30 عامًا على أوسلو.. ما الثمن الذي دفعه الفلسطينيون وكيف استفادت "إسرائيل"؟
تاريخ النشر: 13th, September 2023 GMT
غزة - صفا
رغم مضي 30 عامًا على توقيعها ما يزال الفلسطينيون يدفعون أثمان اتفاقية أوسلو ويتجرعون مرارة نتائجه، بينما تواصل "إسرائيل" حصد مكاسبها على أكثر من صعيد.
ففي تاريخ 13 سبتمبر/أيلول 1993، وقّع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين اتفاق تشكيل "سلطة حكم ذاتي فلسطيني انتقالي" والمعروف بـ "اتفاق أوسلو"، والذي مهد لمرحلة جديدة من تاريخ القضية الفلسطينية.
وأملت منظمة التحرير التي تقودها حركة "فتح" أن يؤدي هذا الاتفاق للتوصل إلى حل سلمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن ما حدث خلال المفاوضات التي لحقت توقيع الاتفاقيات، أثبت أنها كانت فقط وسيلة تستخدمها "إسرائيل" كذريعة لمواصلة بناء وتوسعة المستوطنات على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967.
كما أملت أن يكون الاتفاق بداية الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية، لكنها لم تقم، وما كان تحت سيطرة السلطة الفلسطينية من أراضٍ بعد الاتفاق، أعادت "إسرائيل" احتلاله بعد أقل من 8 سنوات على توقيع الاتفاق.
"خطايا عظمى"
يرى المستشار أسامة سعد أن من أعظم خطايا اتفاق أوسلو، كان الاعتراف بحق (إسرائيل) في الوجود وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة، وفي المقابل وافقت (إسرائيل) على الاعتراف باعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، تلك الصيغة التي سميت كذباً الاعتراف المتبادل، ووصفها أمين سر منظمة التحرير في ذلك الوقت ياسر عبد ربه بأنها لم تكن صيغة عادلة ولا منصفة.
ويقول سعد في مقال كتبه: "رغم ذلك وافقت منظمة التحرير على تلك الصيغة على الرغم من أنها لم تتضمن الاعتراف بدولة، ولم تتضمن الاعتراف بحدود للفلسطينيين وفقاً لتعبير عبد ربه".
ويضيف "السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا كانت منظمة التحرير حريصة كل هذا الحرص على الاعتراف بالعدو وملكيته للأرض الفلسطينية كلها حتى ذلك الوقت، مقابل فقط أن يعترف العدو بالمنظمة ممثلاً للفلسطينيين رغم أنها منذ عام 1974 عضو مراقب في الجمعية العامة، وفي ذلك العام ألقى ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير خطابه الأول فيها، باعتبار المنظمة ممثلاً للشعب الفلسطيني أمام العالم بأسره".
ويتساءل سعد "أم أن المنظمة كانت تخشى أن تفقد هذه الصفة بحكم الأمر الواقع، حيث كان هناك وفدا مفاوضا من الأراضي المحتلة برئاسة الراحل حيدر عبد الشافي الذي كان يصر على انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 67 بالكامل واعترافها بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة".
ويتابع "يدَّعي بعض المحللين أن لأوسلو بعض الإيجابيات، منها المحافظة على الكيانية الفلسطينية، وتشكيل كيان سياسي فلسطيني يمثل الفلسطينيين أمام العالم، ولكن يُرَدُّ على هذا الطرح بأن منظمة التحرير أُنشئت في عام 64 استجابةً لقرار مؤتمر القمة العربية المنعقد عام 64 في القاهرة".
ويوضح أنه منذ ذلك الوقت والمنظمة تمثل الشعب الفلسطيني رسمياً أمام المحافل الدولية، وتحظى باعتراف العرب والدول الإسلامية وكثير من دول العالم، حتى إن إعلان دولة فلسطين بالجزائر عام 1988 حظي باعتراف عدد من دول العالم أكثر من تلك الدول التي تعترف بـ(إسرائيل) في ذلك الوقت، منها دولتان عظميان هما روسيا والصين".
ويزيد سعد قائلا: "إذن لم يكن ينقص الشعب الفلسطيني كيانا سياسيا يمثله أمام العالم لتتنازل منظمة التحرير عن أصل الحق الفلسطيني بأرض فلسطين لتنال اعترافًا إسرائيلياً بها ممثلةً للفلسطينيين، وكأن اعتراف كل الدول العربية والإسلامية والأجنبية التي اعترفت بفلسطين، لم يكن كافياً أو مهماً لدى المنظمة لتسعى أن تعترف بها (إسرائيل) وتقوم في سبيل ذلك بالتنازل الأهم للاحتلال بالاعتراف به".
ويردف أنه "بذلك فتح الباب على مصراعيه لاعتراف دول العالم التي كانت تتضامن مع الشعب الفلسطيني وتحجم عن الاعتراف بـ(إسرائيل) احتراماً لهذا التضامن وبذلك حققت (إسرائيل) مكاسب سياسية واقتصادية عظمى لم يكن لها أن تحققها لولا الاعتراف الفلسطيني بها، بل وإقدام عدد من الدول العربية على الاعتراف بـ(إسرائيل) وتطبيع العلاقات معها استناداً للاعتراف الفلسطيني الرسمي بها".
ويستطرد سعد "اليوم وبعد مرور ثلاثين عاماً على اتفاق أوسلو، لم تعد الحكومة الإسرائيلية الحالية تنكر حل الدولتين فقط، بل تدعو لاجتثاث فكرة الدولة الفلسطينية من جذورها، كما قال نتنياهو تلك الفكرة التي قامت عليها أوسلو، كما يدعي منظروها بزعم أن المفاوضات كانت على أساس القرارين الدوليين 242 و383، رغم أن هذين القرارين لم يشيرا من قريب أو بعيد لإقامة دولة فلسطينية، وإنما كانا يدعوان (إسرائيل) إلى الانسحاب من "الأراضي العربية" بالنص العربي و"أراضٍ عربية" بالنص الإنجليزي التي احتلتها عام 1967".
وينوه إلى أن القرارين الدوليين لم يتحدثا عن أرض فلسطينية، وإنما عن أرض عربية، والفرق بينهما كبير وكبير جداً، وبالتالي لم تكلف (إسرائيل) نفسها عناء التوصل إلى إقامة هذه الدولة".
"أوهام وأراجيف"
بينما يقول الكاتب ماجد الزبدة: "ثلاثون سنة من المرارة والمعاناة بدأت فعليًّا في التاسع من سبتمبر من عام 1993م، بتوجيه الراحل عرفات آنذاك خطابًا رسميًّا إلى رئيس وزراء الاحتلال المجحوم إسحاق رابين، ألزم فيها الفلسطينيين بالحل السلمي للصراع، ووافق على ترحيل جميع القضايا والحقوق التي تمثل جوهر القضية الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات اللانهائية، وأدان فيها الإرهاب وجميع أعمال العنف في إشارة مسيئة للكفاح المسلح الذي مارسه الفلسطينيون طيلة عقود مضت".
ويشير الزبدة في مقال إلى أن "عرفات تعهد بإلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تُنكر حق الاحتلال في الوجود فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، وإلزام الفلسطينيين بتلك التعهدات المهينة، مقابل مخاطبة تلقاها لاحقًا من رابين أقرّ فيها بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني".
ويوضح أن "من عايش مرحلة توقيع اتفاقية أوسلو من الفلسطينيين، يدرك جيدًا حجم الأوهام والأراجيف التي تم بثُّها بين الفلسطينيين آنذاك، إذ تم تصوير تلك الاتفاقية المهينة إعلاميًّا بأنها بداية تحرير الأرض الفلسطينية، وعودة اللاجئين، وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، ومن أجل تحقيق تلك الأهداف الفلسطينية الكبرى".
ويضيف الزبدة "اليوم أدرك الجميع حالة الغُبن السياسي التي عاشتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إبّان توقيع اتفاقية أوسلو، وكيف نجح الاحتلال من خلال تلك الاتفاقية الدولية في تقييد الفلسطينيين، وغرس بذور الفرقة السياسية والانقسام المجتمعي فيما بينهم، وكيف استطاع من خلال تلك الاتفاقية تحقيق مكاسب سياسية جمّة، ما زال يجني ثمارها على الصعيدين الإقليمي والدولي، في ظل استمرار احتلاله العسكري للأرض الفلسطينية".
ويردف "من ينظر إلى النتائج الكارثية التي حصدها الفلسطينيون من توقيع اتفاقية أوسلو يرى العجب العجاب، فتشتت الفلسطينيون سياسيًّا وجغرافيًّا، ما بين فلسطيني في الضفة يعاني سطوة الاحتلال، واعتداءات المستوطنين، وآخر في غزة يعاني الحصار العسكري والاقتصادي، وثالث في الداخل المحتل يصارع من أجل عروبته وهويته الفلسطينية، ورابع يناشد الدعم للدفاع عن القدس والأقصى، وخامس يعيش خارج فلسطين، ينتظر ساعة العودة إليها، ليغادر حياة البؤس في مخيمات اللجوء التي تفتقد لأدنى مقومات الحياة.
أما على الصعيد السياسي فقد فتحت اتفاقية أوسلو الباب على مصراعيه أمام التطبيع العربي مع الاحتلال، فوجد الاحتلال فرصة ذهبية لتسويق نفسه أمام الدول والشعوب العربية، حسب الزبدة.
ويلفت إلى أن الاتفاقية غيبت حقوق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة حين تنازلت قيادة منظمة التحرير عن 78% من الأرض الفلسطينية، وأتاحت الحماية للمستوطنين لمواصلة اعتداءاتهم على ما تبقى من أراضٍ فلسطينية محتلة، ونكصت عن مواجهة حكومات الاحتلال المتعاقبة في تهويد القدس والمقدسات، ومصادرة الأراضي والعقارات الفلسطيني.
واقتصاديًّا بات الاقتصاد الفلسطيني تابعًا للاحتلال، إذ كبلت الاتفاقية قيادة منظمة التحرير الشعب الفلسطيني بتوقيعها اتفاقية باريس سنة 1994، وارتضت للاحتلال أن يتحكم في الاقتصاد الفلسطيني، ويقرر متى شاء وكيفما شاء السياسات الاقتصادية التي عززت من هيمنته على الاقتصاد الفلسطيني، ما أتاح له المزيد من القدرة على ابتزاز الفلسطينيين، وسرقة أموالهم لصالح الاستيطان والمستوطنين، كما قال الكاتب.
"كوارث عديدة"
ويقول أستاذ الإعلام في الجامعة الإسلامية حسن أبو حشيش إن 30 عاما على أوسلو نتج عنها كوارث عديدة منها أنها خلقت ظاهرة الانقسام بين صفوف الشعب الفلسطيني في الأرض، والفكر، والبرامج بعد أن كان موحدًا بكل أفكاره وتلاوينه السياسية حول المقاومة والتحرير.
ويقول أبو حشيش في مقال إن أوسلو جرّمت الفعل المقاوم وعملت على إنهائه وملاحقة التيارات التي تتبنى الفكر المقاوم وأصبحت البندقية مُجرّمة، فضلا عن بيع الأرض وتضخّم أعداد المستوطنين والمستوطنات في مدن الضفة الغربية.
ويشير إلى أن الاتفاقيات تناست القدس والأقصى والقيامة وتُركت فريسة لأطماع الفكر الصهيوني والتلموديّ وتتعاظم هذه الإجراءات الإرهابية يوميًا.
ويضيف أبو حشيش "همّشت الاتفاقيات مئات الأسرى من ذوي الأحكام العالية حيث يعاني آلاف الأسرى في سجون الاحتلال يوميًا في حياتهم اليومية الأساسية".
ويردف أن أوسلو قيدت أيضًا الاقتصاد الفلسطيني في الضفة وغزة بالاحتلال وبات رهينة منصوص عليها في الاتفاقيات.
ويلفت أبو حشيش إلى أن ظاهرة التنسيق الأمني تعمقت وأصبحت جزءًا من العقيدة الأمنية لدى الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، وانتشرت ظاهرة الاعتقال السياسي بعيدًا عن القانون والحقوق.
ويتابع "الاتفاقيات عملت على ترسيخ الاعتراف بالاحتلال دون مقابل وأصبحت قضايا اللاجئين خارج إطار الاتفاقيات التي أنهت بدورها منظمة التحرير الفلسطينية كإطار جامع لكل الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده".
المصدر: وكالة الصحافة الفلسطينية
كلمات دلالية: اتفاقية أوسلو أوسلو منظمة التحرير الفلسطينية إسرائيل الاقتصاد الفلسطینی الشعب الفلسطینی منظمة التحریر اتفاقیة أوسلو الفلسطینی ا ذلک الوقت أبو حشیش إلى أن
إقرأ أيضاً:
خفايا مذبحة الموصل وكيف فشل انقلاب عبد الوهاب الشواف؟
شهد العراق منذ إعلان الملكية عام 1920 حتى انقلاب أحمد حسن البكر وصدام حسين عام 1968 سلسلة من الانقلابات العسكرية، وكان من أبرزها المحاولة التي قادها العقيد عبد الوهاب الشواف قائد لواء الموصل في مارس/آذار عام 1959.
وجاء تحرك الشواف بعد أقل من عام من الانقلاب على الملكية في العراق والقضاء عليها في مذبحة مروعة راح ضحيتها الملك فيصل الثاني وعدد من أفراد أسرته على رأسهم عبد الإله الوصي.
وقد اتسمت تلك الفترة بالصراع الأيديولوجي والسياسي الحاد، وتصاعد التوتر بين التيارات القومية والشيوعية داخل البلاد، حيث أراد كل منهم الظفر بحكم العراق بكل وسيلة ممكنة.
فمن الشواف؟ ولماذا قرر الانقلاب العسكري؟ وكيف انتهت محاولته؟
وُلد عبد الوهاب الشواف في العاصمة العراقية بغداد عام 1916، وتلقى تعليمه الأولي في مدارسها، قبل أن يتجه نحو الحياة العسكرية بالتحاقه بالكلية العسكرية، وفيها تخرج ضابطا برتبة ملازم، ثم التحق بكلية الأركان العراقية وفيها صقل مهاراته القيادية والإستراتيجية.
في عام 1953 أصبح الشواف جزءا من تنظيم "الضباط الأحرار" العراقيين، بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف ومحمد نجيب الربيعي، وهو التشكيل الذي استلهم أهدافه وأساليبه من تجربة الضباط المصريين الذين أطاحوا النظام الملكي في مصر عام 1952، وكان ذلك إيذانا بمرحلة جديدة من الحراك السياسي داخل الجيش العراقي.
وفي عام 1958، نجح الضباط الأحرار في العراق في تنفيذ انقلاب أطاح النظام الملكي في مجزرة دموية بقصر الرحاب، ومن ثم إعلان قيام الجمهورية.
وبعد نجاح الانقلاب نال قادة الحركة مناصب بارزة ضمن هيكل السلطة الجديدة، وكان من بينها تعيين عبد الوهاب الشواف قائدا لحامية مدينة الموصل، وهي ذات موقع إستراتيجي مهم في شمال غربي البلاد.
إعلانوفي سياق تحليله للتطورات السياسية التي عصفت بالعراق خلال خمسينيات القرن العشرين، تناول الباحث سعد ناجي جواد في دراسته "حركة عبد الوهاب الشواف وأثرها على مستقبل القوميين في العراق" الدوافع الداخلية التي عصفت بتنظيم "الضباط الأحرار" بعد نجاحه في إسقاط النظام الملكي، وتشتت أفكار ضباطه وتطلعاتهم.
يشير جواد إلى أن التنظيم كان في البداية متحد الهدف، ثم ما لبث أن انقسم بعد تسلمه السلطة إلى جناحين مختلفين في الرؤية والاتجاه السياسي، وكان أحد هذين التيارين ذا نزعة قومية واضحة، إذ رفع شعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تضم مصر وسوريا آنذاك.
وقد برز عبد السلام عارف كأحد أهم ممثلي هذا المعسكر، مدعوما بعدد من الضباط ذوي التوجه القومي، إضافة إلى حزبي "الاستقلال" و"البعث" اللذين تبنيا بدورهما فكرة الوحدة العربية خيارا سياسيا مركزيا.
وكان عبد الوهاب الشواف أحد أقطاب هذا التوجه مع عبد السلام عارف، بينما كان قائد التيار الثاني عبد الكريم قاسم قائد الدولة الفعلي وقتئذ رافضا لهذا التوجه، ومتحالفا مع الحزب الشيوعي العراقي الذي كان يملك قاعدة جماهيرية واسعة، ونفوذا نقابيا مؤثرا، وعددًا كبيرا من المثقفين والمناصرين في المدن.
كما لم يكن لقاسم كتلة ضباط موحدة مضمونة الولاء، لذلك، استخدم الشيوعيين كقوة موازنة سياسية في الشارع وفي مؤسسات الدولة، لمواجهة الطموحات الانقلابية للقوميين والبعثيين.
ولهذا السبب أصر القوميون والبعثيون في الجيش العراقي على التنسيق مع نظرائهم في مصر وسوريا. وعقب اللقاء الذي جمع الضباط العراقيين الموالين لعبد الوهاب الشواف بنظرائهم في سوريا ومصر، بدأ التنسيق الفعلي للإعداد لانقلاب عسكري يطيح حكم عبد الكريم قاسم.
إعلانوقد وجد هذا المسعى صدى وترحيبا لدى القيادات القومية في دمشق والقاهرة، لا سيما أن الوحدة المصرية السورية آنذاك كانت تنظر بعين الريبة إلى تمدد النفوذ الشيوعي في العراق الذي كان يسمح به عبد الكريم قاسم.
وبحسب عدد من المصادر، من بينها ما أورده اللواء العراقي المتقاعد حازم حسن العلي، فقد تم التفاهم بين الجانبين على تقديم دعم مباشر للحركة الانقلابية، واستجابة لهذا الاتفاق قامت القاهرة بإرسال إذاعة متنقلة يمكن من خلالها بث البيانات الانقلابية وتوجيه نداءات التعبئة، إلى جانب شحنات من الأسلحة والعتاد العسكري الذي خُصص لاستخدامه في المواجهة المرتقبة مع القوات الموالية لعبد الكريم قاسم في الموصل.
كان هذا الدعم اللوجستي خطوة حاسمة في تسريع التحضيرات للانقلاب، إذ منح الثوار شعورا بالغطاء الإقليمي وأضفى على تحركهم بُعدا سياسيا خارج حدود العراق، ليغدو الانقلاب المرتقب جزءا من صراع أوسع بين القومية العربية من جهة والمدّ الشيوعي المتنامي من جهة أخرى.
في كتابه "الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق"، يرصد المؤرخ الفلسطيني حنّا بطاطو التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العراق في أواخر خمسينيات القرن العشرين، مع تركيز خاص على مدينة الموصل التي تحولت إلى بؤرة توتر بين التيارات القومية والشيوعية.
وبحسب رواية بطاطو، كان الحزب الشيوعي يعتزم تنظيم فعالية كبرى في الموصل تحت اسم "حركة أنصار السلام"، ضمن حملة منظمة جابت مدنا عراقية مختلفة للترويج لأفكار تقارب الأممية واليسار الدولي.
وكان العقيد عبد الوهاب الشواف الذي كان يشغل حينها موقع قائد الحامية العسكرية في الموصل قد عبّر عن قلقه من تداعيات هذه الفعالية، واعتبر أن عقد المهرجان في مدينة ذات حساسية طائفية وسياسية قد يؤدي إلى اندلاع مواجهات مفتوحة بين الشيوعيين من جهة، والقوميين والإسلاميين من جهة أخرى.
ولهذا السبب تقدّم الشواف بطلب رسمي إلى بغداد لإلغاء المهرجان أو تأجيله، لكن السلطات المركزية بقيادة عبد الكريم قاسم رفضت ذلك، بل قامت بدعم الفعالية بشكل مباشر، وقدّمت لها كل التسهيلات اللوجستية والإعلامية لتعزيز حضور الشيوعيين في المشهد السياسي.
إعلانوبالفعل انطلقت الفعالية في 5 مارس/آذار 1959، لكنها لم تستمر طويلا، إذ أجبرت الظروف الجوية السيئة منظميها على إنهائها مبكرا، ورغم ذلك كانت كافية لتترك أثرا عميقا في نفوس خصوم الشيوعية، وتشعل فتيل أزمة أمنية وسياسية انتهت لاحقا بمحاولة انقلابية دموية، غيّرت كثيرا من مسارات الصراع داخل العراق.
فبحسب شهادة الضابط محمود الدرة في كتابه "ثورة الموصل القومية" وهو الذي شارك في هذه الأحداث، وأعلن البيان رقم 1 للانقلاب الذي قاده صديقه الشواف، فإن من السلبيات التي أخذها الضباط المنقلبون على عبد الكريم قاسم أنه "كان شعوبيا في نزعته، فرديا في طبعه ذا نزعة إقليمية، أبعدَ عنه خيرة الضباط وأفضلهم، وأحاط نفسه بزمرة لا تمت للثورة بصلة دفعته ليصبح دكتاتورا أوحد".
وقد نقل الدرة قول أحد وزراء عبد الكريم قاسم ممن عملوا معه أكثر من 19 شهرا منذ يوم قيام الثورة حتى فبراير/شباط١٩٦٠ وهو يتحدث في معرض دفاعه أمام محكمة الثورة كمتّهم -بعد مقتل عبد الكريم قاسم- فيقول "إن من أهم الحقائق التي يجب إلقاء الضوء الباهر عليها هو أن بذور الثورة الدكتاتورية القاسمية كانت كامنة في صلب الحكم الثوري الجديد منذ ولادته، فالانفصال التام بين المدنيين والعسكريين في الوزارة أدى الى اقتصار عمل الوزراء المدنيين على القضايا الفنية التي تخص وزاراتهم وحدها، وترك القضايا الكبرى لعمل القيادة العسكرية".
وبحسب رواية اللواء المتقاعد حازم حسن العلي في كتابه "انتفاضة الموصل"، فإن العقيد عبد الوهاب الشواف كثّف نشاطه قبيل مهرجان "أنصار السلام"، وشرع في إجراء اتصالات حثيثة مع ضباط كبار في بغداد وأربيل، في محاولة لوضع اللمسات الأخيرة على خطة انقلابية كانت قيد الإعداد.
إعلانوتم التوافق خلال تلك الاتصالات على أن يشكل المهرجان فرصة مواتية لانطلاق التحرك العسكري، بالنظر إلى حالة الاستقطاب المتزايدة التي شهدتها المدينة آنذاك، مما يسهل تبرير تحركات الجيش وفرض الطوق الأمني في الشوارع.
ومن جانبه، يشير المؤرخ حامد الحمداني في كتابه "ثورة تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها" إلى أن الشواف أطلق شرارة الانقلاب في صباح يوم 7 مارس/آذار 1959، حيث استدعى عددا من مسؤولي التيارات اليسارية والمكونات الديمقراطية إلى مقر قيادته، تحت غطاء عقد اجتماع تشاوري لمناقشة الوضع السياسي المتأزم، غير أن اللقاء تحوّل إلى فخ سياسي، إذ أُوقِف الحاضرون وأودعوا السجن فور وصولهم.
وبعد وقت قصير ومع تصاعد المشاحنات بين القوميين والشيوعيين في شوارع الموصل، نزلت وحدات الجيش إلى الميدان، وأُعلنت حالة الطوارئ وفرض حظر للتجوال، لتبدأ بذلك فعليا أولى مراحل التحرك العسكري الذي خطط له الشواف بهدف إعادة تشكيل الخريطة السياسية في العراق.
وفي صباح يوم 8 مارس/آذار في تمام الساعة السابعة، دوّى في أرجاء الموصل بيان الانقلاب الذي بثّته الإذاعة المحلية، معلنا رسميا انطلاق محاولة إسقاط نظام عبد الكريم قاسم، وجاء في البيان: "إلى الشعب العراقي الأبي.. عندما أعلن جيشكم الباسل ثورته الجبارة.. لم يدر بخلده ولا بخلدكم أن يحل طاغية مجنون محل طاغية مستبد، وتزول طبقة استغلالية جشعة لتحل محلها فئة غوغائية تعبث بالبلاد وبالنظام وبالقانون فسادا، وليُستبدل مسؤولون وطنيون بآخرين يعتنقون مذهبا سياسيا لا يمت لهذه البلاد العربية الإسلامية العراقية بمصلحة".
وقد حرص قادة الانقلاب في اليوم التالي على تعزيز الصدى الشعبي للبيان، فطُبعت آلاف النسخ منه ووزعت على نطاق واسع بين أهالي الموصل والمناطق المجاورة، في محاولة لحشد الدعم الشعبي ضد حكومة بغداد وإضفاء طابع الشرعية على التحرك العسكري.
إعلان مذبحة الموصل ومشهد النهايةولكن خلافا لما كان يطمح إليه عبد الوهاب الشواف ومن معه من الضباط القوميين لم تصل أصداء بيان "ثورة الموصل" إلى العاصمة بغداد، نتيجة ضعف البث الإذاعي المحلي الذي استُخدم لإذاعته، وقد حال هذا الخلل الفني دون تعبئة الوحدات العسكرية في بغداد، والتي كانت من المُفترض أن تتحرك بالتزامن مع انتفاضة الموصل، مما أدى عمليا إلى سقوط خطة الانقلاب في أولى مراحلها.
وبمجرد أن تأكد عبد الكريم قاسم من حقيقة ما يحدث في الموصل، بادر بردّ فعل سريع وحاسم، فأمر بإذاعة بيان رسمي من إذاعة بغداد يعلن فيه عزل الشواف من منصبه كآمر لحامية الموصل، وشنّ حملة اعتقالات واسعة استهدفت الضباط الموالين له في أنحاء العراق، بهدف تطويق الحركة الانقلابية قبل أن تتسع رقعتها.
وفي صباح يوم 9 مارس/آذار 1959، صدرت الأوامر بإرسال عدد من الطائرات الحربية لضرب مقر قيادة الشواف في الموصل، وقد نُفذت الغارة بدقة، وأدت إلى تدمير المقر وإصابة الشواف بجروح خطرة ونقله إلى المستشفى، مما شكّل نقطة التحول الدراماتيكية في الأحداث، وفتح الباب أمام ما بات يُعرف لاحقًا "بمذبحة الموصل".
وفي أعقاب إخفاق المحاولة الانقلابية التي قادها العقيد الشواف أصبح الطريق مفتوحا أمام القوات الموالية للقائد عبد الكريم قاسم، والمدعومة من عناصر الحزب الشيوعي للسيطرة على المواقع الإستراتيجية في الموصل، وسرعان ما تحولت المدينة إلى مسرحٍ لأعمال عنف مروعة استمرت 3 أيام، وصفها بعض المؤرخين بأنها من أبشع فصول القمع السياسي في تاريخ العراق الحديث.
فقد شهدت المدينة، بحسب ما وثقه الضابط المشارك في الانقلاب محمود الدرة، حملةً دموية قادها الضباط الموالون لعبد الكريم قاسم فضلا عن فصائل الشيوعيين في المدينة، حيث استهدفت المعارضين القوميين والوطنيين.
إعلانكما شملت اقتحام المنازل بواسطة المدرعات، وترويع المدنيين من نساء وأطفال وشيوخ، ونهب الممتلكات، وارتكاب جرائم قتل وسحل علني في الشوارع، حيث علّقت جثث الضحايا على أعمدة الإنارة في مشهد يعكس حجم الانتقام والتنكيل، ولم يسلم من هذه الأعمال الوحشية حتى كبار السن والنساء، وهو ما أضفى على الأحداث طابعا صادمًا تجاوز حدود الصراع السياسي التقليدي.
وقد عُرفت هذه الوقائع لاحقًا باسم "مجزرة الموصل" أو "مذبحة الدملماجة"، نسبة إلى منطقة الدملماجة التي كانت إحدى بؤر العنف، وراح ضحيتها عشرات من الضباط والمثقفين والناشطين النقابيين، في لحظة مفصلية ألقت بظلالها الثقيلة على المشهد السياسي والاجتماعي في العراق، وأظهرت التصدعات العميقة في بنية الدولة والمجتمع آنذاك.
وقد أثارت نهاية العقيد عبد الوهاب الشواف، قائد حركة الموصل الانقلابية عام 1959، جدلا بين المؤرخين والباحثين، إذ تتباين الروايات بشأن ملابسات وفاته فبينما يشير المؤرخ العراقي هادي حسن عليوي إلى أن الشواف أقدم على الانتحار بإطلاق النار على نفسه بواسطة مسدسه بعد إصابته بجروح، تؤكد مصادر أخرى أنه أصيب إصابة بالغة نُقل على إثرها لتلقي العلاج، إلا أنه توفي بعد فترة قصيرة متأثرًا بجراحه، بينما يؤكد صديقه المشارك معه في الانقلاب الضابط محمود الدرة أنه قُتل في أثناء علاجه في المستشفى من الموالين لعبد الكريم قاسم.
وفي أعقاب فشل الانقلاب، شنت السلطات العراقية حملة واسعة لمحاكمة المشاركين في الحركة، حيث خضع عدد من الضباط والجنود لمحاكمات عسكرية وجهت إليهم فيها تهم تتعلق بالخيانة العظمى والتآمر على الدولة.
وقد توّجت هذه الإجراءات القضائية بإصدار أحكام بالإعدام في أغسطس/آب من العام ذاته، شملت 6 من أبرز القادة العسكريين المتورطين في المحاولة الانقلابية، من بينهم النقيب الركن نافع داود أحمد، والنقيب محمد أمين عبد القادر، والملازم أول سالم حسين السراج.
إعلانوفي 23 أغسطس/آب من العام نفسه نُفذت أحكام الإعدام بحق المحكوم عليهم، لتُطوى بذلك صفحة من أكثر فصول الصراع السياسي دموية في عراق ما بعد الملكية، وتعلن نهاية ما عرف تاريخيا "بحركة الشواف"، لتبدأ بعد ذلك فصولا من التطورات الدموية في تاريخ العراق.