صحيفة التغيير السودانية:
2025-12-13@06:20:38 GMT

دارفور.. ستغيّر المشهد

تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT

دارفور.. ستغيّر المشهد

 

دارفور.. ستغيّر المشهد

احمد عثمان جبريل

في التاريخ محطات لا تُقاس بعدد القتلى ولا بحجم المدن، بل بما تسقطه من المعاني في قلوب الناس.. وسقوط الفاشر لم يكن حدثًا عسكريًا فحسب، بل جرحًا مفتوحًا في ضمير الوطن كلّه.

قال الفيلسوف العربي عبد الرحمن الكواكبي:
“الاستبداد يقلب القيم فيجعل الأمة تكره الحرية وتحب العبودية، حتى إذا خُيّرت بين الطغيان والفوضى اختارت الطغيان.

(1)
صمدت الفرقة السادسة في الفاشر أكثر من أربعة أشهر، تقاتل وهي محاصرة من كل الجهات بلا طعام ولا دواء ولا إمداد.. رجالها كانوا يقاتلون من بقايا قوتهم، والمدينة من حولهم تختنق تحت الحصار، بينما السماء تُمطر نارًا والأرض تُنزف دمًا.. قائدها ظلّ ثابتًا، مؤمنًا بأن الفاشر ليست مجرد موقع بل آخر ما تبقى من شرف الجندية السودانية.. كان يمكن له أن يصمد أكثر، لو جاءته المعينات، أو لو كفّ عنه القتل بقرار سياسي حكيم.. لكنه واجه المصير ذاته الذي واجهه سابقا قائد مدني من قبل، حين أمرته القيادة أن “ينتحر في موقعه”، ليُترك بعدها الجنجويد يعيثون في الجزيرة وسنار حتى تخوم القضارف.. هكذا يُكتب مصير المدن في هذا الوطن: “لا بالرصاص، بل بقرارات مرتبكة من فوق”.

(2)
بسقوط الفاشر، لم يسقط جدار عسكري فحسب، بل سقطت آخر نقطة توازن في جسد الدولة.. هذا السقوط كشف هشاشة القيادة وعمق التواطؤ، وفتح الباب أمام سيناريو كان الجميع يخشونه: “أن ينقسم السودان فعليًا إلى شرق وغرب” وأن يُعاد رسمه ليس بالاتفاقات، بل بالدماء.. فبعد الفاشر، لن يكون الطريق إلى الأبيض إلا امتدادًا لخرابٍ متسلسل، وسينكشف الغرب أمام واقعٍ جديدٍ يهدد معنى الدولة نفسها.. نعم الدولة السودانية كلها.

(3)
ولأن القيادة لا تتعلم من التاريخ، خرج البرهان ببيان متهالك يبرّر فيه الانسحاب من المدينة بأنه “إعادة تموضع وتأمين للقوات”.. أيّ تأمين هذا الذي يترك المدنيين نهبًا للموت والجوع والاغتصاب؟ يا ليته صمت.. وأيّ قائدٍ هذا الذي يتحدث عن حماية جنوده بينما شعبه يُباد أمام عينيه؟ هذه ليست كلمات قائد، بل اعتراف بالعجز.. فحين يتخلّى القائد عن واجبه الأخلاقي، تسقط معه هيبة الدولة، ويصبح الوطن بلا درع ولا بوصلة.. لا أدري ربما كان هناك بيان غير الذي قاله البرهان وتراجع عنه في آخر لحظة.

(4)
البرهان اليوم لا يقود جيشًا، بل يُقاد من وراء ستارٍ كثيف تمسك بخيوطه الحركة الإسلامية التي أضاعت البوصلة منذ زمن.. نعم هذه الحركة التي تحوّلت من مشروعٍ حضاري كما ادعت إلى شبكة مصالحٍ ودماء، تُمسك برقبة الجيش وتوجّهه كما تشاء، يمينًا ويسارًا، وفق حساباتٍ لا علاقة لها بالوطن ولا بإنسانه.. وهذا الذي يعرفه كل الشعب السوداني، لقد جعلوا من الحرب وسيلة لاستعادة نفوذٍ سياسي مفقود، حتى لو كان الثمن دماء الأبرياء في دارفور والجزيرة وكل بقاع السودان.

(5)
ولأنهم لا يرون في السلام إلا تهديدًا لمصالحهم، رفض البرهان الهدنة التي طرحتها واشنطن لثلاثة أشهر.. رفضها وهو يعلم أن القبول بها كان سينقذ مئات الأرواح، ويمنح مدنه المحاصرة متنفسًا إنسانيًا.. لكنه لم يملك قرار نفسه، فالتعليمات تأتيه من “الظل” لا من الضمير. وهكذا اختار العناد على الحكمة، وفضّل أن يُقاتل حتى آخر مدني، لا حتى آخر جندي.

(6)
وفي خضم هذا الانهيار، جاء صوت المبعوث الأميركي مسعد بولس محذرًا: “سنعطي طرفي النزاع فرصة أخيرة للتجاوب مع التهدئة، وإلا سنضطر لاتخاذ إجراءات”. لكنها عبارة سمعها السودانيون من قبل في أزمنة مشابهة، ولم يروا بعدها سوى صمتٍ دولي أطال أمد المأساة. فالعقوبات والبيانات لا تُسكت المدافع، ولا تحمي النساء من الاغتصاب، ولا تطعم الجياع في معسكرات النزوح.. العالم يهدد دائمًا بعد فوات الأوان، ثم يعود إلى متابعة نشراته المسائية وكأن شيئًا لم يكن.

(7)
الأمم المتحدة اعربت عن قلقها، والاتحاد الإفريقي منشغل بالبيانات، والعواصم الكبرى ستمارس كذلك إنسانيتها بعباراتٍ باردة.. لكن دارفور تشتعل، والفاشر تنزف من المذابح والتطهير العرقي، وأهلها يدفنون أبناءهم بأيديهم.. لا يحتاج السودان إلى مزيد من القلق، بل إلى شجاعة دولية تضع حدًا للقتل المنهجي الذي تمارسه قوات الدعم السريع ضد مكوناتٍ بعينها.. ما يحدث ليس حربًا أهلية، بل إبادة عرقية منظمة يعرف مرتكبوها أنهم في مأمن من العقاب.

(8)
الفاشر ليست مدينة فقط، بل مرآة لما وصل إليه حال السودان.. فالحرب التي قيل إنها لحماية الدولة، دمّرت الدولة. والجيش الذي قيل إنه يقاتل لاستعادة الوطن، خسر الوطن في سبيل سلطةٍ ضيقة.. لم تعد هناك قضية سوى قضية الإنسان السوداني الذي صار وقودًا لمعارك لا تخصه.. وما لم يتوقف هذا الجنون، فإن السودان يسير بخطى ثابتة نحو ظلامٍ لا عودة منه.. نعم، نحن متجهون نحو (هيتو وهتسو جديد) ودولة على غرار ما يجرى في ليبيا.

(9)
نعم، الفاشر ستغيّر المشهد، لكنها قد تغيّره نحو الهاوية إن لم يستيقظ الضمير الجمعي للسودانيين قبل فوات الأوان.. ايها السودانيون هبوا لنجدة ما تبقى من وطن فما حدث هناك ليس نهاية الحرب، بل بداية لتفككٍ كامل، سيبتلع الجميع بلا استثناء.. لن يوقف هذا النزيف إلا موقف وطني صادق يقطع الصلة بين السلاح والسياسة، ويعيد الجيش إلى مكانه الطبيعي كحامٍ للوطن لا كأداةٍ لحركةٍ أيديولوجيةٍ عمياء.. فالسودان لا يحتاج إلى قائدٍ جديد، بل إلى ضميرٍ جديد، يعيد للوطن ما فقده من معنى، وللإنسان ما فقده من أمل.
اللهم بلغت.. اللهم فاشهد..
إنا لله ياخ.. الله غالب.

الوسومأحمد عثمان جبريل اعتراف بالعجز تبرير الانسحاب تغيّر المشهد دارفور سقوط الفاشر

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: اعتراف بالعجز تغي ر المشهد دارفور سقوط الفاشر

إقرأ أيضاً:

بسبب القتل في الفاشر.. بريطانيا تفرض عقوبات على قادة في الدعم السريع

فرضت بريطانيا عقوبات على كبار قادة قوات الدعم السريع السودانية، متهمة إياهم بالتورط في عمليات قتل جماعي وعنف جنسي بشكل ممنهج وهجمات متعمدة على المدنيين في السودان، وطالت العقوبات "نائب قائد قوات الدعم عبد الرحيم دقلو، قائد قطاع شمال دارفور اللواء جدو حمدان، القائد تيجاني إبراهيم موسى، والفاتح عبدالله إدريس المعروف بـ(أبو لولو)".

Britain sanctioned senior commanders of Sudan's paramilitary Rapid Support Forces on Friday, over what it said were their links to mass killings, systematic sexual violence and deliberate attacks on civilians in the African country. https://t.co/qLl1LxAIYV — Reuters Africa (@ReutersAfrica) December 12, 2025
وقالت الحكومة البريطانية إن هؤلاء القاعدة يُشتبه في تورطهم بهذه الجرائم، باتوا يواجهون تجميد أصول وحظر سفر، وقالت وزيرة الخارجية البريطانية إيفيت كوبر في بيان "الفظائع المرتكبة في السودان مروعة إلى حد أنها تترك ندبة في ضمير العالم... والعقوبات التي نعلنها اليوم ضد قادة قوات الدعم السريع تشكل ضربة مباشرة لأولئك الذين تلطخت أيديهم بالدماء".

وتأتي هذه العقوبات بعد أن اقترحت الولايات المتحدة والإمارات ومصر والسعودية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي خطة لهدنة لمدة ثلاثة أشهر تليها محادثات سلام، وردت قوات الدعم السريع بقبول الخطة، لكنها سرعان ما شنت غارات جوية مكثفة بطائرات مسيرة على مناطق تابعة للجيش.

معاقبة شبكة تجند مقاتلين من كولومبيا
وفرضت الولايات المتحدة، الثلاثاء عقوبات على شبكة عابرة للحدود تُجند عسكريين كولومبيين سابقين وتدرب جنودًا بينهم أطفال للقتال في صفوف قوات الدعم السريع، وذكرت وزارة الخزانة الأمريكية في بيان، أنها فرضت عقوبات على 4 أفراد و 4 كيانات ضمن الشبكة، التي قالت إنها تتألف في معظمها من مواطنين وشركات كولومبية.

BREAKING: The US government has imposed sanctions on a network that is fueling the conflict by recruiting former Colombian military personnel to train soldiers—including children—to fight for the Rapid Support Forces, a Sudanese paramilitary group.

"The Rapid Support Forces have… — Harun Maruf (@HarunMaruf) December 9, 2025
وأفادت بأن العقوبات على الشبكة تُعطل مصدرًا مهمًا للدعم الخارجي لقوات الدعم، ما يُضعف قدرتها على استخدام مقاتلين كولومبيين مهرة ضد المدنيين. واتُهمت قوات الدعم السريع باستهداف المدنيين وقتل الرجال وحتى الرضع، كما استهدفت النساء والفتيات عمدًا ومارست بحقهن الاغتصاب. وأكدت الوزارة في بيانها أنها ستعمل بالتنسيق مع دول المنطقة لإنهاء هذه الفظائع وتحقيق الاستقرار في السودان.

دعوة لقبول الهدنة
من جانبه، أكد مبعوث الرئيس الأمريكي إلى أفريقيا مسعد بولس، أن واشنطن تحاسب مرتكبي الفظائع بالسودان، داعياً الأطراف السودانية إلى قبول الهدنة لوقف العنف في البلاد، وكتب عبر حسابه على منصة "إكس": " تُحمّل الولايات المتحدة المسؤولية لأولئك الذين يرتكبون الفظائع في السودان".

Today, the United States is holding accountable those who commit atrocities in Sudan. The parties must accept a humanitarian truce to halt the violence and end external military support from transnational networks of murderers like the Colombians we sanctioned today. These… — U.S. Senior Advisor for Arab and African Affairs (@US_SrAdvisorAF) December 9, 2025
وأضاف "يجب على الأطراف القبول بهدنة إنسانية لوقف العنف وإنهاء الدعم العسكري الخارجي من الشبكات العابرة للحدود التي تضم قتلة، مثل الكولومبيين الذين فُرضت عليهم العقوبات"، مضيفًا "تعكس هذه الإجراءات التزامنا بدعم السلام ومساندة الشعب السوداني".

الملايين يواجهون انعدام الغذاء
من جانبه، أعلن مدير العمليات في منظمة أطباء بلا حدود كينيث لافيل، انهيار كل الأنظمة التي تحفظ الحياة في السودان، محذرًا من أن نحو 9 ملايين يواجهون انعدام الأمن الغذائي في السودان، يأتي هذا في وقت أكد فيه وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبر اهيم، أن السودان يسجل أكثر من 3 ملايين إصابة سنويًا بالملاريا مع معدلات وفيات عالية، وفقًا للإحصاءات الرسمية المسجلة في المستشفيات.

الأمم المتحدة تحذر من أن المدنيين في منطقتي #دارفور و #كردفان لا يزالون يواجهون عنفا متصاعدا وعشوائيا،

وتجدد الدعوة لكافة أطراف النزاع في #السودان إلى وقف الهجمات على المدنيين فورا، والالتزام بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني.https://t.co/B8ikEvX8gk — أخبار الأمم المتحدة (@UNNewsArabic) December 11, 2025
وأفاد شهود عيان بأن ولاية شمال كردفان باتت تحتضن العدد الأكبر من النازحين، وتؤوي حاليًا نحو 864 ألف شخص، ووفق مفوضية العون الإنساني في الولاية فإن قرابة 82 ألف نازح يقيمون داخل مراكز الإيواء، بينما تتوزع البقية بين مجتمعات مضيفة والأقارب.

مقالات مشابهة

  • المملكة المتحدة تفرض عقوبات على كبار القيادات المسؤولة عن الفظائع في السودان
  • بسبب القتل في الفاشر.. بريطانيا تفرض عقوبات على قادة في الدعم السريع
  • غوتيريش: اجتماعات مرتقبة في جنيف مع طرفي النزاع في السودان
  • حرب السودان تخرج عن السيطرة
  • WP: الفاشر تعيش كارثة إنسانية وصمت العالم يفتح الباب لأسوأ مأساة في السودان
  • محلل: ترامب يتبنّى الأزمة في السودان بالتنسيق مع القاهرة والرياض
  • تلغراف: هل يتحرك الغرب ضد الإمارات بعد مجزرة الفاشر؟
  • شبكة أطباء السودان: 19 ألف محتجز بسجون الدعم السريع بجنوب دارفور
  • اتفاق في المهرة على تقاسم المشهد العسكري بين الانتقالي ودرع الوطن
  • السودان بعد حرب أبريل: من مخاطر التقسيم إلى تفكك الدولة!