موقف المثقفين من الحرب: بين التحشيد والترشيد
تاريخ النشر: 18th, September 2023 GMT
قد تعيننا زيارة الحِوارية - حِوارية لاهاي - وإعادة النظر في إشكالية الكتابة عند النخب السودانية على فك شفرة المثقف والتعرف على سيكولوجيته التي تجعله شحيحاً وضنيناً بالتوثيق، هذا لمن لديه أفكاراً أصلاً، وعاجزاً عن خوض المعترك السياسي بمعارف خالية من الغرض ومستوفية لشرط الموضوعية التي تتطلب التجرد والاحترافية التي تزهد في استخدام اللغة الأدبية كوسيلة للتعويض عن الإفلاس الفكري والأخلاقي.
المثقف حسب تعريف زولا هو "حامل المعرفة النقدية المفضية إلى الاستقامة المؤسسة للحق والحقيقة"، هو ذاك "الشخص المستقل بالإبداع الفكري والتعبيري في صوره المختلفة". بيد أننا يجب أن نُقر بأن المثقف ليس "كينونة صمّاء أو نسيج من فضائل محضة"، إذ أن همته تعلو وتنخفض حسب الوقائع التاريخية المحفوفة دوماً بالمخاطر (بولا، ص: 113، 107, 131). لدينا مثقفون كثر كان لديهم مواقفاً ملتبسة من الأنظمة الاستبدادية لكن ذلك لم يُسْقِط عنهم شرط النزاهة الأخلاقية، أمثال الفيتوري، ومحمد عبدالحي وصلاح احمد إبراهيم وحتى الطيب صالح (رحمهم الله جميعاً). لا أفهم كيف لمثقف ديمقراطي تقدمي علماني مثل عبدالله على إبراهيم أن يحاول إرجاع "الغرابة" (إشارة إلى غرب السودان) إلى بيت الطاعة عوض عن أن يكتفي بالتحليل ويبين الإشكال البنيوي في هيكل الدولة السودانية الذي تسبب في كل هذه الإشكالات الواضحة والظلامات الماثلة، الأخطر أن يجعل من موقفه موقفاً وطنياً وليس فقط خطاً سياسياً ملتبساً بالحمولات الثقافية والفكرية الشائهة (راجع كتابات مارتن هايدغر وجورج أورويل للتعرف على علاقة السياسة بالأدب في دركها الأسفل).
أتفهم جيد جداً موقف عشاري فهذا موقف عنصري يتمخض عن كراهيته لأبناء الحزام الرعوي وللرزيقات والمسيرية خاصة (فقد أصابت أستاذنا الجليل عقدة من جراء الهجوم غير المبرر الذي تعرض له إثر نشره وبلدو لكتيب "مذبحة الضعين")، كما أتفهم موقف محمد جلال هاشم باعتباره موقفاً ايديولوجياً نمطياً ينطلق من فرضية أن هؤلاء "المتمردين" هم "عرب شتات"، وهو بذلك إنما يُسْقِط عن الإنقاذ جريرة التجييش لأبناء الحزام الرعوي، إفقارهم واستخدامهم كساعد عضلي كما يعفي الدولة السودانية (متمثلة في كافة مؤسساتها السيادية) من جرائمها التي تعدت فعل التهميش إلى فعل التدمير لمقومات التكامل الايكولوجي ودك مفاعيل الانصهار المجتمعي.
لا يتوقع من الكاتب أن ينجر وراء رغباته الشخصية ونزواته الذاتية، إنما يرجى منه شرح الملابسات وتبيان التقاطعات للعامة كي تتخذ موقفاً مبدئياً يرفض اعتماد العنف وسيلة لتحقيق أهدافاً سياسية. يتطلب من الكاتب ترشيد الأفكار والعواطف في مثل هذه الظروف وليس تحشيد العامة فهذه حرب بين سودانيين، وليس بين سودانيين مستحقين وآخرين مُتَغولين على ساحة الوطنية. أحب أن اؤكد لكل المثقفين السودانيين - خاصة أبناء الوسط النيلي - أنّه لا يمكن - كما لا يحبذ - كسر شوكة العطاوة، لكن يمكن ترشيد عواطفهم كي لا يصطفوا خلف قيادة جاهلة، محتالة وماكرة توظفهم لمصالحها ولا تعبأ بمصيرهم أو تكترث لمستقبل تعايشهم مع الآخرين، وذلك بتبني خط قومي سديد واعتماد فكر تنموي رشيد يقفل الباب على كل المليشيات والاستقطابات ذات الطابع الجهوي والعقائدي.
إني أعتبر أن هذه لحظة من لحظات الإخفاق وإنغلاق الأفق الذي تُعَوّل فيه الانتلجنسيا على عاطفة القطيع. عوضاً عن التفكير في مستقبل البلاد وإمكانية نهضتها على أسس حديثة، تُعَوّل النخبة من الناحيتين (المؤيدين للجيش وأولئك المؤيدين للدعم السريع) على الدفع بالقطيع نحو حظيرة التعصب، الذي لن تجنى البلاد منه غير الخراب والدمار. هذا إن دل إنما يدل على أن حركتنا الثقافية والسياسية لم تبلغ بعد طور النضج الذي يمكن أن تحدث معه قطائع في طرائق تطورها وسبل نهضتها.
أوافق حيدر إبراهيم في مقالته التي تولدت عنها "حِوارية لاهاي" أنّه لم يكن لدينا يوماً نظريات كبرى (حِوارية لاهاي/مرافعة في حق المثقفين السودانيين بقلم عبدالله بولا، إعداد وتحرير نجاة محمد علي، مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، 2023)؛ كانت لدينا فقط مجرد هرطقات تأتي من ذات اليمين تارة وتأتي من ذات اليسار تارة أخرى، وصلت بنا إلى طرق مسدودة في جميع المستويات. لكننا لم نطور بعد نظرية معرفية نستطيع أن نحدث بها قفزة نوعية نتحرر بها منهجياً ومؤسسياً من الاستبداد. صحيح أن هناك هتافات، لكنه لا يوجد تراكم فكري واحتشاد معرفي يمكن أن نتبين به سمات العصر والمستقبل. فالذين يهتفون في الندوات "حرية .. سلام .. وعدالة، والثورة خيار الشعب" لا يعرضون تصوراً لتوطين هذه المفاهيم الثورية في تربتنا، إخصابها وتوسيع دلالات تأثيرها وفاعليتها قدر ما يطرحون إشكالية النهوض الثقافي في بلدٍ يعاني نصف سكانه من أمية أبجدية، كما يعاني النصف الآخر من أمية حضارية تجعلهم في مصاف الأغبياء الذي يتوجون غبائهم بشهادات ماجستير ودكتوراة، هم في عرف اليوم عبارة عن (Accredited Fools).
هل يجوز أن نتصور أن المثقف السوداني هو ذاك الثمر الأعجف كما يقول عبدالله بولا أو أن نَصِف الحركة الثقافية السودانية بالعُقم، أم أن هذا مجرد مخاض مٌرٍ وعسير تمر به البلاد التي توشك أن تنجب أفذاذاً مثل محمود محمد طه، الذي يعتبره عبدالله بولا صنواً لغاندي وليس شبيهاً له أو التجاني الماحي الذي لا يقل عن نهرو علماً وقدرة على تأسيس العلمانية والأخلاق الوطنية، أو عبدالخالق الذي يَرْجَح فكره بنكروما في توطين فكرة الاشتراكية (بولا، ص:91). إن هنالك علاقة بين المعرفة والوعي والبنى الاجتماعية التاريخية التي يتشكلان فيها، وإذ إن بنيتنا الاجتماعية والعقائدية هي بنية وثنية فإنها ما فتئت تقدس "الكبار" حتى جعلت منهم إلهة لا يمكن أن يجرؤ أحدٌ على نقدهم، دعك عن تخطيهم إلى ما هو أفضل. لقد تخطت البشرية الأداء الموسيقي لموزارت لكنّها أقرت بعبقريته التي لولاها ما تخطى البشر حاجز 113 إلى 550 concussions. كان لزاماً علينا أن نفرق بين النقد والانتقاد وأن نتجاوز إرث الأولين إلى مخاض الحاضرين. هذا جهدٌ مطلوب من كافة المجموعات السياسية، الدينية والفكرية.
خرج البرهان من مخبئه مزهواً بفعل الخطابات الشعبوية أعلاها التي تجعله يتصور أنّه قد بات منتصراً، وهو في الواقع قد أصبح منهزماً حتى لو قضى على كل قوات الدعم السريع فقد بات شعبه منقسماً وسلطته متنازعة وعاصمته مستباحة، وكلما استمر في الحكم كلما أصبح عبئاً على الدولة والشعب. توقعت من السيد الفريق مجرد ما تنفس الصعداء أن يختار قيادة عسكرية جديدة تخضع لإرادة مدنية وازنة بين الحزام الرعوي والوسط النيلي ومحترمة لكل مقومات ومقدرات الشعب السوداني وأن يحدد موعداً لتنحيه في مدة لا تتجاوز الستة أشهر. لكنه آثر التمادي في موقفه الملتبس بين التسوية والحسم دون أن يدرك أن المجتمعين -الإقليمي والدولي - قد نفد صبرهما وأنه لم يعد بإمكانه الاستمرار في المخاتلة والخداع خاصة بعد أن آل الملف في الولايات الامريكية للمخابرات المركزية إذ لبث فترة في أيدي دبلوماسيين مغرضين في الخارجية الأمريكية (لقد نوّه الصحفي المخضرم محمد محمد خير إلى دينامية هذا الانتقال وآثاره المتوقعة في إحدى تسجيلاته الصوتية الجاذبة). ما زال لدى سيادة الفريق فرصة لاتخاذ القرار المناسب لعقد التسوية، تكوين حكومة وطنية والانسحاب من المشهد بالكلية، فمن كان سبباً في المأساة لا يمكن أن يكون سبباً في النجاة!
ختاماً، تتنازع المبدع (في هذه الحالة المثقف) رغائب تعبيرية عديدة مثل النثر والشعر والفنون التشكيلية والتمثيل وقد يكون مسائلاً حال الجرح والتعديل، النقد والتحليل، لا سيما أن من واجبه (أو واجبها) تبيان الحقائق فقط، إذ لا يليق بالمثقف (أو المفكر) أن يحاول تجيير مشاعر الجمهور ودفعه للاصطفاف خلف موقفه الشخصي فتلك تعتبر وسيلة من وسائل الشعبوية التي تخون ضمير الكاتب قبل أن تُضل قطيعه الذي يتصوره من القراء، خاصة إذا كان مولعاً بوسائل التواصل الاجتماعي مثل كتابنا الكبار السالف ذكرهم. لا توجد كارثة كما تقول لودميلا بافلتشنكو في كتابها الرائع "سيدة الموت/مذكرات قنّاصة ستالين" (دار الساقي، 2020) يمكن أن تتبين بها خصائص الرجال والنساء مثل الحرب، فهي تفضح سرائرهم وتمحص أفكارهم وتجعلهم في مصاف العظماء الذي يضيئون الطريق للعامة، أو تنحدر بهم إلى خانة البلهاء فيهتفون كما تهتف الغوغاء فيَضِلون ويُضِلون.
auwaab@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: یمکن أن لا یمکن الذی ی
إقرأ أيضاً:
هل يمكن فصل العامل إذا تغيب عن العمل بدون إذن؟.. القانون يوضح
كتب- محمد أبو بكر:
يهتم عدد كبير من المواطنين والعاملين بالقطاع والخاص، بمعرفة مدى قانونية فصل العامل حال تغيبه عن العمل دون إذن، وما إذا كان يحق لصاحب العمل اتخاذ إجراءات قانونية في هذه الحالة.
وفي هذا الصدد، نصت المادة 128 من قانون العمل الجديد على أن للعامل الحق في الانقطاع عن العمل لسبب عارض لمدة لا تتجاوز سبعة أيام خلال السنة الواحدة، وبحد أقصى يومين في المرة الواحدة، على أن تُحسب تلك الإجازة العارضة من رصيد الإجازات السنوية المقررة للعامل.
وتأتي هذه المادة ضمن حزمة من التشريعات التي تهدف إلى تنظيم العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وضمان التوازن بين الحقوق والواجبات بما يحقق بيئة عمل مستقرة ومنتجة.
اقرأ أيضًا:
الرئيس السيسي يقبل رأس الدكتور أحمد عمر هاشم خلال صلاة عيد الأضحى -(فيديو)
وزير الصحة يعقد اجتماعًا مع نظيره السعودي للاطمئنان على الحجاج المصريين
أجواء حارة ورياح.. الأرصاد تعلن تفاصيل طقس أسبوع عيد الأضحى المبارك
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
قانون العمل الجديد تغيب عن العمل بدون إذنتابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الأخبار المتعلقةإعلان
إعلان
هل يمكن فصل العامل إذا تغيب عن العمل بدون إذن؟.. القانون يوضح
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
27 14 الرطوبة: 17% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك