هل ابتلاؤنا حرب أم حرابة؟ (2/2)
تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT
نقول بأن ما تحت وطأته منذ أبريل 2013 حرباً فقط لأننا لم نفكر إن كان لها سماً ناظراً لخصائصها لا لقاموس العالم. فلم يحص هذا القاموس النزاعات عددا حتى نكتفي بمصطلحه. ودعوتي في هذا المقال أن البلاء الواقع علينا "حرابة" لا "حربا": عبارة من واقعنا ما من أكتر.
هل حدث أن وقع مثل هذا التجريد لمدينة من قبل لنحسن وصف ما وقع للخرطوم؟
لا يماثل ما نحن فيه من ابتلاء شيء إلا واقعة في زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) خلال سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) عرفت بـ"pillage" ووجدت "التشليع"، وهو تفكيك الشيء إلى وحداته الأولى، في مصطلح السودان تعريباً مفيداً للكلمة، فتمردت فيها وحدات من الجيش الزائيري بالعاصكة كينشاسا لأنها لم تقبض رواتبها لأشهر، وكان غرضهم من هبتهم الحصول عليها ولا يعرف إن زادوا السياسة على ذلك، ثم اجتمع عليهم مدنيون دوافعهم سياسة وهي نزع رئيسهم موبوتو سيسي سيكو عن الحكم، كما انضم إليهم نهابون.
تمدد هذا العصيان وذيوله إلى مدن أخرى، فاحتل الجند المطار، ونهبوا مستودعاته وعطلوا برج المراقبة، ونهب وعصب تابعيهم من المدنيين نهباً على نطاق واسع أحدث أضراراً اقتصادية كبرى بالبلاد، إذ داهموا المتاجر ومحطات الغاز والمولات وبيوت المواطنين.
نهبوا المولات من أجهزة تلفزيون وثلاجات وماكينات تصوير، كما خربوا مكاتب الحكومة وبيوت الأجانب وشركاتهم، ونهب الناس من حولهم الأسواق وفككوا منشآت بحالها، فخلعوا منها أحواض المطابخ ومقاعد الحمام وشبكات الحديد التي تحمي نوافذها لبيعها في أسواق انفتحت في معسكرات الجيش، وهدموا قسماً كبيراً من المنطقة الصناعية وسرق الناس ماكينات ورشها.
واستولى العساكر على مئات السيارات من مصنع "جنرال موتورز" وخربوه ليتركوه هيكلاً من حديد، وحتى القوى الموالية لموبوتو استهوتها "نزوة التشليع" فمدت يدها مثل الآخرين متجاهلة قمعهم كما هي مهمتهم.
كان الحصاد فادحاً، حيث صرعت الأحداث 200 مواطناً، وقع النهب على 30 إلى 40 في المئة من الشركات، وتحطم 70 في المئة من المؤسسات، وغادر الأجانب زائير بشكل جماعي بعد نهب بيوتهم من دون مس أرواحهم، وهكذا ترحلت عن البلد نصف الشركات وتركت عمالها عاطلين.
وقال عالم سياسة بلجيكي إن نزوة "التشليع" هي ظن غمار الناس أنهم استطاعوا أخيراً فعل ما كانت صفوتهم تفعله بهم لعقود، وهو سرقة كل شيء، وانتهى التمرد بدعوة موبوتو لفرنسا وبلجيكا الراغبتين بالتدخل عسكرياً لفضه.
هل هذه حرب أم حرابة؟
قال أحدهم إن المثقف في عالمنا الثالث ضيف ثقيل على واقعه، فهو زاهد في معرفته بخصائصه لياذاً بمصطلح غربي مستخلص من واقعة غربية جغرافياً تعممت على العالمين من موقع شوكة، فقولنا إن ما نخوض في السودان حرباً على بينة من مصطلحها العالمي أخفى عنا الطاقة الإجرامية التي من ورائه، وهو إجرام يتفق علماء السياسة أنه سمة السياسة المعاصرة في بلدان العالم الثالث تزايل فيها الفاصل بين الجريمة والسياسة أو كاد، فسقطت السياسة في شكل الدولة في هايتي مثلاً لتستبيحها العصابات، وهو مصير بلاد كثيرة أذنت للميليشيات بأدوار سياسية.
سيأتي يوم تكون هذه الميليشيات هي السياسة كما تطمع "الدعم السريع" ليومها، ويستغرب المرء لتكففنا مصطلحاً لما نحن فيه من ابتلاء، وفي فقهنا الإسلامي غناء، فالطاقة المجرمة في "الدعم السريع" مما اصطلحنا كمسلمين على وصفه بـ"الحرابة"، وهي البروز لأخذ المال أو القتل، على سبيل المجاهرة مكابرة اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث، والمحاربة عند السرخسي، عادة قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم، والمجاهرة هي أخذ المال قهراً، أي خطفاً، لا خلسة كالسراق. وانسكب حبر فقهي كثير حول "البعد عن الغوث" ومعناها ألا يكون من مغيث لمن اعتدى عليه المحارب، وجعل هذا الشرط الفقه يقصر وقوع الحرابة في الصحاري لا الأمصار حاضرة السلطان التي يلحق الغوث المستغيث، وصارت "الحرابة" بالنتيجة هي فعل قطاع الطرق حصرياً، ولكن مثل أبي حنيفة قال بوقوع الحرابة في الأرياف والأمصار إذا لم يلحق الغوث في كليهما لأي سبب من الأسباب، بل تجد من قال إن وقوعها في المدن في مثل الخطف والقتل والسرقة والنهب وتحريق المحال والمنازل لجريمة أنكى لاستخفاف المحارب بالتجمعات البشرية فيروع أمنها متجرئ غير مبالٍ بقوة الغوث المنتظر.
لم يكن للخرطوم كما رأينا مغيث حين ظهرت "الدعم السريع" لأخذ المال مكابرة اعتماداً على القوة، فإذا لم تكن هذه "حرابة" فما تكون؟
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
من يُتقن أيديولوجية الصبر
راشد بن حميد الراشدي
في زمن يخوض بالفتن وجشع القلوب المريضة التي تتقلب أفئدتنا نتيجة مصالح دنيوية بحتة فأيدلوجية الصبر أو كما يقال أيدلوجية قوة التحمل أو فن سعة الصدر وتقديم الأعذار للأحباب من حولك هي سمةٌ لا يتقنها الجميع وفيها من الخير الكثير للمرء في دنياه وأُخراه.
اليوم نحتاج جميعاً لفن احتضان الناس والصبر وتحمل الآخر فمن ينفلت من هذا العقد فقد أهلك نفسه وذاته فهي سمة عظيمة حثَّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب فيها فقد جاء من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (متفق عليه).
إذن المرء يجب ألا يحزن على طيبته وحسن ظنه بالآخرين، فإن لم يوجد في الأرض من يُقدرها ففي السماء من يباركها بإذن الله فأيدلوجية الصبر لا يعرفها سوى الأقوياء وفيها درء للفتن وإدارة للصراعات التي تمر بالبشر بسكينة وهدوء وحل للأزمات التي تنشئ فيعقل الإنسان ما يصنع بدون ضيق أو تسرع فما نراه في كثير من الناس من اتساع في الأفق وهمم عالية في النفوس مغاير لما نراه في بعضهم من قلة الصبر وضيق النفس وسوء تقدير الأمور وسوء الظن حتى في أقرب المحيطين بهم فيفقدون محبة أحبابهم بتصرف أحمق قد يندم عليه المرء طوال حياته.
من يغير أيديولوجية الصبر هو إيمانك بالله وتعودك على حسن الظن بالآخرين وكذلك صنائع المعروف تقيك هذا الشر فأيدلوجية صناعة الصبر لها فوائد عظيمة على المرء منها أنها تقيه مصارع السوء فيعيش حياة سعيدة كريمة بين الناس رجلا فاضلاً أو امرأة فاضلة يشار لهم بالبنان ورجاحة العقل واحترام حقوق الآخرين فبالإيمان بالله تتحقق الراحة النفسية التي ينشدها الإنسان المسلم ولا تتغير مسارات حياته بين شد وجذب.
هناك أمثلة كثيرةً حولنا لأشخاص يحتوون كل من حولهم بالصبر والتحمل ويسعون لخدمتهم مهما بلغت قسوتهم وسوء ظنهم وهناك عكس ذلك فالقلوب والنفوس تتفاوت في الصبر؛ فالذي يُغيِّر أيديولوجية الصبر هو المؤمن الحق الذي صدق قوله عمله فالدين المعاملة والتي يجب أن نحرص عليها مهما بلغ من جهل وسوء ظن الآخرين بنا وهكذا هي الحياة ومساراتها فصمام الأمان هو قدرتك في التحكم بنفسك أمام الآخرين.
اللّهُمَّ إنا نسألك صبر الشاكرين ونسألك النور في أبصارنا، والبصيرة في عقولنا، واليقين في قلوبنا، والإخلاص في أعمالنا، والنقاء في أنفسنا، والسعة في أرزاقنا، والصحة في أبداننا، والشكر لله على نعمك الظاهرة والباطنة والصدق مع الله وعباده في القول والعمل.
رابط مختصر