لو أَمعَنتَ النظَّرَ في الصُوَرِ المُرسَلة من الأقمارِ الصناعية عن مُنَاخِ إفريقيا، سيغَشَّاك غَمُّ وحُزْنٌ عميق. صُوَرٌ فيها ستَرَى مالا يمكن رؤيته من الأرضِ، وما لا تَوَدّ أن تراه من مَناظِرِ التَصحُّرِ الذي أَقْحَلَ سُّهُوب السافنا الشَّاسِعَة البَهِيجَة، فإِصفَرَّت صُفْرةُ الموت، وتَمَدَّدَت من شَرقِ أثيوبيا إلى غربِ موريتانيا، ثم اِلتَحَمتَ بالصحراءِ الكُبرى في الشمالِ وسارت تحتها من البحر الاحمر حتى المحيط الاطلسي.
حول خَصَرَها الأهْيَف، فوق وتحت خط الاستواء. المتشائمون يقولون إنها خُضْرةٌ مُؤَقَّتَة مَحَتُومة بِالزوالِ، والمتفائلون يَغرِسون الأشجار لتصير غابات ومتاريس تَصُدّ التَصحُّر الغَاشِم القادم من الشمالِ.
أقاليم إفريقيا الطبيعية، تَدَهْوَرَ حالُها عبر قُرُون من الزمان. يرى العلماء أنها طوارئ كَوْنِيَّة تَسببتَ في خَلَلِ اِنْتِظامِ المُناخ. وشاركها البشر بأخطاءِ فَادحةِ، خَلخَلت قَوام الطبيعة ومافيها من سُبل كسب العيش في الأوطان، فأَجْدَبَتِ الأرض وهاجر السكان. لو كان الاِستعمار ودولة مابعد الإستعمار، وراء هذه المصائب، فعليهما اللَّعنة، لو كانت اللَعَنات ستُنقِذ إفريقيا من حِقبة الفَاقَة والتصحر وبؤس المصير. مصير ترى فيه الشيوخ والنساء والاطفال يصنعون معجزة الحياة ضد الموت البطئ في الأرضِ اليَبَابِ. والشباب يجاذفون بعبور الصحراء من أجل ركوب البحر في زَوَارِقِ الهَلاَكِ. في هذه الأيام المُرَوِّعَة، كُلَّ تاريخ البشرية الَمدِيدُ، مَوْضُوع عَلَى المِحَكِِّ الفَاصِلِ، والسُّوَّال المُبَاشِر، هل سيُنجِد العالَم الغَنِّي الفقراء، ام سيتركهم للفَنَاءِ؟
عَوَاصِفُ الجَدَبٌ المُمِيتَة اِجتَاحَت حِزَام السافنا قبل أربعة عقود من الزمان، مِثلُ التي تحدث الآن، وكأنهما تَوأمان مُتماثلان، بَيْنَ مِيلادُهما أربعين عام. لم يَنجُ السودان منها آنذاك، أعلنت ذلك، حكومة سوار الذهب الإنتقالية بعد الإنتفاضة ١٩٨٥م. كَارِثَةُ الْهَوْل والمْجَاعَة تأخر إعلانها لِثلاثِ سنوات!! لأن دولة النميري تعاملت معها كأزمةٍ عابرةٍ، ستمضي بسلام، فتكتَّمتَ عليها مِثْلُ سِّرٌّ عَائِلِي. قِلَّةُ العقل وقصر النظر حال دونهم وإدراك أن مايحدث كارثة بيئية إقليمية، وهو شأن عالمي، يعوز تضافر وإسناد دولي. لكن النميري وعُصبَته كانوا آنذاك، يُرَوِّجُون للسودانِ في سوقِ الإستثمار الدولي بأنه سلة غذاء العرب، فعَزَّ عليهم، بما فيهم من صَلَفٍ وغُرُور وإحتيال، أن يطلبوا الغذاء لأطفال ونساء فَتَكَ بهم الجوع في الصحراء. كان العالم قد عرف تلك الأهوال الفاجعة، فاِتَّحَد اِتِّحاداً لم يحدث من قَبلُ، لإغاثة حزامِ المجاعةِ، من الصومال الى تشاد، بأَساطِيل من طائراتِ الغذاء والدواء وحشود الأطباء الذين كانوا يعملون بِلاَ كَلَلٍ، والناشطون المتطوعون يساعدون في كل مكان، فنانوا العالم الكبار كانوا يجمعون التبرعات ويُغنَّون. أيامٌ تجسَّدت فيها معاني الإنسانية والإخاء العالمي.
كان المزارعون والرعاة في إنتظارِ الخريفِ الذي إنقطع منذ العام ١٩٨٢م حتى عاد سيلاً جارفاً في العام ١٩٨٨. سِّتَّةُ أعوام من القَحْطِ الشديدِ، أجَدَبتَ فيها الأرض وتَشَقَّقَت، ثم تَبِعْتَها سنوات التَّصَدُّع العَميِق في أُسُسِ البِنَاءِ الاجتماعي لمجموعات بشرية، كانت مياه الأمطار هي شرط الوجود في دورة حياتهم، وبعدها تأتي مِلْكِيَّةُ الأرض، للزراعة كانت أو للرعي. المزارعون بعد أن طال إنتظارهم لمطر لم ينزل، نظروا لأرضهم بحسرةِ، وهي رأسمال وجودهم الفعلي والرمزي، ثم تركوها ليَضْرِبُوا في الأرضِ التي لايملكوها. أمّا الماشية، رأسمال الرعاة المُتَنَقِّل، فقد سبقت أسيادها وهَرْوَلت هَائِمة نحو عُشْبَة خضراء او شُّرْبَةُ من ماء. في تلك السنوات العِجاف، كان الصَّبِيُّ محمد حمدان دقلو في مضاربِ عشيرتهِ بجهاتِ تشاد، وخرج مع الظَّاعِنِين من تلك القِفَارِ المُجدِبَة، يَلوُذُون بأطرافِ قبيلتهم في شمال دارفور. من كان يدري آنذاك، أن الصَّبِيِّ الذي جاء للسودان في عامِ الرَّمَادَةِ، بعد أربعة عقود من الزمان، سوف يدخل تاريخ السودان الحديث.
قبل وبعد ترسيم الحدود السياسية، كانت ومازالت القبائل البدوية جائلة في البراري والأودية أينما لاح لها عُشب أخضر أو يابس، وقد تَتَفَرَّق القبيلة لتباعد مواقع الكَلأُ ومصادر المياه. لكن حين تُحَدِّق بها الأخطار، تعود للترابط القديم بجدائل العصبية وروابط الدم. يقول إبن خلدون( وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم، ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد،إذ نُعرةُ كل أحد على نسبه وعصبيته أهم)١، اِستجارت عشيرة الصبي(حميدتي)بأهلها في مَضَارِبِ الرزيقات شمال دارفور، فوَجَدَوُا حَالُهم في ضَنَكٍ مَرِيرٍ. لم يكن لديهم من سبيل سوى النزول جنوباً نحو ديار الفور التي كانت خارج نطاق الجفاف والتصحر. قال حميدتي عن تلك الايام، أن الفور أحسنوا وِفَادَتِهم وكانت عِشرَتُهُم معهم في تَسَاكُنٍ وَوِئَامٍ.
تواصَل التعايش الآمن بين مُلاَّك الارض والوافدين، حتى إنتهى مع الحرب الظَالِمة ضد قبائل الفور، ونُشوب المحرقة في أرجاء دارفور. حرب وجدت من يؤرخ لها، بحيادٍ أو بدونه، وهي ليست مقصدي الآن، في خاطري تجول أسئلة عن سنوات السلام الآمنة التي سبقت تلك الحرب، وعن عشيرة محمد حمدان التي دخلت السودان في عام المَحَلَ ١٩٨٢م، وفي العام ١٩٨٨م عاد الخريف الكثيف وأعاد الإتزان للبيئة والأرض في كل حزام السافنا، فهل رجعتَ عشيرته الى عَرَصَاتها ومَراتِعها في تشاد، وقعد الصَّبيِّ، أمّ اِستَقَرَّت بدارفور وهو بينهم، حتى صار رجلاً يحمل السلاح ويقود العشيرة والعشائر والقبائل عَبر الدول، ويتجاوز ترسيم حدودها المُتَخيَّل الذي لايَعْنيِ شيئاً لهم.
جَدَلُ الفَرْدُ والتاريخ مبحث شائك، لكنه قد يَتَيَسَّر إذا كان هذا الفرد يقود عشيرة منسجمة مع القبيلة الأم، التي هي في تَحالُفٍ مَتِينٍ مع القبائل الأخرى، تحت مَظَلَّة جامعة للقبائل العربية في حزام السافنا الافريقي. القبيلة واقع فاعل في الحياة وليست مفهوماً رمزياً. تملك عناصر تكوين داخلية متماسكة تنظم علاقة الأفراد ببعضهم تحت نظام قيادة هرمي وداخل إطار عصبية النسب القريب والبعيد. (ولعل أوضح مميزات هذه الرابطة العصبية … هي رابطة الفرد والمجموعة. إن الفرد هنا يذوب في العصبة عندما تتعرض لخطر ما. كما أن العصبة نفسها تتقمص الفرد عندما يصاب بأذى أو يلحقه مكروه. وهكذا فالفرد عندما يتعصب لعصبته إنما يتعصب لنفسه باعتبارها هي إياه. وبالمثل فإن العصبة عِندمَا تَهُبُّ لمناصرة أحد أفرادها والتعصب له، إنما تتعصب في الحقيقة لنفسها ، وذلك باعتبار أن هذا الفرد هو هي، إن هذا التضامن المتبادل بين الفرد وعصبته إلى درجة فناء أحدهما في الآخر )٢.
محمد حمدان دقلو، أدركَ باكراً، من تراكم التجارب التي تعلمها من رَمْضَاءِ الصحراءِ، أن قبائلهم تواجه أخطاراً قد تُفضِي بها إلى الزوال، فالصحراء والتصحر سيُفنِّي البادية والإبل ومضارب القبيلة. والقبائل الأفريقية تَتربَّص بهم لِثأرٍّ قديمٍ، ولا يمكن النجاة من هذه الأخطار إِلاَّ بِذِراعِ الدولةِ الطويلِ. فمنذ دولة البشير قبل عشرين عام وحتى دولة البرهان الآن، كان ومازال حميدتي وعَصَبتُه في جَدلٍ ناعمٍ وعنيف مع الدولة، إنسجام معها ونُفُور منها، حتى خُتِمَ المَشهد الغَرائِبي، بِحربٍ مفتوحةٍ ضِدِّ الدولةِ
إِدماجُ الدعم السريع في الجيش، كان القَشَّةُ المَرئِّية، في الحُزْمَةِ المَدسُوسَةِ، التي قَصَمتَ ظَهر الدولة السودانية، وهو تأكيدٌ بِأن عَظمِ هذه القوات وقَوامها هم شبيبة القبائل العربية، من شمال كردفان حتى موريتانيا، قبائلٌ في أرضٍ مُغلَقَةٍ، وتُعَانِي من أَخْطَارِ التَّصَحُّرِ المُهَلِكةِ والصِّرِاع الدَّامِي مع القبائل الإفريقية. حميدتي أثبتَ لهم ولأهلهم أنه القائد التاريخي الذي سيخرج بهم من مَهالِكِ الصحراءِ المُغْلَقَة، إلى رِحابِ النيل العَذْبِ والبحر الواسع. كان الإندماج في الجيش بشرطِ الاساس المدرسي والجنسية السودانية سوف يُقْصِيهُم من الجيشِ ويبعدهم من السودانِ. ولو حدث ذلك سوف يفقد عصبية القبيلة، وهي تُمثِّل جُملة قواعده الإجتماعية السياسية، بقوتها المادية والمعنوية، والتي صار يُحسِن توظيفها مادياً ومعنوياً. والرجل بدهاءِ البادية الذي يستشعر الأخطار البعيدة، يعلم أن ( الْجَاهُ مفيد للمال)٣ والجَاهُ هو السلطة التي إنتقل بها من وحَشَة الفَلوات إلى مُروجِ الذهبِ، والذهبُ هو المَالُ الكَامِنُ في باطنِ الأرضِ، لايأكل ولايشرب، ولايَنْهَبُه لِصُوص المَاشِية. لكنه إستثمار يَعُوز يداً طويلةً، مُهابة وسخيِّة، تَفَتح لهم المَناجِم ودواوين الدولة والمصارِف، والثِغور، الظاهرة والخفيِّة.
١/ مختصر مقدمة ابن خلدون عبدالمحسن العصيمي صفحة ٦٦
٢/ العصبية والدولة،محمد عابد الجابري صفحة ١٦٨
٣/ مقولة لإبن خلدون، العصبية والدولة، محمد عابد الجابري صفحة ١٨٤
osman.amer@icloud.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
رضى الله عنها
يقول الرواة إن الصحابى الجليل ابن عباس، كان أول من استخدم مصطلح «رضى الله عنه» فى إشارته لصحابة النبى (ص) المقربين، كنوع من التكريم والتقدير لهم، استنادا إلى آيات قرآنية، تؤكد رضا الله عن أوائل الصحابة الذين آمنوا بالنبى الكريم وساندوه ونصروه. فيما بعد أجاز الفقهاء اطلاق المصطلح على العباد والصالحين من الأجيال التالية، كصيغة دُعاء ورجاء وطلب برضا الله ورحمته لهم، وهو ما صار مندوبا ومُستحسنا فى الحديث عن أهل الله.
ولا شك في أن الدعاء برضا الله يطول كل شىء، فليس رجاءً أعظم من ذلك، وندبه لمصر الأرض والناس والتاريخ والقيّم والمبادئ والمُثل والفكر والوعى يعنى إقرارا بأنها تستحق خير الخير، لما قدمت وضحت وتحملت ومنحت وصبرت وكافحت.
رضى الله عن مصر. فما مارسته وحققته، قيادة ومؤسسات ومسئولين، وكوادر من عمل علنى، وسرى، جماعى وفردى، دبلوماسى وسياسى، لوقف المذبحة الصهيونية الدامية فى فلسطين يستحق فخرنا ورضانا وتقديرنا.
بحكمة وقوة وصلابة وذكاء وتخطيط واعداد أثبتت مصر ريادتها وفاعليتها فى الملف الفلسطينى، واحتضنت مفاوضات تحمل أهم مكسب للناس وهى الحياة فى أمان، وعدم التفريط فى قضية عادلة.
كان يُمكن لمصر أن تستجب لأطروحات تصفية القضية الفلسطينية، قبولا بالتهجير، أو صمتا على المُعتدين، فى مقابل انتعاش اقتصادى، مساعدات، أو مكاسب ما، لكنها بمبادئها وقيمها وإرثها العظيم من الشرف أبت إلا التمسك بالشرف اللصيق بمصر اسما وتاريخا، وانتصرت للإنسان وللحق.
وإذا كُنا وما زلنا، وكان البعض وما زالوا، مُختلفين مع مؤسسات الحكم فيما يخص أولويات التنمية، وقضايا الحريات، وتفاصيل الاصلاح السياسى، والديمقراطية، إلا أن الجميع يُقدر ويحترم ويُمتن لموقف الدولة العظيم فى تعاملها مع قضية فلسطين، وتصديها لطرح التهجير، ونضالها المُشرف لمنع تصفية الحق الفلسطينى. إنه محل فخر حقيقى، يليق بأم الدنيا وشقيقة العرب الكبرى.
يبدو الأمر مُزعجا لسماسرة الحرب، القتلة المأجورين، تجار البشر والأوطان، وميليشيات النصب على الشعوب باسم الدين. فثمة مَن لا يبيع ولا يساوم، ويصبر على الدعاية السوداء والاتهامات الكاذبة، ويتحمل لوم الهتيفة والحنجوريين من الأشقاء، ويعمل فى هدوء شديد. يُرتب الأوضاع، يضع السيناريوهات، يُناقش الأفكار، يُفصل الخطط، ويُبرز القوة حينا، والحكمة أحيانا أخرى لتأكيد أن مصر ومؤسساتها وأفذاذها حاضرون ونابهون، بل قادرون دوما على صناعة السلام بقوة وإرادة.
يقول لى أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية فى تعليق مُتزامن مع الأحداث: «إن مصر قادرة دوما على صناعة الأمن، بما تمتلكه هذه الأرض من جينات حضارية عظيمة».
ويحكى أنه التقى هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى الداهية لأول مرة فى بداية التسعينيات، فعرف أنه من مصر، فقال له «إن هذا بلد مُختلف يُفرز دائما قادة عظاما، حتى لو اختلفت معهم».
يعجب المارون والغرباء من سحر مصر وروعتها وجاذبيتها، فتكتب ريهام عبد الحكيم أغنية رائعة تقول فيها «فيها حاجة حلوة. حاجة حلوة بينا، حاجة كل مدى تزيد زيادة فيها إنّ. فيها نية صافية. فيها حاجة دافية. حاجة بتخليك تتبت فيها سنة سنة».
وهذه الـ«حاجة» هى رضا الله عن هذه الأرض.
والله أعلم
[email protected]