في زيارة لافتة وغير معلنة التفاصيل، أجرى المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الجنرال ديفيد بترايوس، جولة بين إقليم كردستان وبغداد، استمرت نحو أسبوع كامل، التقى خلالها كبار المسؤولين الأكراد، فيما غابت اللقاءات مع أركان الحكومة العراقية.

تواجد بترايوس في العراق أثار تساؤلات عدة حول أهدافه الخفية- في ظل إعادة التموضع الأمريكي بالمنطقة- خصوصا مع اقتصار لقاءاته على قادة سياسيين ومسؤولين محددين، وهذا فتح باب التأويل واسعا بشأن طبيعة الرسائل التي حملها ومغزى توقيت الزيارة؟

بترايوس، الذي يُعد من أبرز القادة المؤثرين في صياغة العقيدة الميدانية لواشنطن في العراق بعد عام 2003، قاد قوات بلاده بين عامي 2007 و2010 في أصعب مراحل الصراع الداخلي، وأشرف على تنفيذ استراتيجية "قوات الصحوات" لمواجهة تنظيم القاعدة آنذاك.



مهمة غامضة
رغم غموض أجندة الزيارة، لكن ملفي الأمن والطاقة كانا الأبرز خلال محادثات بترايوس مع مسؤولي إقليم كردستان، وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البارزاني، وكذلك خلال اجتماعه لاحقا في بغداد مع الرئيس العراقي، عبد اللطيف رشيد، ورئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي.

وشملت محادثات بترايوس أيضا، الدعوة إلى تعزيز التعاون الأمني بين واشنطن وبغداد في إطار الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد، فقد أكد الأخير استمرار دعم بلاده للعراق في مختلف المجالات، بما يعزز الأمن والاستقرار ويخدم المصالح المشتركة بين الجانبين.

وصرّح بترايوس خلال مقابلة مع "قناة 8" الكردية، الخميس الماضي، أن استقرار الأوضاع السياسية في العراق وإقليم كردستان من أولويات الولايات المتحدة الأمريكية.

وأضاف أن "الهدف الذي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيقه في العراق هو أن تعطي فرصة أخرى للعراق والعراقيين ومواطني ما بين النهرين لكي يعيشوا حياة سعيدة ومستقبلا مزدهرا".

ولفت بترايوس إلى أن الولايات المتحدة تأمل أن ترى مواطني العراق موحدين في فيما بينهم، لكي تتمكن من تقديم الدعم والمساعدة لهم، ليس فقط على الصعيد العسكري وإنما على المستوى الاقتصادي والثقافي وغيرها.

وأفاد بأن استقرار الأوضاع السياسية في العراق يصب في مصلحة الجميع ويجب على الحكومة العراقية أن تسيطر على جميع الأسلحة المنتشرة في العراق، وضرورة أن تكون الفصائل المسلحة تحت إمرتها، وذلك تجنبا لتكرار الأوضاع التي رأيناها سابقا.

وشدد الجنرال الأمريكي المتقاعد على ضرورة أن تتلقى الفصائل المسلحة في العراق الأوامر من الحكومة العراقية وليست من أية جهة أخرى، وأن الجميع يدرك تلك الحقيقة، في إشارة إلى قربها من إيران.


رؤية أمريكية
وبخصوص تفسير زيارة بترايوس وأهميتها، قال الخبير الأمني والاستراتيجي، أحمد الشريفي، إنه "ليس في كثير من الأحيان أن من يصنعون القرار الأمريكي يمتلكون عناوين رسمية، وإنما قد يتحركون في فضاء خارج الأطر الرسمية ويؤثرون بشكل مباشر في توازنات الردع لسياسة أمريكا العليا".

وأضاف الشريفي لـ"عربي21" أن "الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن مستقبل المنطقة قائم على نظام إقليمي جديد ينسجم مع النظام الدولي الجديد، وأن واحدة من هذه السمات هو الرهان على ما يطلق عليه اليوم: حقوق الأقليات، والنظم الفيدرالية اللامركزية".

ورأى الخبير العراقي أن "محور هذه المعادلة هو إقليم كردستان العراق الذي من الممكن أن يمتد إلى إقليم لأكراد سوريا، وأن هذين الإقليمين فيهما من الخطورة الشيء الكثير، لأنهم يدخلون في معادلة الأمن القومي الأمريكي ويجمعون بين بعد الحليف والطاقة".

وبحسب الشريفي، فإنه "مقرر أن تتشكل معابر طاقة جغرافية بين إقليم كردستان العراق، ومناطق  أكراد سوريا وصولا إلى  حوض البحر الأبيض المتوسط كجزء من منظمة غاز شرق المتوسط، وأن هذه المنظمة ستحدد أمن الطاقة لأوروبا".

وأشار إلى أن "هذه المعادلة بالتحديد هي التي تجعل الولايات المتحدة، تضغط على الحكومة في العراق، من أجل تحسين علاقتها مع إقليم كردستان، إدراكا منها أن هذه النظم الإقليمية ستشكل فاعلا شرق أوسطيا يجب أن يُحترم، وتقبل الدول بخيار اللامركزية مقابل المركزية".

وعن تحديد زيارة بترايوس إلى الأكراد في العراق، رأى الشريفي أن "رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني هو الشخصية الأكثر نضجا في قراءة أفق عابر للحدود في الإستراتيجية العراقية، لذلك ممكن أن يحدد البوصلة في قابل الأيام".

ولفت إلى أن البارزاني هو "اللاعب الفاعل والأساسي في العراق ولديه رؤية بعيدة، لأنه يرى في الطاقة بأنها مورد اقتصادي يخضع للعرض والطلب، وليس قابل للأدلجة مع الدول، بالتالي تكون الموارد لتحقيق الازدهار والرفاه، وهذه هي الضمانة للأمن والسلام والرفاه الاجتماعي".

وعزا الشريفي أسباب عدم لقاء بترايوس أي شخصية حكومية بمن فيها رئيس الوزراء، إلى أن "الولايات المتحدة ترى أن حكومة السوداني ومن التحق بها من الإطار التنسيقي (الشيعي) لم تعد مؤهلة للرهان، بالتالي جعلوه خارج حساباتهم المقبلة".

وتابع: "كل التوقعات تشي بأن المنظومة الحكومية المقبلة في العراق ستأتي برجال يرتقون في وعيهم السياسي وقراءة التوازنات الدولية والإقليمية وانعكاسها محليا في العراق، بما ينسجم مع رؤية مسعود البارزاني".


"زيارة استكشافية"
وعلى الصعيد ذاته، قال الكاتب والمحلل السياسي، هلال العبيدي، إن الزيارة لم تُكشف تفاصيلها إعلاميا، ولا تحمل طابعا رسميا، لكن طبيعة عمل بترايوس السابقة كرئيس لجهاز الاستخبارات وقائد للقوات الأمريكية في العراق، تؤكد أهميتها وأبعادها السياسية والأمنية.

وأوضح العبيدي لـ"عربي21" أن "الولايات المتحدة مهتمة جدا في قضية العراق، خصوصا أن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على تغييرات، وبالتالي فإن هذا البلد يدخل ضمن حسابات هذا التغيير، وأن واشنطن تمارس أنواع متعددة من الضغوط عليه".

ولم يستبعد الخبير العراقي أن تكون الزيارة بدفع من "قوى الدولة الخفية" في الولايات المتحدة الأمريكية، لإيصال رسائل أو لاستكشاف معلومات وبحث بعض سياسات واشنطن في العراق والمنطقة.

وأكد العبيدي أن "زيارة بترايوس في الوقت الحالي وتحذيراته خلال تصريحات مع وسائل إعلام محلية عراقية من انتشار السلاح خارج إطار الدولة العراقية، وتناوله لأهمية ملف الطاقة في العراق، يرسم ملامح أهم الملفات التي يكون قد بحثها مع المسؤولين والسياسيين الذين التقاهم".

ورأى الكاتب العراقي أن "الزيارة لا تُعد تدخلا مباشرا للولايات المتحدة الأمريكية في العراق بقدر ما أنها تمثل تحريكا للقوى الناعمة، وذلك عن طريق إرسال شخصيات خارج النطاق الرسمي، وهي بلا شك يمكن أن تؤثر في قرارات واشنطن المقبلة".

وفي هذه النقطة، قال الخبير الأمني العراقي، أحمد التميمي، خلال تصريحات وسائل إعلام محلية، إن زيارة بترايوس تأتي "في إطارٍ استكشافي استخباري"، والتي يهدف من خلالها للاطلاع على واقع الأمن  ومواقف الدولة من الملفات الإقليمية الحساسة.

وبحسب قوله، فإن توقيت الزيارة يحمل رسائل دقيقة، كونها تتزامن مع تصاعد الخطاب الأمريكي تجاه إيران، والتغيرات المتسارعة في الساحة السورية بعد التقارب الإقليمي الأخير، فضلا عن النقاشات الجارية داخل الإدارة الأمريكية حول مستقبل الوجود العسكري في العراق.

وبدأت القوات الأمريكية- المنضوية ضمن التحالف الدولي- أولى مراحل الانسحاب من العراق باتجاه إقليم كردستان وقاعدة التنف في الأراضي السورية، في 11 آب/ أغسطس الماضي، وذلك قبل شهر ونصف من الموعد المتفق عليه بين واشنطن وبغداد.

وفي مطلع أيلول/ سبتمبر 2024، توصلت واشنطن وبغداد إلى تفاهم بشأن خطة لانسحاب قوات التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة من العراق، وأنها تنص على خروج مئات من قوات التحالف بحلول 25 أيلول عام 2025، والبقية بحلول نهاية العام التالي.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية ديفيد بترايوس الأكراد العراقية العراق الأكراد ديفيد بترايوس زيارة غامضة المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة الأمریکیة إقلیم کردستان فی العراق إلى أن

إقرأ أيضاً:

إعادة إعمار غزة.. مهمة شاقة بتكلفة تتجاوز 70 مليار دولار

بينما يعود آلاف الفلسطينيين إلى أحيائهم في قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار، لا يحمل كثير منهم سوى الذكريات المؤلمة ومشهد الركام الذي كان يومًا منازلهم ومدارسهم ومصادر رزقهم.

وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن تكلفة إعادة إعمار غزة تُقدّر بنحو 70 مليار دولار، في واحدة من أضخم المهام الإنسانية والإنشائية في التاريخ الحديث.

شبكة "بي بي سي" وصفت المشهد بأنه "أقرب إلى البدء من تحت الأنقاض لا من الصفر"، فيما قال البروفيسور أندرياس كريغ، خبير أمن الشرق الأوسط في كلية كينغز كوليدج لندن: "الأمر أسوأ من البدء من الصفر... هنا لا تبدأ من الرمال، بل من الأنقاض."

ويؤكد ممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للفلسطينيين جاكو سيلييه أن حجم الدمار في غزة "يقترب من 84 في المائة، ويصل في بعض المناطق، مثل مدينة غزة، إلى 92 في المائة". وتُظهر بيانات الأقمار الصناعية، بحسب تحليل بي بي سي، أن هناك أكثر من 60 مليون طن من الأنقاض المتناثرة في غزة، تحتوي على رفات بشرية وقنابل غير منفجرة، ما يجعل عملية التطهير أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.

ويقول فيليب بوفرات، المدير التنفيذي السابق لشركة المعدات البريطانية "جي سي بي": "الخطوة الأولى هي تأمين المواقع. بعدها نبدأ بفرز الأنقاض وسحقها لإعادة استخدامها كأساسات للبناء، لكننا سنحتاج إلى ميناء عميق لجلب آلاف الحاويات من مواد البناء". تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن إزالة الأنقاض وحدها قد تستغرق أكثر من عامين، وتشكل العائق الأول أمام أي عملية إعادة إعمار شاملة.

بحسب اليونيسف، فإن أكثر من 70 في المائة من مرافق المياه والصرف الصحي في غزة — والبالغ عددها نحو 600 مرفق — قد تضررت أو دُمرت منذ أكتوبر 2023. ويحذر الأطباء من انتشار الإسهال والكوليرا بسبب تراكم مياه الصرف الصحي، في ظل انهيار شبكات المعالجة، وتدمير محطة الشيخ عجلين المركزية ومرافق تحلية المياه.

ويقول ماهر نجار، نائب مدير مصلحة مياه بلديات الساحل: "كل مرافقنا متضررة. نحتاج في البداية إلى 50 مليون دولار لإعادة 20 في المائة فقط من الخدمات الأساسية." ويضيف: "الخسائر الإجمالية تُقدَّر بأكثر من مليار دولار."

وتُقدّر الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (يونوسات) تدمير أو تضرر أكثر من 283 ألف منزل وشقة في أنحاء غزة — أي نحو نصف إجمالي الوحدات السكنية في القطاع.

وتقول الباحثة شيلي كولبيرتسون من مؤسسة "راند" البحثية في واشنطن: "إعادة بناء المساكن في غزة قد تستغرق عقودًا... إذا سارت العملية كما حدث بعد حرب 2014 و2021، فسنحتاج إلى 80 عامًا لإعادة البناء. لكن مع التخطيط الجيد، يمكن اختصار الزمن."

بلدية غزة من جانبها أعلنت أن 90 في المائة من شبكة الطرق دُمرت بالكامل، ما يجعل إعادة الإعمار شبه مستحيلة دون إعادة تأهيل البنية التحتية أولاً.

وتقديرات البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة تُظهر أن أكثر من 80 في المائة من أصول توليد وتوزيع الكهرباء في غزة قد دُمرت أو تعطلت منذ بداية الحرب، بخسائر تجاوزت 494 مليون دولار.

شركة توزيع كهرباء غزة (GEDCO) أعلنت أن 70 في المائة من منشآتها دُمر بالكامل، بينما تعطلت محطة الكهرباء الوحيدة بسبب نفاد الوقود. وباتت المستشفيات والمدارس تعتمد على مولدات ديزل محدودة وألواح شمسية متضررة جزئيًا.

وأظهرت صور الأقمار الصناعية تدمير أكثر من 97 في المائة من محاصيل الأشجار و82 في المائة من المحاصيل السنوية في قطاع غزة. وتشير تحليلات خبراء من جامعة ولاية كينت إلى أن الأراضي الزراعية تعرضت للتجريف الشامل ونشاط المركبات العسكرية الثقيلة، ما أدى إلى انعدام الأمن الغذائي وإعلان المجاعة في بعض المناطق خلال سبتمبر الماضي.

ويقول بوفرات: "تطهير الأرض من القنابل والألغام أولوية عاجلة... إذا تمكن المزارعون من العودة للزراعة، سيتمكنون من إطعام أنفسهم واستعادة دورة الحياة."

ونحو نصف سكان غزة دون سن 18 عامًا، ومع ذلك فإن أكثر من 91 في المائة من المدارس التابعة للأونروا تحتاج إلى إعادة بناء كاملة. وخلال الحرب، تحولت مئات المدارس إلى ملاجئ للنازحين قبل أن تُستهدف بالقصف، مثل جامعة الأزهر وجامعة الإسراء اللتين دُمرتا بالكامل.

تقول الأونروا إن "إعادة التعليم للأطفال هي الأساس لعودة الحياة الطبيعية"، لكنها تواجه نقصًا حادًا في التمويل والبنية التحتية، ما يجعل آلاف الأطفال خارج الفصول الدراسية للعام الثاني على التوالي.

ويرى محللون أن عملية إعادة الإعمار في غزة لن تواجه فقط تحديات مالية وتقنية، بل سياسية بالدرجة الأولى، نظرًا لغياب سلطة مركزية قادرة على إدارة العملية، والخلافات بين الفصائل، والقيود المفروضة على إدخال مواد البناء.

ويُجمع الخبراء على أن أي خطة لإعادة إعمار غزة تحتاج إلى آلية دولية مستقلة تشرف عليها الأمم المتحدة، وتضمن الشفافية وتدفق المساعدات بعيدًا عن الصراعات السياسية.


مقالات مشابهة

  • وفاة غامضة لموقوف بتهمة المخدرات داخل مستشفى جنوبي العراق
  • احتجاجات لا للملوك تعمّ الولايات المتحدة الأمريكية من جديد.. وترامب يرد: لست ملكًا
  • الأمم المتحدة: ادخال المساعدات مهمة انسانية هائلة
  • الأمم المتحدة: إيصال المساعدات إلى غزة "مهمة هائلة" ولدينا خطة ضخمة
  • الأمم المتحدة: إيصال المساعدات إلى غزة مهمة هائلة
  • ترامب: الولايات المتحدة بحاجة لكثير من الأسلحة التي ترسلها لأوكرانيا
  • رئيسة المكسيك: تقدم ملموس في المحادثات التجارية مع الولايات المتحدة
  • استقبال جاف لزيلينسكي في الولايات المتحدة الأمريكية
  • إعادة إعمار غزة.. مهمة شاقة بتكلفة تتجاوز 70 مليار دولار