القُرْنة… مدينة الأموات وبلد السحر والغموض والخبايا والأسرار
تاريخ النشر: 16th, October 2025 GMT
جعل الفراعنة من طيبة القديمة في صعيد مصر مدينتين: مدينة للأحياء تقع على الضفة الشرقية من نهر النيل، ومدينة للأموات تقع على الضفة الغربية من النهر.
وجعلوا من مدينة الأموات جبّانة لموتاهم، فأقاموا فيها مقابر الملوك والملكات والنبلاء والنبيلات، وشيّدوا بين ربوعها معابدهم الجنائزية مثل معابد هابو، والرامسيوم، وسيتي الأول، وأمنحتب الثالث وغيرها.
وكانت المنطقة المطلة على الضفة الغربية لنهر النيل وحتى تلال جبل القُرنة التاريخي تُعرف باسم جبّانة طيبة، وتُعد أغنى جبّانة في التاريخ القديم والمعاصر، لما تضمه بين جنباتها من مقابر وكنوز لقدماء المصريين.
وصارت جبّانة طيبة القديمة تُعرف اليوم باسم "القُرنة"، وهي منطقة أثرية وسياحية غنية بمئات المقابر وعشرات المعابد التي شيّدها قدماء المصريين، بجانب فنادق ومطاعم تحمل طابعا ريفيّا خاصا.
أما طيبة فصارت تحمل اسم الأقصر، أي مدينة القصور، وهي اليوم من أشهر مقاصد السياحة الثقافية في مصر والعالم أجمع، واختيرت ضمن قائمة عواصم السياحة الثقافية بالعالم من قبل منظمة السياحة العالمية.
وتتفرد الأقصر اليوم -طيبة قديما- بأنماط سياحية خاصة مثل سياحة البالونات الطائرة (المناطيد) التي تقلع في سماء المدينة كل صباح حاملة مئات السياح في رحلة فوق معابد المدينة وآثارها. وهناك سياحة الدواب التي تنقل السياح في رحلة بين الزروع والحقول والقرى والنجوع، وخاصة في قرى البر الغربي للأقصر.
وهناك سياحة عربات الحنطور التي تطوف بالسياح بين معالم البر الشرقي للمدينة من معابده إلى متاحفه وفنادقه ومنتجعاته. وهناك السياحة النيلية التي تنقسم إلى أنماط متعددة، بينها الرحلات النيلية على متن البواخر والفنادق العائمة بين مدينتي الأقصر وأسوان، ورحلات المراكب الشراعية في وسط نهر النيل الخالد، بجانب رحلات "الدهبيات" النيلية.
لكن تبقى منطقة القُرنة، الواقعة في البر الغربي للأقصر، من أكثر المناطق غنى بالأسرار والخبايا، وبالآثار والمعابد والمقابر التي أقامها ملوك الفراعنة وملكاتهم ونبلاؤهم، وهي من أكثر المناطق سحرا وغموضا.
إعلانوتبقى القُرنة كذلك الأغنى بمعالمها التراثية مثل قرية المهندس المعماري المصري الراحل حسن فتحي رائد عمارة الفقراء في العالم، وفندق مراسم القرنة الذي كان مقرا لإقامة مشاهير المستكشفين وعلماء الآثار مثل البريطاني هوارد كارتر مكتشف مقبرة الفرعون الذهبي الملك توت عنخ آمون، والذي كان مقرا لعشرات من كبار الفنانين التشكيليين المصريين الذين كانوا يفدون للأقصر ضمن بعثات مراسم الأقصر التاريخية.
وهو فندق تراثي مملوك لعائلة عبد الرسول، صاحبة الاكتشافات الأثرية الشهيرة في جبّانة طيبة، والتي يدور كثير من الجدل حول دورها في الكشف عن كثير من مقابر ملوك ونبلاء الفراعنة في أحضان جبل القُرنة التاريخي الذي يحتضن المقابر والمعابد الجنائزية لقدماء المصريين.
وتحتفظ القُرنة وجبلها التاريخي بكثير من أسرار الفراعنة، وتبقى شاهدة على كثير من أهم الاكتشافات الأثرية في العالم، والتي كان من أهمها الكشف عن مقبرة الملك توت عنخ آمون وكنوزه في عام 1922. ويوجد في باطن أرض القُرنة مئات المقابر التي لم تُكتشف بعد.
وبحسب علماء المصريات، فإن قرابة 850 مقبرة فرعونية لا تزال تنتظر الكشف عن معالمها وأسرارها في جبل القُرنة والمنطقة التي تقع في محيطه، وهو الغموض الذي تتكشف ملامحه عاما بعد عام، عبر ما يُعلن عن الكشف عنه من آثار بقيت مُخبأة على مدار آلاف السنين.
تشتهر القُرنة بكثرة معابدها ومقابرها المصرية القديمة التي شيدت ونحتت قبل آلاف السنين، حيث يستمتع زائر المنطقة برؤية معبد دير شلويط المكرس لعبادة الإلهة إيزيس، وقصر أمنحتب المعروف باسم "الملقطة"، و"هابو… بيت ملايين السنين"، ومقصورة الرب تحوتي، ومعابد الملك أمنحتب الثالث، والملك مرنبتاح، والملك سيتي الأول، والملك منتوحتب نب حبت رع، والرامسيوم الذي شيّده الملك رمسيس الثاني، ومعبد الملك تحتمس الرابع، والدير البحري الذي شيّدته الملكة حتشبسوت.
وتضم المنطقة مقابر وادي الملوك، ووادي الملكات، ودير المدينة، ومقابر الأشراف، ومقابر العساسيف، ومقابر ذراع أبو النجا، ومقابر قرنة مرعي، ومقابر باب الحجر بالطارف، وهي المناطق التي تضم بين جنباتها مئات المقابر الأثرية.
لكن من أكثر المعالم الأثرية والسياحية شهرة في القُرنة هي مقبرة الفرعون الذهبي الملك توت عنخ آمون في منطقة وادي الملوك، ومقبرة "جميلة الجميلات" الملكة نفرتاري زوجة الملك رمسيس الثاني، المنحوتة في منطقة وادي الملكات، والتي اكتشفها المستكشف الإيطالي جيوفاني باتيستا بيلزوني الملقب بـ"بيلزوني العظيم".
وتُعد المقبرة من أجمل المقابر الفرعونية في المنطقة، وذلك لاحتوائها على نقوش ورسوم ذات ألوان زاهية حتى اليوم، رغم إقامتها قبل آلاف السنين. وهناك معبد الملكة حتشبسوت المعروف باسم معبد الدير البحري، والذي نُحت في باطن الجبل، ويُعد أكثر المعابد براعة في هندسته وعمارته.
لمنطقة القُرنة الأثرية، التي تُعرف أيضا بمدينة الأموات، تاريخ طويل مع اكتشافات الآثاريين وعلماء المصريات لخبيئات أثرية احتوت على مومياوات وتوابيت وكنوز ضخمة، مثل خبيئة الدير البحري، وخبيئة مقبرة أمنحتب الثاني في وادي الملوك.
إعلانأما آخر خبيئة عثر عليها في المنطقة، فهي خبيئة العساسيف التي عثرت عليها البعثة الأثرية المصرية العاملة في منطقة العساسيف برئاسة الدكتور مصطفى وزيري، وذلك في نهاية عام 2019، واحتوت على 30 تابوتا خشبيا ملونا بوجه آدمي، بينها توابيت لرجال ونساء، بجانب توابيت لـ3 أطفال.
ويرجع تاريخ التوابيت إلى القرن العاشر قبل الميلاد، أي قبل 3 آلاف عام مضت، وجميعها من الأسرة 22 في مصر القديمة.
تمثالا ممنون هما أول ما يُشاهده الزائر لآثار منطقة القُرنة ومعابدها ومقابرها في جبّانة طيبة القديمة، وهما تمثالان شهيران كانا على مدخل معبد الملك أمنحتب الثالث الذي تعرض لزلزال مدمر أدى إلى انهيار المعبد قبل آلاف السنين، وتسبب في دفن كثير من معالمه وآثاره في باطن الأرض.
وتمثالا ممنون هما أهم ما تبقى من آثار معبد أمنحتب الثالث المعروف اليوم باسم "كوم الحيتان"، والتمثالان يمثلان الملك أمنحتب الثالث جالسا، وهما تمثالان ضخمان منحوت كل منهما من قطعة واحدة من الحجر الرملي الأحمر، ويبلغ ارتفاعهما 15 مترا من دون القاعدة.
وترجع شهرة هذين التمثالين، بحسب علماء المصريات، إلى أنه في عام 27 ق.م تعرضت المنطقة التي يقع بها المعبد لزلزال مدمر هز غرب طيبة، وتسبب في انشطار التمثال الشمالي إلى نصفين عند وسطه. وبعد ذلك، كان الحجر يرسل ذبذبات صوتية عن طريق فعل داخلي ناتج عن التغيرات الفجائية للرطوبة ودرجة الحرارة عند الفجر. فظهرت أسطورة أن التمثال يصدر أصوات رثاء "أورورا"، ربة الفجر، على ابنها البطل الإثيوبي "ممنون" الذي سقط في ميدان طروادة كل صباح، ومنه أخذ التمثالان اسمهما.
عرفت القُرنة الفنون التشكيلية من رسوم ونحت وتصوير في الأزمنة القديمة، وعاش في المنطقة قبل آلاف السنين فنانون مهرة أقاموا بمنطقة دير المدينة التي تضم مقابر العمال في مصر القديمة، والتي كانت تُعرف باسم "مدينة العمال".
وعمل هؤلاء الفنانون في نحت ورسم وتشييد المقابر والمعابد التي تزدان بها القُرنة اليوم. ومن المثير أن سكان المنطقة توارثوا فنون أجدادهم من قدماء المصريين، وتشتهر المنطقة اليوم بوجود هؤلاء الفنانين الذين يعدّون "فنانين بالفطرة"، فهم ينحتون التماثيل ويرسمون اللوحات بنقوش بارزة وغائرة في صورة مماثلة لما كان يقوم به أجدادهم من قدماء المصريين قبل أكثر من 3500 سنة.
وعلى خطى سكان "مدينة العمال" التي أُسست في عهد الدولة المصرية الحديثة (1570-1070 قبل الميلاد)، يواصل سكان منطقة القُرنة الحفاظ على فنون النحت والنقش والرسم والتلوين في ما بات يُعرف اليوم بـ"صناعة الألباستر".
والزائر للقُرنة سيلفت نظره تلك المصانع التي تسمى "مصانع الألباستر"، والتي أقيمت على جانب الطرق المؤدية إلى معابد الفراعنة ومقابرهم. وتضم هذه المصانع مجموعات من الفنانين بالفطرة من أهل القُرنة، وقاعات عرض ضخمة يعرضون بداخلها مئات التماثيل واللوحات والتحف الفرعونية التي يفد السياح لشرائها والعودة بها إلى بلادهم.
وقد قام هؤلاء الفنانون بدور مهم في حفظ كثير من حرف قدماء المصريين وفنونهم. ومن الطريف أن هؤلاء الفنانين الذين يبدعون تماثيل ولوحات جدارية مدهشة لم يذهبوا إلى كليات أو معاهد فنية، بل توارثوا تلك الحرف والفنون من أجدادهم جيلا بعد جيل.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات أمكنة الملک توت عنخ آمون قبل آلاف السنین قدماء المصریین أمنحتب الثالث وادی الملوک فی منطقة الکشف عن کثیر من التی ت
إقرأ أيضاً:
محافظ الجيزة: إحياء منطقة نزلة السمان كمقصد سياحي وثقافي عالمي
عقد المهندس عادل النجار محافظ الجيزة حوارًا مجتمعيًا مع ممثلي أهالي منطقة نزلة السمان بحي الهرم لعرض رؤية الدولة لتطوير المنطقة وإعادة تأهيلها عمرانياً باعتبارها إحدى المناطق الحيوية المتاخمة لهضبة الأهرامات وذات القيمة الأثرية والسياحية الفريدة.
وأكد المحافظ أن اللقاء جاء بتكليف من الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء في إطار خطة الدولة لإحياء منطقة نزلة السمان وتحويلها إلى مقصد سياحي وثقافي متكامل يعكس تاريخ المنطقة ويعزز من مكانتها على خريطة السياحة العالمية مع مراعاة البعد الاجتماعي والاقتصادي للأهالي.
جاء ذلك بحضور هند عبد الحليم نائب المحافظ، والمهندس محمد الخطيب استشاري المشروع، والمهندسة مها فهيم رئيس الهيئة العامة للتخطيط العمراني، وحسام الشاعر رئيس الاتحاد المصري للغرف السياحية، وممثلي وزارة الإسكان، والمهندس محمد أحمد ممثل مجلس الوزراء، وعدد من ممثلي عائلات وأهالي المنطقة.
وأوضح المحافظ أنه سيتم إعداد مخطط تفصيلي متكامل لتطوير نزلة السمان يراعي جميع الأبعاد العمرانية والاجتماعية والاقتصادية والسياحية، مع تشكيل لجنة دائمة تضم ممثلين عن الأهالي لتلقي المقترحات والاستفسارات والعمل على تذليل أية معوقات خلال مراحل التنفيذ.
وأضاف أن أعمال التطوير لن تضر أي مواطن بل تستهدف تحسين جودة الحياة ورفع كفاءة الخدمات والبنية الأساسية لافتا أن مشروع إعادة الإحياء يستهدف تحويل نزلة السمان إلى منطقة نابضة بالحياة مع تعزيز فرص الاستثمار والسياحة وتوفير فرص عمل جديدة لأبناء المنطقة، بما يحقق تنمية شاملة ومستدامة تتماشى مع رؤية الدولة 2030.
وخلال اللقاء، استمع المحافظ إلى آراء ممثلي أهالي نزلة السمان الذين أعربوا عن ترحيبهم بأعمال التطوير وإحياء المنطقة لما تمثله من نقلة حضارية وفرصة للنهوض بالمنطقة.
ومن جانبها أوضحت نائب محافظ الجيزة ان المشروع يهدف ايضا إلى دمج البعد الاجتماعي في عملية التطوير من خلال إشراك السكان في جميع مراحل العمل، وتحسين نوعية الحياة، وتوفير فرص عمل جديدة عبر برامج تدريبية ودعم المشروعات الصغيرة والاستفادة من بعض المكونات الكائنة اضافه إلى جانب تطوير الأسواق والحرف التقليدية وتهيئة المنطقة لتكون نموذجاً للربط بين النشاط السياحي والتراث الأثري.
ومن جانبه أوضح المهندس محمد الخطيب استشاري المشروع أن الرؤية الاستراتيجية لمشروع نزلة السمان تستند إلى تحقيق التوازن بين الحفاظ على القيمة الأثرية للموقع وإعادة التأهيل العمراني للمناطق المتدهورة، من خلال إعادة استخدام المباني لأغراض السياحة والثقافة والحرف، وتحسين الواجهات والبيئة العمرانية، وتطوير الفراغات المفتوحة والخدمات بما يتكامل مع مشروع تطوير هضبة الأهرامات.
وثمّن الأهالي دعم الدولة لتطوير منطقة نزلة السمان، وذلك من خلال الموافقة على تطوير المنطقة دون الإزالة الكاملة واستثمار الفرص السياحية والثقافية والحرفية لتحقيق عائد اقتصادي مستدام للأهالي.