ما تُفسده الثورات يُصلحه الإصلاح
تاريخ النشر: 22nd, November 2025 GMT
من محاسن الصُّدَف أن يقع بصري على «العدد الأول لمجلة العربي» عند زيارتي التفقديّة لمكتبتي الرقمية في «جوجل درايف» التي أحتفظ فيها بما أستحسنه من كتب ومجلات ودراسات؛ ومن ضمن ما شد انتباهي في داخل هذا العدد الأول مقالٌ قصيرٌ بعنوان «التطور والثورة» للكاتب السوري ـ من أصل ليبي ـ كامل عيّاد؛ فلفت انتباهي سؤالُ الكاتب «هل يمكن تجنّب الثورات؟» وكان من ضمن جوابه: «أن المسألة ليست هي الموازنة بين حسنات الثورة ومساوئها، وإنما المسألة هي البحث في إمكاننا اجتناب الثورات وهل في استطاعتنا أن نقوم بالإصلاح دون اللجوء إلى الثورة؟».
أعادني مقالُ كامل عيّاد وسؤاله إلى منطقة التساؤل، بداية عن دوافع الثورة ومآلاتها، وعن مفهومنا للثورات بين أصالتها وزيفها، وعما يمكن أن يحل محل الثورات مثل مشروعات الإصلاح.
ورغم أن عمر المقال تجاوز ٦٧ عامًا منذ نشره الأول، ولكنه ما زال قادرًا على مخاطبة الوعي البشري والدفع به إلى مواصلة السؤال، ولسنا في زماننا بمعزل عن صروف تلك الأزمنة التي عاش الكاتب أحداثها بما فيها ثورات الاستقلال؛ غير أن المَشَاهد اختلفت والأهداف تغايرت، وبات مصطلح الثورة مستغلا من قبل مجموعات متخصصة في توجيه السلوك الجمعي عبر دفعه إلى أجندات غير واضحة النهايات تعتمد الشعارات الرنانة المهيّجة لعواطف الشعوب، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه بعمليات اختطاف العقل وإعادة تشكيل الرأي العام أو كما نسمّيه بالعقل الجمعي المبرمج.
كما اتّضح لي ويتضح للقارئ، أن مراد الثورات عند كامل عيّاد تلك المعنية بالثورات الداخلية بصورها السياسية والعسكرية، والتي بكل تأكيد لا يعني بها ثورات التحرر من الاحتلال؛ حيث ـ كما سنوضّح ـ لمصطلح الثورة مآلات واسعة أخرى تُغمر بالإيجابية بعيدة عن المظاهر السياسية، وكذلك في مقالنا هذا؛ فمرادنا بـ «الثورات» معنيٌّ بالجانب السياسي، ولهذا؛ فإنني لستُ مع شعار الثورات بمفهومها المطلق؛ إذ إن الثورات ـ بفلسفتها الرائجة في زمنناـ لم تعدْ تعطي مفعولها الحقيقي كما يمكن أن يكون مع قرون وعقود ماضية؛ إذ كانت الثورات مرتبطة بمفهوم تسريع عملية التطوّر ـ كما يشير أيضا كامل عيّاد في مطلع مقاله ـ ، ويشمل التطور وثوراته القائمة كل ما يتصل بالتقدّم في عالم الأفكار والأشياء، وكذلك رفض وجود الاحتلال الأجنبي وانتهاكاته النازعة لأبجديات السيادة والحرية والمعوقة للتطور؛ ولهذا من الضروري أن نعترف بثورات صميمة مثل الثورة العُمانية في القرن السابع عشر ضد الاحتلال البرتغالي للسواحل العُمانية والثورة الجزائرية والسورية ضد الاستعمار الفرنسي والمصرية ضد الاستعمار الإنجليزي والليبية ضد الاستعمار الإيطالي والفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأنها لا تقل قيمة عن الثورات المعرفية والصناعية التي خاضتها الإنسانية عبر تاريخها الحضاري الطويل؛ فجميع هذه الثورات وإن تباينت في بعض جزيئاتها، تشترك في أهدافها الرئيسة التي تخدم رؤيةً واحدة تتمثّل في التحرر من معوقات التطور والتقدّم سواء تلك التي تعوق العقل أو حرية الإنسان وكرامته وسيادة وطنه.
مع هذا التوضيح لمنحى «الثورة» الصميم، أعود إلى تأكيد أنني لست مع شعارات «الثورات» الحديثة ـ ذات الطابع السياسي المُسيّس ـ التي باتت مساوئها أكثر من محامدها، وإلا؛ فكيف نقرأ حالَ بعض الشعوب العربية بعد حصول ما أُطلِقَ عليه بموسم ثورات «الربيع العربي»؟ ألم تُصغْ لأجل هذه الثورات الشعاراتُ الرنانة المُهيِّجة للعقل والعاطفة، وضُخّت لأجل انتشارها وصناعة أفلامِ تزييف حقائقها الملياراتُ من الأموال ـ كما تؤكدها شهادةُ بعض من كان جزءا من مشروعها ـ؟ ألا نشهد في حاضرنا تقسّم لبعض تلك الدول العربية واستمرار حروبها الداخلية بعد أن كانت تنعم بالوحدة الداخلية والأمن والاستقرار؟
إن كان حال عقلنا ومنطقه وفقَ مكاشفات تجاربنا الإنسانية وخلاصاتها يرفض مبدأ الثورات الهدّامة؛ فإنه ـ في المقابل ـ يقرّ بأهمية الإصلاح وتفعيله باعتباره عدوَ الثورات اللدود، ولا أعرف للإصلاح تكلفةً كبيرةً تماثل التكلفة الباهظة التي أمكن لثورات القرن الواحد والعشرين أن تأتي بها وما أحدثته من خراب ودمار بجانب مآرب من يقف خلف كواليسها ويصممها تصميما يليق بمصالحه ومصالح مجموعاته الخاصة.
لهذا يؤكد لنا كامل عيّاد أن الثورات ـ ونضيف معه: حال لم تكن تدعو إلى التحرر من احتلال خارجي أو معوقات العقل والمعرفة ـ يمكن تجنّبها واستبدالها بالإصلاح، وتبدأ مشروعات الإصلاح بالخطاب المعتدل ومبادئه السامية، وتنطلق بعدها في مشروعات تطبيقية تبرز فيها بناء دولة المؤسسات والقانون وإشراك المجتمع وأفراده في مسيرة البناء والتنمية، وأقرب ما يمكن أن يذكّرنا بمثل هذه التجارب الإصلاحية التي استطاعت أن تخمد لهيب الثورات مشروعُ النهضة العُمانية في عام 1970 الذي أطلقه جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه-؛ فجاءت في وقتها المناسب والضروري بعد أن التهبت -يومها- المنطقة وخصوصا سلطنة عُمان بنار الشيوعية التي رُوّجَ لها بصفتها الحلَ الوحيد لمواجهة المشكلات التي تواجه العمانيين قبل عهد النهضة المباركة، ولا أردد ذلك اعتباطا؛ إذ سبق أن سردتُ بعضًا من هذه التجربة السياسية العُمانية التي كان والدي جزءًا من معادلتها السياسية الصعبة؛ فتمخضت تجربته ـ وكثير من كان معه ـ بانتقاله من اعتناقه فكرة الثورة السياسية وعنفها المدمّر إلى تبنّي فكرة الإصلاح الذي كان السلطان قابوس رائدها ومحركها في تلك الحقبة؛ ليرفعَ من نضج الوعي الوطني لدى عدد كبير من شخصيات تلك التجربة السياسية بمن فيهم والدي الذين أُشرِكوا في مشروع النهضة العُمانية.
لعلّ من يقرأ المقال، يفطن إلى ما يصبو إليه كاتبُ هذه السطور في ظل لهيب المنطقة على وجه الخصوص والعالم على وجه العموم، وما يُحاك من مؤامرات تهدف إلى إشعال الفتن بأنواعها بما فيها المؤججة بين الشعوب وحكوماتها، وهذا ما يُرصد عبر وسائل شتّى أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي التي تتنافس حساباتها الدخيلة ـ والتي تعمل بعضها لصالح أجندة سياسية واستخباراتية خارجية ـ في محاولة توجيه الرأي العام واستمالة بُوصلته إلى مسارات تدس السم في العسل؛ لتحلّ الفوضى محل استبداد الأمن. مع هذا السرد المختصر، أتصور أن معظمنا يتفق بأن الثورات السياسية وما يرتبط بها من مقدّمات تحريضية وتخريبية لا تصب -في غالبها- إلا في مصلحة طرف ثالث لا يهمه استقرار الأوطان قدر اهتمامه بتحقيق مصالحه الخاصة. ويتسع اتفاقنا بأن الإصلاح ومشروعاته دائما البديل الناجع وفقَ براهين التاريخ وتجاربه؛ وبناءً على ذلك، نرى للإصلاح اتساعًا من حيث موقعه ومنفذيّه؛ فلا ينبغي أن نكتفي بالتعويل على منطلقات الإصلاح لتكون بيد الحكومات وحسب ـ وإن كانت الحكومات تملك زمام القوة والحكمة معا ـ؛ فمع واقعنا الرقمي الذي يعمل على تجديد وعينا بشكل مستمر ـ للأفضل أو للأسوأ ـ، يأتي دورُ المجتمعات وأفرادها في مجانسة الإصلاح بدءا من مستويات الوعي وأهميته وما يندرج من عناصره مثل الحكمة، وتقديم المصلحة الوطنية، وتغليب الوحدة على النزعة التصادمية، وتمتد إلى المساهمة في مشروعات الإصلاح بتعدد مذاهبها وأشكالها، وبتجدد النهضة العُمانية بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه-؛ تتجلى صورٌ متجددة تعكس منظومة الإصلاح المستمرة والمتفاعلة مع مستجدات العصر الرقمي وتطوراته، مثل مكافحة الفساد بأنواعه، وإشراك أفراد المجتمع العُماني كافة في الرؤى الوطنية وعملية مراقبة الأداء كما نشهده في منصات مثل «تجاوب» التي تتيح لأي مواطن أن يسرد مقترحاته الوطنية وبلاغاته عن أي خلل ملحوظ، وكذلك اللقاءات الوطنية مع فئة الشباب العُماني.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما یمکن أن الع مانیة
إقرأ أيضاً: