سقوط دفاعات النمل المجنون الحصينة.. كيف عثر العلماء على الثغرة؟
تاريخ النشر: 28th, November 2025 GMT
كما أن الشخص المصاب بالجنون يصعب السيطرة عليه، فإن الأمر نفسه ينطبق على أحد أنواع "النمل المجنون" في أميركا، وهو نمل "توني كريزي" الغازي، الذي أرهق الباحثين لعقود.
كلمة" توني" تعني "أصفر مائلا إلى البني" أو "ذهبيا مائلا للحمرة"، وقد أُطلق هذا الاسم على النوع، لأنه يتمتع بلون مائل إلى الذهبي أو البني الفاتح، وهو ما يميزه عن النمل الأسود أو الأحمر الشائع في البيئات نفسها، أما كريزي أي مجنون، فتشير إلى سلوكه الغريب.
ويعد هذا النوع، أحد الأنواع الغازية التي انتشرت بسرعة في عدد من مناطق بأميركا الجنوبية والولايات المتحدة، ولا يسير في خطوط مستقيمة كالأنواع الأخرى، بل يتحرك بشكل عشوائي ومتسارع ومتعرج يوحي بالفوضى، وكأنه "يركض بلا هدف".
ويتميز هذا النوع من النمل المجنون بقدرته الاستثنائية على التكاثر السريع، وتكوين مستعمرات ضخمة مترابطة، وقدرته على التغلب على "النمل الناري" الأحمر الشرس.
وهذه السلوكيات الغريبة، إلى جانب سرعته الهائلة جعلت السيطرة عليه صعبة للغاية، غير أن فريق بحثي من جامعة تكساس في أوستن نجح مؤخرا في التوصل إلى ثغرة مهمة في دفاعاته الحصينة.
وقبل أكثر من عشر سنوات، اكتشف فريق جامعة تكساس أن بعض هذا النمل في ولاية فلوريدا كان مصابا بشكل طبيعي بكائن دقيق (ممرض) يسمى "ميكروسبوريديا"، وهو نوع من الطفيليات الدقيقة التي تتكاثر داخل خلايا النملة نفسها.
وكان المثير أن هذا الممرض يقتل نمل "توني كريزي" فقط، ولا يضر بالكائنات الأخرى، وينتقل فقط عندما تقوم النملات العاملات برعاية اليرقات، ولهذا كان مرشحا ممتازا ليكون عامل مكافحة بيولوجية ضد النمل الغازي.
وبينما كان العلماء سعداء بهذا الاكتشاف، كانت المفاجئة التي جعلتهم يشعرون بأن السيطرة على هذا النمل باتت هدفا صعب المنال، هو أنهم عندما جربوا هذه المكافحة البيولوجية في المختبر كانت فعالة، لكنها فشلت في الطبيعية.
إعلانظل العلماء يتساءلون عن الأسباب، حتى توصلوا مؤخرا في الدراسة المنشورة بدورية "جورنال أوف أنيمال إيكولوجي"، إلى اكتشاف نقطة ضعف في مستعمرات هذا النمل يمكن النفاذ منها لتفعيل المكافحة البيولوجية باستخدام طفيليات "ميكروسبوريديا".
في عالم النمل، عادة ما تكون كل مستعمرة لها رائحة كيميائية خاصة بها (فيرومونات)، مما يجعل أفراد المستعمرة يتعرفون على بعضهم ويرفضون أي نملة غريبة، وقد يهاجمونها فورا، غير أن نمل "توني كريزي" ينتمي في كل المناطق إلى "مستعمرة فائقة" واحدة، وهي مجموعة ضخمة جدا من المستعمرات تمتد أحيانا لعدة كيلومترات أو حتى مئات الكيلومترات، وكلها تتعاون معا ولا تتقاتل، وأفرادها يقبلون أي نملة من أي مكان ضمن هذه الشبكة، وكأنها من العش نفسه تماما.
كان من المفترض أن تسهل تلك الخاصية من مهمة القضاء عليه، فقبول النمل للغرباء كان يعني أن بإمكان العلماء إدخال أفراد مصابة بالطفيلي إلى أي تجمع، فتختلط فورا بالنمل السليم، وسيسمح لها بالوصول إلى اليرقات، وتنشر المرض عبر الشبكة الهائلة للعش الموحد.
لكن المفاجأة أن هذا لم يحدث، وكشف العلماء أن السبب الحقيقي وراء فشل انتشار الطفيلي في الطبيعة يعود إلى ما يشبه نظام مناعة اجتماعية متطور داخل مستعمرات النمل، يقترب في تفاصيله من إجراءات الحجر الصحي التي يتبعها البشر.
فالأعشاش الطبيعية لنمل "التوني كريزي" ليست مجرد حفرة في الأرض، بل شبكة متعددة الغرف، تخصص كل منها لنشاط محدد، فتوجد غرفة لرعاية اليرقات، وأخرى للتخلص من الجثث، وأخرى للبحث عن الطعام، وهذا التنظيم الدقيق يمكن المستعمرة من عزل الأفراد المصابين على الأطراف ومنعهم من الوصول إلى مركز العش، حيث توجد اليرقات التي ينتقل إليها الطفيلي.
وفي تجربة حاسمة، أثبت الباحثون أن الأعشاش متعددة الغرف نجحت تماما في منع المرض من الوصول إلى منطقة اليرقات، أما الأعشاش ذات الغرفة الواحدة فانهارت بسرعة بعد وصول العدوى إلى قلب المستعمرة.
وقاد هذا الاكتشاف العلماء إلى مفهوم جديد أطلقوا عليه "المناعة المعمارية"، حيث يعمل تصميم العش نفسه كخط دفاع طبيعي ضد الأمراض.
ولم يتوقف الدفاع عن المستعمرة عند تصميم الأعشاش، فقد أظهرت الملاحظات أن النمل المصاب يتخذ إجراءات عزل ذاتي تحمي باقي المستعمرة من العدوى.
فالنمل المصاب يبتعد عن مركز العش، حيث توجد الملكة واليرقات، ويؤدي المهام الخطيرة مثل التخلص من الجثث والبحث عن الطعام بعيدا عن باقي الأفراد، ويتجنب الاقتراب من مجموعات النمل السليم، مما يقلل فرصة انتشار الطفيلي.
وفي بعض الحالات يظهر سلوك عدواني بين المصابين والأصحاء، ما يوحي بأن النمل يتعرف على المرض ويأخذ احتياطاته، كما أن النمل المصاب يقوم بإزالة جثث النمل المصاب الآخر، ليمنع أي اتصال محتمل مع الأفراد الأصحاء، وهو سلوك يشبه التضحية من أجل حماية المستعمرة بأكملها.
كيف تغلّب العلماء على دفاعات النمل؟وبعد اكتشاف سلوكيات النمل الدفاعية وتنظيم الأعشاش، قام الباحثون بتغيير إستراتيجيتهم في نشر الممرض الطبيعي، فلم يعد الهدف مجرد وضع النمل المصاب بالقرب من الأعشاش، بل أصبح تدمير عش النمل الغازي بالكامل وخلط المصاب بالسليم، وإجبار جميع الأفراد على الهجرة سويا وبناء عش جديد.
إعلانويقول إدوارد ليبرون، الباحث في قسم الأحياء التكاملية بجامعة تكساس في أوستن، والباحث الرئيسي بالدراسة في بيان نشره موقع الجامعة "في هذه الحالة، تختفي الحواجز الدفاعية، ويختلط النمل المصاب بالسليم، مما يسمح للطفيلي بالوصول إلى اليرقات وينتشر داخل المستعمرة بأكملها".
ويضيف "أثبتت هذه الطريقة الجديدة فعاليتها العالية، حيث تؤدي إلى انهيار المستعمرات الغازية وإتاحة الفرصة للأنواع المحلية للعودة إلى البيئة الطبيعية".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات
إقرأ أيضاً:
ثقب عملاق يظهر فوق الأطلسي ويثير قلق العلماء.. ماذا سيحدث؟
رصد العلماء اتساعا غير مسبوق في منطقة ضعف هائل بالمجال المغناطيسي للأرض تُعرف بـ "منطقة الضعف المغناطيسي في جنوب الأطلسي" (SAA).
هذه المنطقة باتت تمتد على مسافة تقارب 5 ملايين كيلومتر مربع فوق جنوب المحيط الأطلسي، ما يثير قلق الباحثين حول تأثيراتها على التكنولوجيا والأرض.
يتميز هذا الضعف المتنامي في درع الأرض المغناطيسي بتمكينه من وصول مستويات أعلى من الإشعاع إلى ارتفاعات منخفضة، ما يُهدد سلامة الأقمار الصناعية. وقد زادت حيرة العلماء حول ما يجري في أعماق الكوكب بفعل هذا التغير الكبير الذي لا يمكن تجاهله.
أكدت البيانات الجديدة الصادرة عن مهمة Swarm التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، وهي مجموعة من ثلاثة أقمار صناعية مخصصة لقياس الإشارات المغناطيسية، أن الشذوذ لا يتوسع فقط، بل يتطور بشكل غير متماثل.
وأظهرت منطقة سريعة التدهور في الجنوب الغربي لإفريقيا، مما يُعزى إلى ما يُعرف بـ "بقع التدفق العكسي".
هذه البقع هي مناطق ينحني فيها المجال المغناطيسي إلى الداخل بدلاً من أن يتجه إلى الخارج، ما يعكس اضطرابات عميقة عند الحدود بين النواة الخارجية السائلة والوشاح الصلب. ويشير كريس فينلي، الباحث المختص بالمغناطيسية في وكالة الفضاء الأوروبية، إلى أن هذه المنطقة تُظهر سلوكًا غير معتاد.
التأثير على الأقمار الصناعيةعلى الرغم من أن هذه الظاهرة لا تشكل خطرًا مباشرًا على البشر على سطح الأرض، فإن تأثيرها على الفضاء صار ملموسًا. فعند مرور الأقمار الصناعية داخل هذه المنطقة الضعيفة، تتعرض لمستويات أعلى من الإشعاع، ما يؤدي إلى أعطال متكررة وتلف البيانات وتقليص العمر التشغيلي للمهمات الفضائية.
بعض الأنظمة، مثل تلسكوب هابل الفضائي، تضطر إلى إيقاف أجهزة معينة أثناء العبور، والأمر نفسه ينطبق على محطة الفضاء الدولية التي تمر فوق المنطقة عدة مرات يوميًا.
يعكس اضطراب جنوب الأطلسي أيضا، تهديدات تكنولوجية ويقدّم أيضًا أدلة نادرة حول ديناميكيات المحرك المغناطيسي للأرض، حيث يُنتج المجال المغناطيسي عبر حركة الحديد المنصهر في النواة الخارجية، وهي عملية معقدة تُعرف بـ "الجيودينامو".
وتشير دراسة منشورة إلى وجود علاقة وثيقة بين توسع SAA وبقع التدفق العكسي المستقرة عند الحدود بين النواة والوشاح، ما يوحي بوجود اضطرابات حرارية عميقة قد تُغيّر سلوك الجيودينامو على المدى الطويل.
رغم إمكانية التعامل مع التحديات الحالية عبر إعادة توجيه الأقمار الصناعية أو إيقاف بعض أجهزتها مؤقتاً، إلا أن اتساع الاضطراب المتواصل يطرح تساؤلات كبيرة حول مستقبل المجال المغناطيسي للكوكب.
بعض العلماء يربطون هذه الظاهرة باحتمال حدوث انعكاس قطبي مغناطيسي في المستقبل - وهو حدث لم يقع منذ 780 ألف عام - لكن لا يوجد دليل يشير إلى أن ذلك وشيك.