشعال الفتن الطائفية والمذهبية والحزبية، حتى يقتل المسلم أخاه المسلم باسم العقيدة، وينسى أن عدوه هو من يحتل الأرض ويدنس المقدسات. لقد استغل الأعداء خلافاتنا ليزرعوا الكراهية بيننا، لكن طوفان الأقصى جاء ليذكّرنا أن معركتنا ليست مع بعضنا، بل مع من يغتصب أرضنا ويقتل أبناءنا ويستهزئ بعقيدتنا.

إن القضية الفلسطينية اليوم أكثر حضورًا وقوة مما كانت عليه منذ عقود، بفضل التضحيات التي قدّمها أهل غزة وصمودهم الأسطوري، وبفضل ذلك الطوفان الذي هزّ العالم من أقصاه إلى أقصاه. نعم، الثمن كان غاليًا، ولكن الأمم لا تُبعث إلا من رمادها، ولا تنهض إلا حين تدفع ثمن حريتها بدمائها.

إن طوفان الأقصى لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل رسالة وعي ونهضة، أكدت أن المقاومة ما زالت تنبض، وأن الحق لا يموت، وأن الاحتلال مهما طال عمره فإنه زائل لا محالة. سيذكر التاريخ أن هذا الطوفان أعاد للأمة بوصلة كانت قد تاهت، وأنه جدّد الإيمان بعد اليأس، وأثبت أن فلسطين ليست قضية جغرافية، بل عقيدة وكرامة وهوية.

وسيظل صوت غزة يعلو فوق كل صوت، يذكّر الأمة أن الأقصى أمانة، والحرية وعد الله للمظلومين، وأن الفجر مهما تأخر فإنه قادم لا محالة، لأن الله تعالى قال:
“وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ” (الحج: 40)

فطوبى لمن وعى الرسالة، وثبت على الحق، وآمن أن الدماء الزكية التي سالت في أرض فلسطين ليست خسارة، بل هي بذور النصر القادم بإذن الله

مقالات مشابهة

  • تطورات "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على غزة 8 أكتوبر
  • بعد عامين على طوفان الأقصى…غزة التي غيرت العالم
  • مسير لخريجي دورات ” طوفان الأقصى” في حجة
  • طوفان الأقصى… شرارة أعادت الوعي وأحيت القضية
  • حزب الله يطالب بوحدة الموقف وخيار المقاومة في ذكرى طوفان الأقصى
  • كيف يرى المغردون طوفان الأقصى في ذكراه الثانية؟
  • "طوفان الأقصى" أحدث جرحًا غائرًا والهواجس الأمنية لم تغادر الإسرائيليين
  • "طوفان الأقصى" الذي عرّى الاحتلال
  • بين يدي طوفان الأقصى