وصول يتأخر حتى أستحقه
تاريخ النشر: 8th, December 2025 GMT
سلطان بن محمد القاسمي
لم أصل إلى شيء عظيم، ولم أعبر منعطفًا حاسمًا، لكنني بدأت أبتعد عما كان يستنزفني دون أن ألاحظ. صرت أختار معاركي بدل أن أستدرج إليها، وأخفف حملي بدل أن أضيف إليه، وأغلق بعض الأبواب بهدوء لا يراه أحد ولا يحتاج شرحًا.
لم يكن ذلك انتصارًا يحتفى به؛ بل نجاة خافتة تشبه الهمس؛ نجاة لا تعلن نفسها، لكنها تعيد ترتيب الطريق من الداخل.
ومن هنا تحديدا بدأت أفهم أن ليس كل معركة تستحق خوضها، ولا كل كلمة تحتاج ردًا، ولا كل جدال يعني شيئا في النهاية. تمر بك أصوات كثيرة، ووجوه كثيرة، وآراء كثيرة، لكنك لا تشعر بالحاجة لأن تنتصر فيها جميعا. تكتشف أن الانسحاب أحيانا ليس هزيمة، بل نجاة، وأن الصمت في بعض المواضع شكل من أشكال الحكمة لا يراه إلا من جربه بعمق.
ومع هذا الفهم الجديد، يتغيّر موقع التوافه في قلبك. لا يعكر صفوك تأخر بسيط، ولا يربكك خطأ عابر، ولا يسرق يومك زحام الطريق أو ضيق اللحظة. كأن صدرك اتسع دون أن تدري، وكأن الأشياء استعادت حجمها الحقيقي بعد سنوات من التضخيم. لم تعد تثقل روحك بما لا يستحق أن يسكنها، ولم تعد تمنح طاقتك لمن لا يعرف قيمتها.
هنا تبدأ باسترداد عقلك من الآخرين، ولا تسمح لأحد أن يفكر عنك، ولا أن يملي عليك كيف ترى أو كيف تحكم. أحكامك تصبح أبطأ، لكنها أعدل. وحين تصادف الكذب، لا تركض لإثبات الحقيقة، لأنك أدركت أن بعض الأكاذيب لا تحتاج محققا، بل تحتاج وقتا فقط. ووقتك صار أثمن من أن يُستهلك فيما لا يضيف لك حياة.
ثم يحدث تحول آخر لا يقل عمقا، حيث تتوقف عن انتظار "الأكمل" كي تبدأ. وتنسحب بهدوء من مطاردة المثاليات التي تجمدك في مكانك، وتختار أن تمشي على الممكن الجميل، لا أن تقف طويلا عند المستحيل المتخيل. تقبل بما هو حسن؛ فيفتح لك هذا الحسن طريقا نحو ما هو أفضل دون أن تشعر. تفهم أخيرا أن الانتظار الطويل بدعوى الكمال قد يكون استنزافا مموها باسم الطموح.
وفي علاقتك بنفسك، يحدث التحول الأهم. لم تعد تنساها في زحمة العطاء، ولم تعد تحرقها بحجة المسؤوليات. تفهم دون تنظير طويل أن أحدًا لن يسهر عنك إذا أنهكت، ولا أحد سيتألم بدلًا منك إذا مرضت، ولا أحد سيحمل قلبك إذا أثقله التعب؛ فتتعامل مع نفسك باحترام جديد، تعطيها حقها دون شعور بالذنب، وتدللها دون أنانية، وتحميها دون قسوة.
أذكر رجلا التقيت به ذات مرة، لم يكن غنيا ولا مشهورا، لكنه كان هادئا على نحو لافت. قال لي وهو يبتسم: "أمضيت نصف عمري أراقب الناس، وأحسب خطواتهم، وأغار من مساراتهم، ثم تعبت. في يوم واحد فقط قررت أن أراقب نفسي بدلا منهم".
لم تتبدل حياته من الخارج كثيرا، لكن من الداخل تغير كل شيء. صار ينام بلا ضجيج، ويستيقظ بلا ثقل، ويعيش بلا مقارنة. يومها فهمت أن بعض التغيير لا يحتاج انقلابا في الظروف، بل انقلابا في زاوية النظر.
وحين تصبح حياتك لك، تكف تدريجيا عن ملاحقة أخبار الآخرين. لا تسألك الروح أين سافروا، ولا ماذا يملكون، ولا كيف يعيشون. تصبح حياتك كافية، ومساحتك الداخلية أوسع من فضولك. لا تمد عينك لما في أيديهم، ولا تستنقص ما في يديك. تقبل ما كتب لك وأنت مطمئن أن غيرك لن ينقصك، ولن يزيدك.
ومع هذا الاتساع، تبدأ برؤية البشر على حقيقتهم لا على مثالياتك القديمة. فيهم الطيب وفيهم القاسي، فيهم العميق وفيهم السطحي، فيهم من يملك المروءة وفيهم من لا تسعفه أخلاقه حتى في أوقات الوئام. فتخفف توقعاتك، وتوزع المسافات بحكمة، وتختار موقعك من كل قلب بما يحفظ سلامك، لا بما يرضي الجميع.
ثم تصل بهدوء إلى قناعة أن الحياة لا تحتاج منك صراعا دائما، بل وعيا دائما. وأن بعض ما لا يمكن تغييره يحتاج قبولًا ذكيًا، لا شكوى طويلة. وأن تغيير ما يمكن تغييره يحتاج شجاعة هادئة، لا اندفاعا مؤقتا.
وهنا فقط، تشعر أن حياتك صارت لك، لا لأنك امتلكت كل شيء، بل لأنك لم تعد مملوكا لما يؤذيك، ولا أسيرًا لما يستنزفك، ولا عالقا في سباق لا يشبهك.
أحيانًا أعود بذاكرتي إلى تلك النسخة القديمة مني، التي كانت تركض كثيرًا، وتقلق أكثر مما ينبغي، وتعتقد أن الاستحقاق لا يأتي إلا بعد تعب مضاعف، وأن الراحة تهمة تحتاج تبريرا. أبتسم اليوم وأنا أستعيد تلك المراحل، لا لأنني تجاوزتها بالكامل، بل لأنني صرت أفهمها. ذلك الإنسان الذي كنته لم يكن مخطئا، كان فقط يتعلم بطريقته. واليوم، لم أعد أطلب من نفسي أن تكون خارقة، يكفيني أن تكون صادقة، متزنة، وأقرب إلى الله منها إلى ملذات الدنيا، وهذا وحده كاف.
وفي تلك اللحظة التي لا يعلنها أحد، تشعر أن قلبك لم يعد ساحة حرب، ولا رأسك ميدان سباق، ولا روحك حلبة انتظار. تشعر فقط أنك أخيرا في مكانك الصحيح، لا لأن الطريق انتهى، بل لأنك صرت تمشي فيه بلا خوف. حينها تفهم أن الحياة لا تُمنح دفعة واحدة، بل تُكشف لك طبقة بعد طبقة، وأن أثمن ما تهبه لك ليس ما تحمله يداك، بل ما يسكن صدرك من اتساع.
وهكذا، دون احتفال، ودون شاهد سوى الله، تصل إلى نفسك، وتكتشف أن أعظم وصول هو ألا تضيع منك مرة أخرى.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
انفراجه مرتقبة لأزمة الغاز في عدن وسط تشديد حكومي
اتخذت وزارة النفط والمعادن سلسلة من الإجراءات العاجلة لإنهاء أزمة الغاز المنزلي التي شهدتها العاصمة عدن خلال الأيام الماضية، والتي تفاقمت جراء أعمال التقطعات المتكررة التي أعاقت وصول الإمدادات إلى عدد من المحافظات، وانعكست بشكل مباشر على حياة المواطنين.
وجاءت هذه التوجيهات خلال اجتماع موسّع ترأسه وزير النفط والمعادن، الدكتور سعيد سليمان الشماسي، وضم قيادات من الشركة اليمنية للغاز ومصافي عدن وشركة النفط، إلى جانب عدد من المختصين، لمناقشة أسباب الأزمة وتداعياتها وبلورة حلول عاجلة ومستدامة لمعالجتها.
وشدّد الوزير الشماسي على التعامل مع الأزمة باعتبارها أولوية وطنية وخدمية ملحّة، موجهاً بالإفراج الفوري عن الكميات المحتجزة واستئناف ضخ الغاز إلى عدن والمحافظات المجاورة دون أي تأخير. كما أكد ضرورة تعزيز التنسيق بين الجهات المعنية وتفعيل دور السلطات المحلية في حماية خطوط الإمداد، والتعامل بحزم مع أي ممارسات تعيق وصول المادة إلى المستهلكين.
وناقش الاجتماع خطة شاملة لمعالجة الاختناقات المتكررة في منظومة التوزيع، وضمان انسيابية الإمدادات إلى المستودعات ونقاط البيع الرسمية، إضافة إلى مراجعة سياسات التشغيل ووضع آليات رقابية فاعلة لمنع الاحتكار والتلاعب بأسعار الغاز.
وأشار الوزير الشماسي إلى أهمية توسيع قدرات الخزن الاستراتيجي للغاز في العاصمة عدن لتغطية احتياجات محافظات عدن ولحج والضالع، إلى جانب تعزيز السعات التخزينية في منشأة بروم بمحافظة حضرموت، بما يحقق توزيعاً أكثر مرونة واستقراراً، ويحد من تأثير أي طوارئ مستقبلية.
وأكد الوزير أن القيادة السياسية والحكومة توليان ملف المشتقات الغازية والنفطية أهمية قصوى، مشدداً على استمرار العمل لوضع خطط عاجلة ومتوسطة وبعيدة المدى تهدف إلى تعزيز الأمن الطاقي وتحسين مستوى الخدمات، وتخفيف الأعباء الاقتصادية عن المواطنين.
وتأتي هذه الإجراءات الحكومية في وقت تعيش فيه العاصمة عدن وعدد من المحافظات المحررة أزمة خانقة في مادة الغاز المنزلي، نتيجة التقطعات القبلية المتكررة في محافظة مأرب التي تعيق مرور قاطرات الغاز القادمة من صافر، ما أدى إلى تأخر الإمدادات وارتفاع الطلب بشكل حاد خلال الأيام الماضية، وانعكس سلباً على استقرار الأسواق.
من جهته بحث وزير الدولة محافظ العاصمة عدن، أحمد حامد لملس، الاثنين، مع القائم بأعمال مدير مصافي عدن سعيد محمد بن محمد، ومدير عام شركة الغاز فرع عدن مراد ناصر شيخ، الإجراءات العاجلة المطلوبة لمعالجة الأزمة وتوفير الغاز المنزلي للمواطنين.
ووجّه المحافظ لملس مصافي عدن بضخ الكميات المتوفرة لديها لتغطية العجز في الأسواق والتخفيف من معاناة المواطنين، مؤكداً منع خروج أي كميات من الغاز من العاصمة خلال الفترة الحالية، واقتصار الضخ والتوزيع على تلبية احتياجات عدن بشكل كامل.
وخرج الاجتماع بخطة تنفيذية مشتركة يبدأ العمل بها اعتباراً من يوم غد، تضمن وصول الغاز إلى الأحياء السكنية بشكل منتظم. ومن المتوقع وصول ست مقطورات من الغاز إلى عدن مساء الاثنين، وفق توجيهات وزير النفط، ليتم توزيعها وفق آلية عادلة تشمل كافة الأحياء السكنية.