لجريدة عمان:
2025-05-28@18:14:04 GMT

في الوطـــن والفكرة الوطنيّـة

تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT

حين صعقتني أحداثُ «الرّبيع العربيّ» - شأن آلافٍ من النّاس - ببعض ظواهرها التي بدتْ لي شاذّةً و«غيرَ مفهومة»، أدركْتُ - حينها - مدى الفقـر الذي تعانيه الثّـقافةُ السّياسيّة العربيّة، ومدى الاضطراب الذي يُمسك بخناقها، فيمنعها من التّوازن أمام متغيّرات العالم الاجتماعيّ والدّوليّ، ويَحُـول دونَها والجواب عن إعضالات ذلك الواقع وتحدّيات ما استجدّ فيه ويستجدّ من معطيات.

ذلك، على وجْه التّحديد، ما تبيّن لي أنّ الثّـقافة السّياسيّة العربيّة اصطدمت به واصطدم بها، بمناسبة اندلاع تلك الأحداث، فافتضح به أمْـرُ عُـدّتها في جَبه امتحانٍ لم تألَـفْ نظائره (منذ الحقبة الاستعماريّة على الأقـلّ)، ولا اهْتَدت إلى سبيلٍ لاَحِـبٍ إلى صوْغ الرّدود المناسبة عليه.

لستُ أقصد بالثّـقافة السّياسيّة، هنا، الثّـقافةَ الجمْعيّة أو ثقافةَ الجمهور حصراً، بل أعني بها ثقافةَ النّخب السّياسيّة العربيّة من المِلل والنِّـحل كافّة؛ بيمينها ويمينِه ويسارها ويسارِه. ولمكانة هذه النّخبة في المجال السّياسيّ - بحسبانها مَـن ينتج الأفكار والرّؤى السّياسيّة ويضع لها التّعبيرات التّنظيميّة والمؤسّسيّة المطابقة - فإنّ عِظَم مسؤولـيّـتها لا يُقاسُ بحجم مسؤولية جمهورٍ نجحت مفرداتُها في تحشيده، مثلما لا يُقاسُ وعْيُه المنفعل بوعيها الفاعل، ولا إصْفارُ أيْـديه بما ملكتْ أَيْمانُ مؤسّساتها من جزيل الأَوَد! ولستُ أبغي، هنا، إبراءَ ذمّـةِ الجمهور أو الْـتماسِ الأعذار له، كما لستُ أبغي أن أضع ثقافةَ هذه النّخبة وخطابَها السّياسيّ إبّان «الرّبيع العربيّ» موضعَ فحصٍ نقديّ (فلقد فعلت ذلك، بتفصيلٍ وإفاضةٍ، في كتابي: ما بعد الرّبيع العربيّ)، إنّما يعنيني أن أقف، في المقام الأوّل، أمام نازلةٍ من النّوازلِ السّياسيّة لهذه النّخبة ولثقافتها السّياسيّة هي: فقرها الحادّ إلى الشّعور الوطنيّ أو إلى الشّعور بالوطن بما هو قِـبْـلَةٌ للسّياسة وهـدفٌ أعلى! وأن أسجّـل في شأنها موقفاً نقديّـاً كان قد تبلور لديّ، على الحقيقة، منذ ما قبل غـزو العراق بأعوامٍ قليلة قبل أن تصقله حوادث ذلك «الرّبيع».

وقـفتِ المعارضاتُ العربيّة بأطيافها الفكريّـة والسّياسيّة كافّـة (بليبـراليّـيها، وإسلاميّـيها، وقوميّـيها، وماركسيّـيها...، سِلْميّـيها و«جهاديّـيها») موقفَ خَلطٍ شنيعٍ فادح بين الدّولة والنّظام السّياسيّ فأسقطتِ الدّولـةَ - بعـوْن من أنفقوا على «ثورتها» و«جهادها» من القوى الأجنبيّة - وفي ظنّها أنّها تُسقط نظاماً سياسيّاً! كانتِ الفاجعةُ من وراء إسقاط الدّولة ومؤسّساتها أَنِ استُبيحَ الوطن للقوى الدّوليّة والإقليميّة وللجماعات المسلّحة المستوردة من أركان الأرض جميعها. أتى ذلك يمثّـل فضيحةً لا نجد سابقةً لها سوى في العراق قبيل غزوه. ومَأْتى الفضيحة هذه من ذلك الفقر الحادّ في الثّقافـة السّياسيّة لدى تلك النّخب والمعارضات الذي يبلغ درجة التّخليط بين الدّولة والسّلطة والنّظام السّياسيّ: الدّرجة التي تُزهِـق روح الوطـن كما هي، حقّـاً، أزهـقَـتْهُ في غير مكانٍ من الجغرافيا العربيّة!

من النّافل القول إنّ مثل ذلك الخلط الشّنيع هو ممّا يأتيه مَن يعانون نقصاً في الوطنيّة لا فقط نقصاً في الوعي السّياسيّ والنّظريّ؛ فلقد يكون المرءُ مُغَـفَّلاً وقليلَ الدّراية بالفوارق بين حيِّـزات السّياسة ومراتبها، ولكنّه يظلّ محصَّـناً بوطنيّـته ضدّ مهالك الانزلاق نحو المسّ بوحدة وطنه وسلامته واستقراره، فيستعصي بذلك على كلّ محاولات التّغرير به، وشراء ولائه، واستدرار السُّخـرةِ السّياسيّة منه ضدّ شعبه؛ ولعلّ هذا شأنُ السّواد الأعظم من النّاس الذين لم ينساقوا نحو امتشاق السّلاح، أو العدوان على مؤسّسات الدّولة، أو الإساءة إلى شعبهم وجماعاتٍ أهليّة بعينها، فحفِظوا ولاءَهم للدّولة والوطن لا لجماعةٍ أهليّة وفئويّة ولا لخارجٍ مُغْـدِق ولا لمليشياتٍ تنهش في لحم المجتمع والكيان. هكذا حافظوا، قـدْر ما استطاعوا، على الوحدة الوطنيّة من التّفكيك وعلى النّسيج الاجتماعيّ من التّمـزيق.

ومن عجبٍ أنّ أكثر تلك النّخب دَانَ بفكرةٍ عليا عابرة للأوطان الصّغرى، لكنّه تنكَّـب عن صيانة حرمة الوطن وكأنّه ليس لذلك أهلاً (= أعني الوطن). هكذا انْهَـمَّ الإسلاميّون بوطنٍ رمزيّ أعلى - من مَحْتِدٍ روحيٍّ هو في أساسه - هو «دار الإسلام» أو عالم كيانات المجتمعات المسلمة. وذهب الماركسيّون أبعد منهم إلى وطنٍ كونيّ أعلى هـو الأمميّة؛ فيما انشغل القوميّون بالوحدة القوميّة أكثر من الوحدة الوطنيّة وبالأمّة أكثر من الشّعب. ومع أنّي لست ضدّ أن ينتحل المرءُ لنفسه هذه الإيديولوجيا السّياسيّة أو تلك، فيفكّر في مصائـرَ أعلى من المصير الوطنيّ؛ ومع أنّي أنبذ النّزعة الوطنيّة الشّوڤـينيّة لأنّها واحدةٌ من المداخل إلى العنصريّة وإلى التّشرنق المَرضيّ على الذّات، وأربَـأ بالفكرة الوطنيّة أن تسقُط في أحابيلها، إلاّ أنّني إزاءَ العلاقة بين الفكرة الوطنيّة والأفكار السّياسيّة الأخرى التي تتجاوز نطاقَها، بما هي أفكار محمولة على صهوة إيديولوجيّات سياسيّة عابرة لحدود الأوطان، أرى المسألةَ من وجهيْـن:

من وجهٍ أوّل أَفْهَم فيه أنّ النّاس ينقسمون على حدود إيديولوجيّات سياسيّة فيتدافعون في سعيٍ منهم إلى تحقيق مصالح لهم داخل أوطانهم. وهُـمْ إذْ ينقسمون عليها لا ينقسمون على أوطانهم، بل يجتمعون عليها حتّى من غير اتّفاقٍ بينهم على ذلك الاجتماع؛ إذِ الانحياز إلى إيديولوجيا بعينها لا معنًى له سوى في أنّ الغاية منه تقديمُ نموذج اجتماعيّ- سياسيّ (ليبراليّ، اشتراكيّ ديمقراطيّ، وحدويّ، إسلاميّ...) والسّعي في تمكينه من التّـحقّـق داخل حدود الوطن. هكذا تبدو الإيديولوجيّات روافـدَ والوطنُ مَصَـبّاً لها.

ومن وجهٍ ثانٍ أَفْهـم أن يعتنق النّاسُ الإيديولوجيّات، وأن يذهبوا في التّمسُّك بيقينيّاتها إلى حدود التّمذهُب؛ مثلما أفهم أن يبارحوها إلى غيرها إنْ عَـنَّ لهم الانصراف عن واحدة إلى أخرى، أو أن يعيدوا مراجعتَها وتعديل موضوعاتها على نحو ما قد يقضي بذلك ويَحْمـل عليه تبدُّل المعطيات أو الفرضيّات أو هُمَا معاً، ولكنّ الذي لا أفهمه هو أن يكون معتنقُ إيديولوجيا ما مجرّداً من البنية التّحتيّة لأيّ خيارٍ فكريّ (= الوطنيّة)، والحال إنّه ليس يمكن المرءَ أن يكون اشتراكيّاً أو ليبراليّاً أو وحدويّاً قوميّاً أو إسلاميّاً إنْ لم يكـن وطـنيّاً. الصّفات الأخرى الفائضة كناية عن انحيازات إيديولوجيّة؛ عن حالات إيديولوجيّة ينتحلها المرءُ لنفسه، أمّا الوطن فليس إيديولوجياً؛ إنّه الهويّـةُ والماهية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الس یاسی ة الوطنی ة العربی ة الد ولة من الن من الت

إقرأ أيضاً:

د.حماد عبدالله يكتب: توجيهات "للقانون الغائب"



إستكمالًا لحديث الأمس عن القانون الهام "الغائب" أتحدث عن مصر مركزية الإدارة منذ قرأنا فى تاريخها القديم، والمعاصر، فالنيل حدد سياسة الإدارة فى المحروسة.
فحول النيل يعيش المصريون متشبثين بالأرض ومن كان يغادر القاهرة إلى أسيوط  يودعه أهله فى محطات القطارات أو فى موقف " أحمد حلمى " ( الأتوبيسات ) 
يبكى الاهل لفراق الحبيب حيث سيغادر أحد افراد العائلة !!
والقاهرة كانت هى ( مصر كلها ) وحتى اليوم يطلق على محطة قطارات القاهرة 
( محطة مصر ) !!
فالقاهرة هى مركز الحركة، وهى مركز الادارة، وهى محط أنظار كل الإدارات فى جميع أرجاء المحروسة !!
ولا يمكن أن يكون " الفولكلور " هو اساس للتنمية وللتقدم !!
لا يمكن أن ندير مصر  كدولة بنظريات "الأدب الشعبى المصرى" فالمركزية هى تراث مصرى قديم ورثناه عن أجدادنا الفراعنة ! ولا يمكن أن نعتبره " سنه " من السنن الحميدة فى الوطن !
فمركزية الادارة فى شركة صغيرة لا يزيد مسطحها الجغرافى عن بعض مئات الأمتار أثبت فشله الذريع وتراجع بمثل هذة المؤسسات المعتمدة على مركزية القرار إلى الخلف وإلى التدهور والانتحار فى بعض الاحيان !
وإذا جاز لنا التعبير عن مركزية القرار فى الشركة ورفضة !!فالأحرى أن نرفض المركزية الإدارية على مستوى الوطن !!
فنحن فى اشد الاحتياج إلى وطن يشبة الشركة الاقتصادية الكبرى نريد " مصر كوربريشن" مثل " دبى كوربريشن " " والولايات المتحدة كوربريشن " 
نريد دولة عصرية تتحرك فيها الادارة من خلال سياسات عامة متفق عليها مركزيًا
نريد لامركزية فى القرار الإدارى وفى تعظيم القيمة المضافة لكل جزء من الوطن أرض أو صناعة أو تجارة أو خدمات ! 
ولن  يتأتى ذلك من خلال إدارات للمحافظات والمديريات والأحياء ورؤساء جامعات ومراكز كلها تتم إما "كمكافأة نهاية الخدمة " أو "لولاء شخصى" أو " لكوسة مصرية خالصة للمسئول الأكبر " !
إن اللامركزية هى نهج حياة ولقد سعت الحكومة فى فترات سابقة من خلال توجيهات عليا بتجربة اللامركزية فى بعض المحافظات وتم ذلك جزئياَ فى محافظتى الإسكندرية والمنيا على ما أعتقد ! فى تجربة سابقة فى عصر الرئيس الأسبق "مبارك".
ورغم عدم أكتمال عناصر اللامركزية فى الإدارة فى هذه التجربة حينها إلا أن نتائجها كانت مبشرة جداَ !!
رغم أن المحافظين فى تلك المحافظتين لم يختاروا بنظام ومعايير إدارية معترف بها عالمياَ !! 
إلا أن الحظ فى أنهم كانوا يمتلكون موهبة الإدارة " بالصدفة " !! 
ومع ذلك لم يكتمل لديهم عناصر اللامركزية بل كانت شبة معزوفة ناقصة لمعدات وألات الأوركسترا المطلوبة ! 
ومع ذلك كانت تجربة ناجحة بنسبة محدودة !! 
والمطلوب فى قانون المحليات الجديد أن نؤكد على اللامركزية فى الإدارة  لجميع أرجاء الوطن ! 
مطلوب تقسيم الوطن إلى مناطق تعتمد على ثرواتها البشرية والتحتية ( الجيولوجية ) والإقتصادية والخدمية ! 
مطلوب مديرين للأقاليم يمتلكون أدوات الإدارة الحديثة لكى يستطيعوا المساهمة فى التنمية الشاملة للدولة.. ونحن لن نخترع العجلة فهى قد أخترعت فى كل دول العالم القائم أما النائمين فلهم ربنا " والله أعلم " !! وللحديث بقية غدًا.
[email protected]

مقالات مشابهة

  • الباحثين عن عمل والمُسرَّحين.. أزمة لا يُمكن تجاهل جذورها
  • مقترن بكوكب المشتري.. هلال ذي الحجة يزين سماء الوطن العربي الليلة
  • «فلكية جدة»: هلال ذي الحجة يُزيّن سماء الوطن العربي مساء اليوم
  • فلكية جدة: هلال ذي الحجة يُزيّن سماء الوطن العربي مساء اليوم
  • د.حماد عبدالله يكتب: توجيهات "للقانون الغائب"
  • الاستقلال؛ كيف يكون مكتملاً بعد 79 عاماً..؟؟
  • "ملكة جمال الكون "لـ تامر حسني والشامي تتصدر توب أنغامي في الوطن العربي
  • الدين والوطن
  • خيانة في حظيرة الوطن!
  • المنشاوي يؤكد على دور جامعة أسيوط في التثقيف الوطني لدى الطلاب