سودانايل:
2025-07-05@11:35:35 GMT

هل ابتلاؤنا حرب أم حرابة؟ (2/2)

تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT

نقول بأن ما تحت وطأته منذ أبريل 2013 حرباً فقط لأننا لم نفكر إن كان لها سماً ناظراً لخصائصها لا لقاموس العالم. فلم يحص هذا القاموس النزاعات عددا حتى نكتفي بمصطلحه. ودعوتي في هذا المقال أن البلاء الواقع علينا "حرابة" لا "حربا": عبارة من واقعنا ما من أكتر.
هل حدث أن وقع مثل هذا التجريد لمدينة من قبل لنحسن وصف ما وقع للخرطوم؟
لا يماثل ما نحن فيه من ابتلاء شيء إلا واقعة في زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) خلال سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) عرفت بـ"pillage" ووجدت "التشليع"، وهو تفكيك الشيء إلى وحداته الأولى، في مصطلح السودان تعريباً مفيداً للكلمة، فتمردت فيها وحدات من الجيش الزائيري بالعاصكة كينشاسا لأنها لم تقبض رواتبها لأشهر، وكان غرضهم من هبتهم الحصول عليها ولا يعرف إن زادوا السياسة على ذلك، ثم اجتمع عليهم مدنيون دوافعهم سياسة وهي نزع رئيسهم موبوتو سيسي سيكو عن الحكم، كما انضم إليهم نهابون.


تمدد هذا العصيان وذيوله إلى مدن أخرى، فاحتل الجند المطار، ونهبوا مستودعاته وعطلوا برج المراقبة، ونهب وعصب تابعيهم من المدنيين نهباً على نطاق واسع أحدث أضراراً اقتصادية كبرى بالبلاد، إذ داهموا المتاجر ومحطات الغاز والمولات وبيوت المواطنين.
نهبوا المولات من أجهزة تلفزيون وثلاجات وماكينات تصوير، كما خربوا مكاتب الحكومة وبيوت الأجانب وشركاتهم، ونهب الناس من حولهم الأسواق وفككوا منشآت بحالها، فخلعوا منها أحواض المطابخ ومقاعد الحمام وشبكات الحديد التي تحمي نوافذها لبيعها في أسواق انفتحت في معسكرات الجيش، وهدموا قسماً كبيراً من المنطقة الصناعية وسرق الناس ماكينات ورشها.
واستولى العساكر على مئات السيارات من مصنع "جنرال موتورز" وخربوه ليتركوه هيكلاً من حديد، وحتى القوى الموالية لموبوتو استهوتها "نزوة التشليع" فمدت يدها مثل الآخرين متجاهلة قمعهم كما هي مهمتهم.
كان الحصاد فادحاً، حيث صرعت الأحداث 200 مواطناً، وقع النهب على 30 إلى 40 في المئة من الشركات، وتحطم 70 في المئة من المؤسسات، وغادر الأجانب زائير بشكل جماعي بعد نهب بيوتهم من دون مس أرواحهم، وهكذا ترحلت عن البلد نصف الشركات وتركت عمالها عاطلين.
وقال عالم سياسة بلجيكي إن نزوة "التشليع" هي ظن غمار الناس أنهم استطاعوا أخيراً فعل ما كانت صفوتهم تفعله بهم لعقود، وهو سرقة كل شيء، وانتهى التمرد بدعوة موبوتو لفرنسا وبلجيكا الراغبتين بالتدخل عسكرياً لفضه.
هل هذه حرب أم حرابة؟
قال أحدهم إن المثقف في عالمنا الثالث ضيف ثقيل على واقعه، فهو زاهد في معرفته بخصائصه لياذاً بمصطلح غربي مستخلص من واقعة غربية جغرافياً تعممت على العالمين من موقع شوكة، فقولنا إن ما نخوض في السودان حرباً على بينة من مصطلحها العالمي أخفى عنا الطاقة الإجرامية التي من ورائه، وهو إجرام يتفق علماء السياسة أنه سمة السياسة المعاصرة في بلدان العالم الثالث تزايل فيها الفاصل بين الجريمة والسياسة أو كاد، فسقطت السياسة في شكل الدولة في هايتي مثلاً لتستبيحها العصابات، وهو مصير بلاد كثيرة أذنت للميليشيات بأدوار سياسية.
سيأتي يوم تكون هذه الميليشيات هي السياسة كما تطمع "الدعم السريع" ليومها، ويستغرب المرء لتكففنا مصطلحاً لما نحن فيه من ابتلاء، وفي فقهنا الإسلامي غناء، فالطاقة المجرمة في "الدعم السريع" مما اصطلحنا كمسلمين على وصفه بـ"الحرابة"، وهي البروز لأخذ المال أو القتل، على سبيل المجاهرة مكابرة اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث، والمحاربة عند السرخسي، عادة قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم، والمجاهرة هي أخذ المال قهراً، أي خطفاً، لا خلسة كالسراق. وانسكب حبر فقهي كثير حول "البعد عن الغوث" ومعناها ألا يكون من مغيث لمن اعتدى عليه المحارب، وجعل هذا الشرط الفقه يقصر وقوع الحرابة في الصحاري لا الأمصار حاضرة السلطان التي يلحق الغوث المستغيث، وصارت "الحرابة" بالنتيجة هي فعل قطاع الطرق حصرياً، ولكن مثل أبي حنيفة قال بوقوع الحرابة في الأرياف والأمصار إذا لم يلحق الغوث في كليهما لأي سبب من الأسباب، بل تجد من قال إن وقوعها في المدن في مثل الخطف والقتل والسرقة والنهب وتحريق المحال والمنازل لجريمة أنكى لاستخفاف المحارب بالتجمعات البشرية فيروع أمنها متجرئ غير مبالٍ بقوة الغوث المنتظر.
لم يكن للخرطوم كما رأينا مغيث حين ظهرت "الدعم السريع" لأخذ المال مكابرة اعتماداً على القوة، فإذا لم تكن هذه "حرابة" فما تكون؟


IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

الحب في زمن التوباكو (15)

 

مُزنة المسافر

 

جوليتا: وَضعتُ شوكة وملعقتين وسكينًا صغيرًا على طاولة التقديم، وشرعتُ بوضع المعكرونة في وعاء كبير.. بدت ساخنة في شكلها ولذيذة في طعمها، لكن عمَّتي شعرت بالسأم من أطباقي المتكررة، وأظهرت استيائها بشكل واضح.

ماتيلدا: من جديد المعكرونة يا ابنة أخي، تعلمي طبقًا جديدًا.

جوليتا: لا تحبين الفاصوليا الخضراء، ولا تحبين أيًا من تلك الأشياء المعلبة، هاتي صحنكِ بعد الحساء، سأضع لك المعكرونة جربيها.

ماتيلدا: تبدو ساخنة، كانت تغلي كثيرًا.

جوليتا: قلبك فقط يغلي هنا، ويغلي القصص الجيدة يا عمتي.

ماتيلدا: نعم لأن ألبيرتو وضع قلبي يغلي كما تغلي المعكرونة في مياه غليان غير مناسبة، سريعًا كان يخرجني من الحزن الذي كنتُ أعيشه دونه أيامًا طويلة، فأردد له أغنياتي وأخبر آهاتي، وأشرح أمنياتي في اللحن، وبينما كنتُ أريد أن أخبره عن خططي، أننا سنغادر المدينة لمدة طويلة، لأن خورخيه منتج الأسطوانات المطولة يرغب أن نزور بلدانًا بعيدة، وأن نكون حاضرين في المهرجانات الموسيقية لنحصد الجوائز، وأن اكتب شيئًا أكثر سلاسة وأكون أكثر براعة في كتابة الأغنيات.

ردَّدتُ له أغنيتي: "قل لحبيبي ألّا يغيب"، وقلت له إن الناس أحبت اللحن، وأحبت الكلمات التي وجهتها في خاطري العميق لك يا ألبيرتو.

لم يتكلم، بقى صامتًا ينظر إليّ، قال لي: الحياة باتت صعبة يا عزيزتي.

علينا أن نكون معًا في أحلام اليقظة أكثر من الواقع، لكن من سيأبه لأحلام اليقظة التي لا تكتمل وسط نهارٍ طويل هكذا كان جوابي، إن سراباته لا تزعجني، وأنني سأسافر وارتحل واستقل أي مركبة لأذهب لأي مسرح يستقبل نجمة عظيمة مثلي.

من أنت يا ألبيرتو؟ أنت شيء صغير في عين الناس، إنك لا تعرف الإحساس.

بينما أنا يُميِّزُني الناس في المتاجر وفي العروض وحتى في المسارح المهملة فما بالك بالمهمة منها، وأنا أتمايل وأردد مع الجمهور الأغنيات، بينما أنت رجل هارب من واقع جميل.

مرتحل إلى أقصى يمين، وأنا في يسار الحياة امضي في يقين أن حب الآخرين قد وصلني بصدق كبير.

ألبيرتو: إذن خذيني معكِ، سألغي ذهابي إلى العالم المتقدم.

ماتيلدا: ماذا يا ألبيرتو؟ ماذا تعتقد أن الناس ستصفق لكلامك هذا.

سأذهب لوحدي، وأجعل وجدي يتحرك أمام أنهار وتلال وعيني سترى المجهول والغير معلوم، وسأمضي بعيدًا عن اليقظة، لقد صار لي نهوض آخر، ووقوف مغاير، فلن تكون معي سائر.

لم ينطق شيئًا، حين علم أنني كتبت شيئًا أعظم من "قل لحبيبي ألّا يغيب"، كتبت "سأغيب أنا خلف الجبال، وسأضيع في وميض نهار ساطعٍ للغاية، وسأعود فقط حين يناديك قلبي، وسأكون هناك، هناك في البعيد، ولن أجيد إلا حب اللحن، وليكن لشِعري هذا عمر مديد".

انبهر خورخيه المنتج حين تلوتُ عليه الكلمات، بدا عليه التركيز، تدبر قليلًا، وقال لي مازحًا: حين ينكسر قلبك يا ماتيلدا تكتبين شيئًا عظيمًا.

ماتيلدا: لقد انكسر كثيرًا أمام وجع الحياة يا خورخيه، لقد ذاب وانحسر، لقد راح واستراح في تابوت عهد قديم، لقد صار بين الرماد، لقد كان يعيش بالطبع الكساد، إنه قد ينبض من جديد فقط حين يرى الدنيا وما بها من أمور أخرى غير هذا العذاب، غير ذاك السراب.

خورخيه: لقد أصبحتِ شاعرة بكل شيء يا ماتيدا، ستكون الأيام القادمة صاخبة، وراغبة أن تنجحي وتحصدي الجوائز، وأن تنالي نيلًا مختلفًا.

ماتيلدا: فلنذهب بالأمتعة لأول محطة قطار سائر إلى البلدات الجارة، إلى الناس المارة نحو قرب المسارح والصالات والمقاهي، إلى العيون الفضولية نحو لحننا يا خورخيه، فلنذهب، فلنغادر، ولنهاجر بعقولنا باتجاه الحرية، باتجاه سعادة أبدية، باتجاه ما ينتظرنا.

خورخيه: فليكن لك ما تريدين هذه المرة يا ماتيلدا فأنتِ نجمة!

ماتيلدا: صار خورخيه أخيرًا يعترف بوجود لمعانٍ خاص يخص حضوري ووجودي، وكل ما كان يهمني في تلك الأيام أن أغادر وأجول الدنيا، وإن كانت لهوًا وعبثًا أو كان غيابًا مؤكدًا عن طقسٍ يعني بأُناسٍ من ماضٍ عَفِن، وقلت لخورخيه: سنذهب إلى كل الدنيا.

مقالات مشابهة

  • فرنسا بين شعارات الجمهورية وواقع التمييز.. المسلمون في مرمى السياسة
  • نواب البرلمان يساءلون أخنوش عن السياسة العامة للحكومة
  • تحول حاسم في تاريخ مصر الحديث| كيف أصبح 3 يوليو لحظة فاصلة بذاكرة السياسة؟.. قراءة في البيان
  • عوض بابكر : رحيل من لا يُعوَّض
  • باحث في الشأن الإقليمي: إيران في حالة تأهب دائم بعد أن بات الغدر سمة السياسة الدولية
  • اعترافات فيلسوف جهادي
  • من أوغندا إلى نيويورك.. رحلة صعود زهران ممداني في السياسة الأميركية
  • الحب في زمن التوباكو (15)
  • كهرباء العراق رهينة السياسة: الطاقة بين قبضة إيران وطموح أمريكا
  • تسلا تتراجع.. السياسة تُكلف ماسك خسائر في المبيعات