نوبل للطب 2023.. كيف يمكن للقاحات أن تنقذ العالم يوما ما؟
تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT
خلال النصف الأول من عام 2020، تأكد العلماء من كل أنحاء العالم أن "كوفيد-19" جاء ليبقى ويستشري في كل الكوكب، ساد التشاؤم جميع المنصات العلمية، لكن بحلول شهر يوليو/تموز ظهرت بارقة من الأمل حينما أُعلنت الخطط الأولى لبناء لقاحات خاصة بالمرض، الأهم من ذلك أن بعضا من هذه اللقاحات ظهر في فترة كانت الأقصر في تاريخ العلم كله!
كان أسرع لقاح نعرفه إلى وقتها هو لقاح النكاف الذي طوره عالم الميكروبيولوجيا الأميركي موريس هيلمان في أربع سنوات فقط، وفي المعدل المعتاد تأخذ اللقاحات فترة أطول من ذلك وصولا إلى 15 سنة في بعض الأحيان، أما لقاحات كوفيد-19 الأولى فقد وصلت بعد أقل سنة واحدة فقط، تضمن الأمر بالفعل تسريعا للاختبارات المعملية والاختبارات على الحيوانات ومن ثم البشر.
لكن كان هناك عنصر إضافي لم يعرفه الناس وقتها وهو ما تسبب في حالة جدل وقلق تجاه اللقاح، وهو أن تلك اللقاحات لم تكن تشبه أي لقاح نعرفه، كانت شيئا جديدا، تسبب في حصول كل من كاتالين كاريكو ودرو وايزمان على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب لعام 2023 "لاكتشافاتهم المتعلقة بتعديلات قاعدة النيوكليوتيد التي مكنت من تطوير لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال الفعالة ضد كوفيد-19".
ما الذي يعنيه اللقاح؟حينما يهاجم فيروس ما جسمنا فإن الجهاز المناعي الخاص بنا يتعامل مع هذا الهجوم بآليتين، الأولى هي العمل المباشر على صد هذا الهجوم، والثانية هي نسخ معلومات هذا الغازي القادم من الخارج، وبناء على تلك المعلومات يقوم الجهاز المناعي ببناء خط دفاعي متجهز لأي هجوم مستقبلي من قبل نفس النوع من الفيروسات.
إذا تعرضت لإصابة بفيروس ما لأول مرة، فإن جهازك المناعي يأخذ وقتا ليتكيف مع الوضع الجديد ويتعامل معه، وفي أثناء ذلك تظهر أعراض المرض، مثل الحمى أو السعال أو ارتفاع درجات الحرارة، والتي هي أعراض لهذا الصراع بالداخل، لكن في المرة التالية حينما يدخل الفيروس إلى جسمك يكون الأخير متجهزا له، فيتعامل بسرعة.
يهدف اللقاح إلى خلق هذا النوع من المناعة التكيفية ضد الفيروس دون أن تتعرض لإصابة أولية به، وذلك عن طريق استثارة جهازنا المناعي لنوع محدد من الفيروسات، فيندفع لتجهيز نفسه لإصابة مستقبلية. يتم إنتاج معظم اللقاحات المضادة للفيروسات المتوفرة اليوم باستخدام تقنيات تقليدية تعتمد على فيروسات كاملة موهّنة مثل لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية ولقاح فيروس الحمى الصفراء، أو فيروسات تم تعطيلها تماما (إماتتها) مثل لقاح التهاب الدماغ الذي يحمله القراد ولقاح التهاب الكبد أ، والفكرة ببساطة أن وجود صورة ضعيفة أو مقتولة من الفيروس سيسهل على جسمك مقاومته وبناء المناعة المستقبلية أثناء هجوم الفيروس النشط.
ومع ثورة البيولوجيا الجزيئية قبل عقود ابتكر العلماء تقنيات جديدة مثل لقاحات البروتين المؤتلف كلقاح التهاب الكبد ب ولقاح فيروس الورم الحليمي البشري، وهذه اللقاحات لا تحتوي على فيروس كامل بل البروتين الخاص به والذي يستثير نفس الإستجابة المناعية، ولقاحات الفيروسات الحاملة مثل لقاح فيروس التهاب الفم الحويصلي ضد الإيبولا والذي تمت الموافقة عليه في عام 2019، والذي تبعه قريبا لقاح الإيبولا القائم على الفيروسات الغدية، وفي هذه اللقاحات ينقل الحمض النووي الخاص بالفيروس الذي يصيب بالمرض إلى فيروس خامل، ويتم إدخاله للجسم لاستثارة المناعة.
ما الحمض النووي أصلا؟ولكن كانت هناك مشكلة، حيث تتطلب اللقاحات التقليدية السالف ذكرها مرافق تصنيع قائمة على زراعة الخلايا، الأمر الذي كان دائما مكلفا وبطيئا ومعقدا وغير مرن، ولذلك فقد اهتم الباحثون في مجال اللقاحات منذ ثلاثة عقود بتطوير لقاحات تتحايل على ذلك عن طريق توصيل الحمض النووي الخاص بالفيروس مباشرة إلى خلايا متلقي اللقاح، واستغلال قدرة الجسم على إنتاج البروتينات الخاصة بالفيروس. لكن دعنا هنا نتوقف قليلا لنتعلم درسا قصيرا في البيولوجيا الجزيئية.
تخيل جسمك كفيلم سينما معروض على الشاشة، هذا الفيلم بالأصل يتكون من شريط طويل مشفرٌة عليه المشاهد، هنا يلتقي البطل بحبيبته لأول مرة، وهنا يعترف لها بحبه، وفي موضع ثالث على الشريط تتركه لأحزانه وحيدا. خلايانا البشرية كذلك تحتوي على شريط طويل من الوحدات الكيميائية الممثلة للحمض النووي، كل مجموعة من تلك الوحدات تمثل جينا؛ هنا جين يعبر عن لون شعرك، وهنا جين آخر يعبر عن لون عينيك، وهناك جين يعبر عن طول عظامك، إلخ، وصولا إلى أدق التشكلات الجزيئية والتفاعلات الكيميائية في أجسامنا.
إذا كان الحمض النووي هو شريط السينما، فأنت الفيلم وهو يعرض، وعملية العرض تلك (ظهور السمات) تشبه الترجمة، حيث هناك أدوات داخل خلايانا الحية تقوم بترجمة هذه المعلومات الموجودة على الحمض النووي إلى بروتينات، والبروتينات هي ما يصنع وجهك وقلبك ويديك وعينيك ووصولا إلى العضيات داخل الخلايا وجدرانها وكل شيء فيك. يجري هذا على كل الكائنات الحية، فكل منها يحوي شفيرة تترجم لتصنع الكائن الحي، بما في ذلك فيروسات مثل كورونا، والذي يحتوي على شريط واحد من الحمض النووي الريبي "RNA".
في الثمانينيات من القرن الفائت اقترح الباحثون إمكانية أن تستخدم الأحماض النووية الخاصة بالفيروسات كلقاح، حيث يتم إدخالها إلى الجسم البشري، ثم تدخل إلى الخلايا وتستخدم أدوات الترجمة القابعة فيها لنحصل على بروتينات الفيروس نفسه، وفي حالة كورونا المستجد فنحن نتحدث عما يسمى بـ بروتين الحسكة (Spike Protein)، الذي يُمثِّل البروزات الموجودة على سطح الفيروس وتُعطيه الشكل التاجي، وظيفة هذه البروزات أن ترتبط مع أنواع محددة من المستقبلات على الخلايا البشرية بطريقة تشبه القفل والمفتاح، ثم تسحبه تلك المستقبلات إلى داخل الخلية وهناك يبدأ التكاثر والانتشار في الجسم مسببا المرض.
يعود تاريخ أول إثبات على إمكانية نجاح اللقاحات المعتمدة على الحمض النووي إلى أوائل التسعينيات عندما تم اختبار هذه اللقاحات لأول مرة على الفئران، بعد ذلك عرف العلماء أن الحمض النووي الريبي المرسال "mRNA" هو ضالتهم المنشودة لإحداث ثورة في عالم اللقاحات، والحمض النووي الريبي المرسال هو ببساطة نوع من الحمض النووي، لكن له مسؤوليات محددة.
كان ذلك لعدة أسباب، حيث توقعوا أن اللقاحات المعتمدة على الحمض النووي الريبي المرسال أسهل في التصميم والإنتاج، لأنها لا تتطلب زراعة كميات كبيرة من الفيروس أو استخراج قطعة معينة من الغلاف البروتيني للفيروس، وهذا يقلل أيضا من خطر التلوث ويزيد من سرعة الإنتاج ويخفض تكلفته، أضف لذلك أن هذا النوع من اللقاحات يمكنه تحفيز أنواع متعددة من المناعة في آن واحد، فيحفز إنتاج الأجسام المضادة التي تحيد الفيروس، وينشط أيضا الخلايا التائية التي تدمر الخلايا المصابة.
وبالإضافة إلى ذلك فإنه يمكن تعديل أو تحديث هذا النوع من اللقاحات بسهولة لاستهداف متغيرات أو سلالات جديدة من الفيروس، لأنها تتطلب فقط تغيير تسلسل الحمض النووي الريبي المرسال وهذا سهل نسبيا مقارنة بالأنواع الأخرى من الأحماض النووية، وبالإضافة إلى ذلك فإن الحمض النووي الريبي المرسال لا يتفاعل مع الحمض النووي للخلايا البشرية لأن الأخير يتكون من حمض نووي ريبي منقوص الأكسجين "DNA" ويتواجد في النواة، بينما يبقى الحمض النووي الريبي المرسال فقط في السيتوبلازم خارج النواة، وهذا يلغي إمكانية حدوث طفرات أو تعديل الجينات البشرية.
كاريكو ووايزمانلكن الأمر بالطبع لم يكن بهذه البساطة، فالفكرة دائما ليست ابتكار العامل العلاجي فقط والتأكد من فاعليته، بل بالإضافة إلى ذلك تلزم تنقيته من كل شائبة ممكنة، وضمان توصيله إلى الخلايا بأفضل تركيز ودون تكسير، وتحوله في الخلايا بالطريقة المطلوبة وبإنتاجية محددة مع نسبة هدر يسيرة، وكذلك تكرار نسخه في المختبر بسهولة، ولكل من هذه العناصر تجرى تجارب تستمر لسنوات، وقد تتوقف بسبب مشكلة ما.
وفي حالة لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال، ظهرت مشكلتان أساسيتان كانتا العائق الرئيسي أمام تطوير هذا النوع من اللقاحات للاستخدام البشري، أولهما هي أن هذا الحمض غير مستقر ولا ينتج (يترجم إلى) الكثير من البروتين داخل الخلايا، وثانيهما كانت أنه حينما يدخل للخلايا يتسبب في استثارة عوامل التهابية تضر بالخلايا نفسها.
عند تلك النقطة تدخل كاتالين كاريكو، والتي قامت في منتصف التسعينيات بتجربة أشكال مختلفة من الحمض النووي الريبي بهدف تحسين ترجمة الحمض النووي الريبي المرسال داخل الخلايا البشرية، حصلت كاريكو على درجة الدكتوراه في مركز البحوث البيولوجية في المجر في عام 1982 وبعد رحلة عمل طويلة كانت قد أنشأت مجموعتها الخاصة في قسم جراحة المخ والأعصاب في جامعة بنسلفانيا في عام 1997، توصلت كاريكو إلى أنه يمكن تحسين إنتاج (ترجمة) الحمض النووي الريبي داخل الخلايا عبر إضافة ما يشبه ذيل كيميائي من في أحد جوانب شريط الحمض النووي.
في أواخر التسعينيات، تعاونت كاريكو مع درو وايزمان، وهو طبيب مهتم بعلم المناعة وتطوير اللقاحات انضم إلى جامعة بنسلفانيا في عام 1997. حصل وايزمان على درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة بوسطن في علم المناعة وعلم الأحياء الدقيقة في عام 1987.
الخبرة المجتمعة لكاريكو في كيمياء الحمض النووي واويزمان في علوم المناعة، أوصلتهما عبر تجارب استمرت قرابة عقد من الزمن إلى سر جائزة نوبل في الطب 2023، حيث تمكنا من تعديل الحمض النووي الريبي المرسال بإضافة جزيء كيميائي سمي "سودويوريدين" بدلا من اليوريدين، ما حسن من استقراره ومنع الاستجابة الالتهابية تماما، أعطي هذا الجزيء اسم "ن1-ميثيل سودويوريدين" (N1-methyl pseudouridine) (اختصارا m1ψ)، والآن يعد القاعدة الكيميائية المعدلة الأكثر شيوعا المستخدمة في إنتاج لقاحات الحمض النووي، بما في ذلك لقاحي كوفيد-19 المعتمدين في أواخر عام 2020.
بحلول عام 2010، تم إنشاء ثلاث شركات رئيسية لديها برامج تركز على تكنولوجيا الحمض النووي الريبي المرسال الناشئة: شركة كيورفاك، التي تأسست في عام 2000، وشركة بيونتيك التي تأسست في عام 2008 بهدف تطوير لقاحات خاصة بالسرطان، وشركة موديرنا التي تأسست في عام 2010 وخططت لاستخدام الحمض النووي الريبي المرسال لتوصيل البروتينات العلاجية وإصلاح الأنسجة التالفة. تعاونت الشركات الثلاث بشكل وثيق مع الباحثين الأكاديميين لتحسين التكنولوجيا وتقييم منصاتهم في مجالات الأمراض محل الاهتمام.
في عام 2012، أبلغ فريق بحثي من شركة كيورفاك عن الحصول على استجابات مناعية وقائية ضد عدوى فيروس الأنفلونزا في العديد من النماذج الحيوانية وفي عام 2017، تم اختبار أول لقاح قائم على الحمض النووي المرسال ضد مرض معدٍ وهو داء الكلب، في التجارب السريرية، وفي نفس العام، تم الإبلاغ عن نتائج ما قبل سريرية واعدة للقاحات فيروس زيكا المعتمدة على الحمض النووي الريبوزي، وكذلك أعلنت شركة موديرنا عن بدء تجربة سريرية باستخدام لقاح قائم على الحمض النووي الريبي المرسال ضد فيروس زيكا.
في وقت قريب من تجربة لقاح زيكا، بدأت موديرنا أيضا التعاون مع مركز أبحاث اللقاحات في المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة لتطوير لقاح قائم على الحمض النووي الريبي المرسال ضد فيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS)، والذي اكتُشف لأول مرة في المملكة العربية السعودية في عام 2012، وفي ديسمبر عام 2019 ظهر فيروس كورونا المستجد في الصين وبدأ باجتياح العالم، وهنا كان العلماء متجهزون بالحمض النووي الريبي المرسال، والذي ظهر بعد عام من انتشار المرض وساهم في كبح جماحه حول العالم.
لم نحن بحاجة ماسة إلى هذا النوع من اللقاحات؟تعد اللقاحات المعتمدة على الحمض النووي الريبي المرسال ثورة في علم اللقاحات، حسنت بقوة من إنتاجية وسرعة ودقة وفاعلية اللقاحات بحيث نقلتها إلى عصر جديد تماما سيفتح الباب للوقاية من أمراض لم نتخيل يوما أن الوقاية منها ممكنة، والأهم من ذلك أن العلماء باتوا متجهزين بأدوات أقوى في مواجهة أية قفزة فيروسية قادمة.
والعالم للأسف سيكون على موعد مع المزيد من القفزات الفيروسية مثل "كورونا المستجد"، فالمدن تتوسع والبشرية تقترب يوما بعد يوم من الغابات، وبالتبعية ترتفع احتمالات القفزات الفيروسية من عالم الحيوان. يمكن مثلا أن نتأمل عدد الذين انتقلوا إلى الحياة الحضرية في جنوب شرق آسيا وأفريقيا خلال العقد الأول من القرن الحالي وهم 200 مليون نسمة، نتحدث هنا عن دولتين بحجم مصر، ويعني الانتقال للحياة الحضرية أن تقوم الدولة بإزالة مساحات شاسعة من الغابات، ما يقرب بين البشر والحيوانات التي أجبرها صغر مساحة الغابة على التزاحم قريبا من البشر.
من جهة أخرى فإن هذا الإضطراب الشديد الذي يحل بالبيئة قد يخلق أضرارا وخيمة. على سبيل المثال، كانت دراسة صدرت عن الأكاديمية الوطنية للعلوم قبل عدة سنوات قد أوضحت أن هناك تهديدا ممكنا لصحة المواطنين في عدة مناطق بقارة أفريقيا جراء الأمراض المنقولة من القوارض، حدث ذلك بسبب انتشار القوارض في عدة مناطق حضرية جديدة بسبب أن إزالة الغابات قضت على الحيوانات التي تتغذى على تلك القوارض، ما سمح بتكاثرها بشكل أكبر، وبالتالي ارتفعت فرصة انتقال الأمراض منها للبشر.
أضف لذلك خطر جديد يشير إليه العلماء يوما بعد يوم، حيث هناك ما لا يقل عن عشرة آلاف نوع من الفيروسات لديها القدرة على إصابة البشر، ولكن في الوقت الحاضر فإن الغالبية العظمى منها تنتشر بصمت في الثدييات البرية. ومع ذلك، فإن التغيرات في المناخ ستؤدي إلى بلبلة في في هذه المنظومة بحيث تدفع بعالم الحيوان للتشابك أكثر مع عالم البشر، وفي بعض الحالات سيؤدي هذا إلى تسهيل انتشار الأمراض الحيوانية المنشأ بيننا.
كل هذا ولم نتحدث بعد عن الطبيعة المختلفة للعالم الحديث، والتي تمتلك سمة أساسية وهي سهولة التواصل وبشكل خاص عبر السفر جوا والذي يعد شريان الحياة المعاصرة، وبالتبعية فإن قفزة فيروسية من أحد القطط أو الخفافيش أو غيرها من الحيوانات في الصين أو ألمانيا أو المكسيك مثلا يمكن خلال أسابيع قليلة أن تصل لكل منزل في هذا العالم، بما في ذلك بيتك.
=وبسبب كل ما سبق فقد كان من الضروري جدا أن يمتلك العلماء أدوات أسرع وأدق من المعتاد لتطوير اللقاحات، وهنا تحديدا تظهر أهمية لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال، إلى جانب حملة واسعة من التطوير تجري حاليا في نطاقات بحثية طبية عدة، كان السبب في نشأتها هو الجائحة التي قتلت عشرات الملايين من البشر.
___________________________________________
مصادر
The Nobel Prize in Physiology or Medicine 2023 Press release The Nobel Prize in Physiology or Medicine 2023 Advanced informationالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: لقاحات الحمض النووی هذه اللقاحات داخل الخلایا من الفیروس لأول مرة کوفید 19 فی عام
إقرأ أيضاً:
من نوبل إلى اللايقين: رحلة العَالِم الذي زلزل أساسات فهمنا لبداية الكون ونهايته
مقدمة الترجمة
في مكتبٍ تغزوه أشعة الشمس على استحياء، أخرج آدم ريس دفتر ملاحظاته القديم. صفحة باهتة وخربشات بقلم حبر منذ عقود، كانت الشرارة الأولى لاكتشافه المُذهل الذي قاده إلى نوبل: الكون لا يتمدد فقط، بل يهرول بوتيرة متسارعة. هذا الاكتشاف رسّخ ما عُرف لاحقًا بـ"النموذج القياسي لعلم الكونيات"، النظرية التي رسمت لنا سيناريو بداية الكون ونهايته.
لكن المفارقة العجيبة أن ريس نفسه، وبعد سنوات من تتبع الضوء القادم من انفجارات نجمية بعيدة، عاد اليوم ليهمس في أذن العلم: ربما كنّا مخطئين! وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: ما الذي يحدث حين يبدأ تصدّع صرح علمي كان متماسكا!؟ حين تتعارض البيانات الجديدة مع أكثر النظريات رسوخًا!؟ هذا المقال من مجلة ذا أتلانتك يأخذك في رحلة بين عدسات التلسكوبات، وتصدّعات النموذج الكوني، والتساؤلات التي قد تُعيد كتابة مصير الكون نفسه.
كان آدم ريس في السابعة والعشرين من عمره حين شرع في إجراء الأبحاث التي ستقوده لاحقًا إلى الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء، ولم يكن قد تجاوز الحادية والأربعين عندما تسلّمها. وفي وقتٍ سابق من هذا العام، وبينما هو الآن في أوائل الخمسينيات من عمره، وقف في مكتبه بجامعة جونز هوبكنز، وأخرج من بين رفوف كتبه دفترًا قديمًا على صفحاته رسوم بيانية، ليُريني الورقة التي اصفرّ لونها مع الزمن، والتي خطّ عليها حساباته الشهيرة. روى لي كيف قادته تلك الخطوط الأولى بالقلم إلى صياغة نظرية جديدة عن الكون، ثم أخبرني لماذا أصبح يعتقد اليوم أن تلك النظرية قد تكون خاطئة.
على مدار قرابة قرن من الزمان، أدرك الفلكيون أن الكون يتمدد، إذ تبدو المجرات التي نلمحها عبر التلسكوبات وكأنها تهرع مبتعدة في كل اتجاه. تتبّع ريس حركة هذه المجرات، وقاس بدقة بالغة المسافات التي تفصل كل واحدة منها عن الأرض.
وحينما اكتملت لديه المعطيات كلها عام 1998، فوجئ ريس بنتائج لم يكن يتوقعها، حتى إنه وصفها في رسالة إلكترونية مرتبكة أرسلها قبيل انطلاقه في شهر عسله بأنها كانت "صادمة فعلًا". إذ تكشفت حينها علاقة مدهشة: فكلما كانت المجرة أبعد، زادت وتيرة ابتعادها. وكما قال في محاضرته أثناء تسلّمه جائزة نوبل، فإن هذا الاكتشاف "أوحى إليه فورًا باستنتاج عميق": ثمة قوة خفية تدفع الكون إلى التمدد المتسارع.
صحيح أن عبقرية ريس تتجلى في دقّته البالغة في التقاط ما لا تُبصره العيون العابرة، إلا أن مهمة فهم السر الكامن وراء تسارع تمدد الكون انتقلت إلى عاتق المنظّرين. وقد اقترح هؤلاء وجود طاقة مظلمة، وهي قوة واهنة ونافرة، تملأ كل ركن من أركان الفضاء الخاوي.
إعلانفمثلًا، ما تحويه غرفة نومك من هذه الطاقة لا يكاد يُذكر، لن يهزّ جدارًا أو يحرّك ساكنًا. لكن حين تنتشر عبر اتساع الكون الهائل، تجمع شتاتها، وتغدو قادرة على دفع عناقيد المجرات إلى التباعد اللامتناهي. وكلما اتسعت المسافة بين تلك المجرات، تعاظمت هذه القوة النافرة، وسرّعت خطى التمدد.
ورغم أن التلسكوبات اليوم قادرة على رؤية مئات المليارات من المجرات، فإن الطاقة المظلمة، عبر تريليونات لا تُحصى من السنين، ستكون قد دفعتها كلها إلى خارج مدى الرؤية. وفي النهاية، ستُبدّد هذه الطاقة آخر ذرة من المادة والطاقة، حتى يغدو الكون في حالة برود واتزان تام، لا شيء فيه سوى فراغ هزيل يشبه الحساء المخفف من العدم.
من خلال أبحاثه التي قادت إلى اكتشاف الطاقة المظلمة، ساهم ريس في إكمال ما يُعرف اليوم بـ"النموذج القياسي لعلم الكونيات"، وهو الإطار النظري الذي يسرد كيف وُلد الكون، وكيف انتظمت مادته في مجرّات، وكيف سيمضي نحو نهايته.
قليلون هم من كان لهم أثر عميق في ترسيخ هذا النموذج ليصبح نظرية مهيمنة في علم الكونيات. لكن في السنوات الأخيرة، بدأ علماء الكون، المتخصصون في دراسة البنية الكونية على أوسع مقاييس الزمان والمكان، يشككّون في صحة هذا النموذج، خصوصًا فيما يتعلق بنهايته المتوقعة. فقد بدأ بعضهم يتحدث عن "ثورة علمية" وشيكة، بينما يرى آخرون أن الوقت قد حان لاستبدال النموذج القياسي بنظرية جديدة تُعيد صياغة فهمنا للكون.
كلما بدأت نظرية كبرى عن الكون تترنّح، يميل "حُرّاسها القدامى" إلى التماسك والدفاع عنها، ولهذا يُقال إن العلم يتقدّم "جنازةً بعد أخرى". كان بمقدور آدم ريس أن ينضم إلى هذا الحرس القديم، بل وربما يتزعّمه. فحين عاد من ستوكهولم بجائزة نوبل عام 2011، تغيّرت حياته الأكاديمية.
حكى لي أن الناس من حوله بدؤوا يتصرّفون على نحو غريب، منهم من آثر الصمت فجأة، ومنهم من خاض معه جدالات عابرة لا معنى لها، ربما فقط ليُقال إنهم انتصروا في نقاش على أحد حاملي نوبل. توالت عليه الدعوات، بداية من المحافل العلمية إلى لجان التحكيم، ومن المنصات إلى إلقاء المحاضرات. وشيئًا فشيئًا، وجد نفسه يُستدعى للتعليق على قضايا لا تمتّ إلى اختصاصه بصلة، بل ويُعرض عليه أن يقود مؤسسات علمية عريقة.
تأمّل ريس في ذلك الطريق المعروض أمامه وبدأ يتساءل: هل يصبح قائدًا كبيرًا في مهمة تابعة لناسا، أم يتنقّل بهدوء بين ظلال الأشجار في حرم جامعي هادئ بصفته رئيسًا له!؟ ورغم إدراكه لما في تلك الأدوار من جاذبية وهيبة، لم يكن ميّالًا إلى العمل الإداري، ولا يستسيغ مهام جمع التبرعات. وعلى خلاف العديد من الحائزين على نوبل ممن تقدّم بهم العمر، كان لا يزال يشعر بأن لديه ما يقدّمه للعلم، لا بصفته مسؤولًا إداريًّا يجلس خلف المكاتب، بل باعتباره باحثًا يقف في الخطوط الأمامية، على تماس مباشر مع الطبيعة ومفاهيمها الأساسية.
في السياق ذاته، قال لي: "غالبًا ما يقنع العلماء أنفسهم بأسطورة مفادها: سأتولى هذا المنصب القيادي مؤقتًا، ثم أعود إلى البحث العلمي لاحقًا. لكن الواقع أن من يخوض غمار الإدارة يفقد تدريجيًّا صلته بالبيانات، ويبتعد عن أدوات التحليل الحديثة، ويصبح أقل إلمامًا بلغات البرمجة المتطورة. وفي النهاية، يمضي العلم من دونه".
إعلانولسبر أغوار هذه المسائل الغامضة بدقة أكبر، كانت عقول المنظّرين تطرق أبواب المجهول، باحثة عن بيانات جديدة تكشف لهم كيف يتغير معدَّل تمدد الكون عبر الزمن، وهو ما يتطلب معرفة دقيقة بمواقع المجرات البعيدة عن الأرض. وهنا تحديدًا يأتي دور اختصاص آدم ريس.
انتظر ريس حتى يرصد نوعًا معيّنًا من النجوم ينفجر في مجرة بعيدة، ومن ثَم يلتقط صورًا لحظةً بلحظة لانفجاره. كان يعرف أن هذه "المستعرات العظمى" (السوبرنوفا) تصل دائمًا إلى درجة محددة من السطوع، ومن خلال هذا السطوع، يستطيع أن يقيس المسافة. فكلما بدا الضوء خافتًا، غدت المسافة أبعد.
إن تصوير نجم ينفجر على بُعد عشرات الملايين من السنين الضوئية ليس بالأمر السهل كما قد يبدو من الحديث. فالتقاط صورة لانفجار نجم يبعد عشرات الملايين من السنين الضوئية ينطوي على تفاصيل دقيقة لا حصر لها. يجب أولًا إزالة الضوء الصادر من النجوم الأخرى المحيطة به في نفس المجرة، لأن هذا الضوء قد يؤثر في القياسات. كما أن وهج مجرّة درب التبانة يتسرّب إلى الصور، شأنه شأن ضوء الشمس، ويجب استبعادهما كذلك.
وفي الوقت نفسه، تعمل سحب الغبار الكوني -سواء القريبة من النجم أو الموجودة داخل مجرّتنا- على حجب جزء من ضوئه، مما يؤدي إلى خفوتٍ لا بد من تصحيحه بدقة. ثم تأتي التحديات التقنية: المكوّنات الإلكترونية في التلسكوب تضيف ضوضاء إلى الصورة، فضلًا عن أن مجسّات الكاميرا -التي تحتوي على مئات الآلاف من البيكسلات- ليست متماثلة في حساسيتها، مما يتطلب معايرة دقيقة لكل اختلاف قبل بدء أي عملية رصد.
تباين في النتائجلم يكفّ ريس يومًا عن سعيه لإتقان فن التعامل مع الضوء، ذلك التوازن الحساس بين إضافته للضوء وطرحه بدقة بالغة. وفي أوساط علم الكونيات، لطالما اعتُبرت قياساته من بين الأدق بحسب كولين هيل، عالم الكونيات في جامعة كولومبيا، الذي لا تربطه به أي شراكة بحثية. وفي عام 2011، نجح ريس وفريقه في ابتكار تقنية أكثر تطورًا لقياس المسافات الكونية باستخدام تلسكوب هابل الفضائي، وهي فكرة -كما يروي- خطرت له على نحو غير متوقع عند ما كان يسبح في حوض سباحة.
مع تزايد البيانات الجديدة وتحسّن جودتها، سرعان ما برزت مشكلة. فمع كل مسافة جديدة يقيسها ريس إلى مجرة أخرى، كان يُحدّث حساباته لمعدل التمدد الحالي للكون. لكن المثير للقلق هو أن النتائج التي توصل إليها بدأت تتباين بدرجة ملحوظة مع تلك المستخلصة عبر منهج مختلف تمامًا. فبعض علماء الكونيات لا يعيرون قياس المسافات إلى المجرات اهتمامًا كبيرًا، بل ينظرون بدلًا من ذلك إلى التوهّج اللاحق للانفجار العظيم.
ومن خلال هذه الصورة المبكرة جدًّا للكون، يستطيع العلماء تقدير معدل تمدد الكون في ذلك الوقت، ثم استخدام هذا التقدير لحساب معدل التمدد الحالي، بناءً على افتراضات مأخوذة من النموذج الكوني القياسي. بعبارة أخرى، تعتمد الطريقة الثانية (التي تستند إلى التوهّج اللاحق للانفجار العظيم) على افتراض مسبق بأن النموذج الكوني القياسي صحيح، وتُجرَى كل حساباتها بناءً على هذا الأساس دون التشكيك فيه.
توقَّع ريس أن هذا التباين بين معدلي التمدد الكوني (المعدل الذي يقيسه هو من خلال المجرات البعيدة، والمعدل المستخلص من إشعاع الانفجار العظيم*) سيختفي تدريجيًّا مع تراكم المزيد من الملاحظات والبيانات. لكنّ هذه المفارقة أبت إلا أن تستمر، بل وازدادت عنادًا. فكلما عمّق ريس رصده للمجرات البعيدة، ازداد الفارق بين القيمتين وضوحًا. وقد شكّل هذا التناقض بحد ذاته معضلة حقيقية لعلماء الكونيات، حتى أصبحوا يشعرون بالحيرة والقلق اتجاهه إلى درجة أنهم اضطروا لمنحه اسمًا رسميًّا وهو "توتر هابل".
تساءل ريس عمّا إذا كانت الملاحظات المستقاة من الكون المبكر -التي تُغذي المعادلات المستخدمة في الحسابات الأخرى لمعدل التمدد- قد تنطوي على خطأ ما. لكنه، شأنه شأن بقية العلماء، لم يجد فيها ما يُدان أو يُشكّك في دقتها. بالنسبة له، بدا أن هذا التناقض المعروف باسم "توتر هابل" قد لا يكون نتيجة خطأ في البيانات، بل ربما ناتجًا عن خلل في النظرية نفسها. وكما قال لي: "بدا الأمر وكأن هناك خللًا ما في النموذج الكوني القياسي".
إعلانإذا ما انهار النموذج الكوني القياسي، فإن علم الكونيات بأسره سيشهد انقلابًا جذريًّا، وكذلك الحال بالنسبة لجزء جوهري من السردية الكبرى التي ظللنا نرويها لأنفسنا عن نهاية الكون. ومن الطبيعي، في ظل ما تحمله هذه المسألة من تبِعات ثقيلة تمسّ مستقبل المسيرة المهنية، والهوية العلمية،، بل وجوهر الوجود نفسه، أن يؤدي "توتر هابل" إلى توتر فعلي بين علماء الكونيات أنفسهم.
أخبرني عدد من أبرز علماء الكونيات عن اعتقادهم بأن المشكلة المعروفة بـ"توتر هابل" قد تزول مع مزيد من البيانات، مشيرين إلى أن ريس ربما يستبق الأمور في تفسيره. وقد أجرت ويندي فريدمان، أستاذة الفيزياء في جامعة شيكاغو، قياساتها الخاصة باستخدام نوع مختلف من النجوم المنفجرة، وظهرت في بياناتها أيضًا مؤشرات على وجود التوتر ذاته، وإن كان بدرجة أقل. وقد أوضحت أنه من المبكر الجزم بمصدر المشكلة، هل هي ناتجة عن قياساتها، أم عن خلل في النموذج الكوني القياسي، أم عن سبب آخر لا يزال مجهولًا.
وفي الوقت ذاته، ترى أن الحكم النهائي يتطلب أولًا توفّر قياسات دقيقة لمسافات عدد أكبر من المجرات، إضافة إلى تقارب في نتائج طرق القياس المختلفة. وعلى أقل تقدير، ينبغي أن تتطابق نتائجها مع نتائج ريس. ويتفق معها في هذا الرأي كولن هيل، عالم الكونيات من جامعة كولومبيا.
يقول ديفيد سبيرغل، رئيس مؤسسة سيمونز (وهي مؤسسة علمية غير ربحية*)، وأحد أعمدة علم الكونيات لسنوات طوال، إنه من المبكر جدًّا إعلان نهاية النموذج الكوني القياسي. ويصف ريس بقوله: "لا يمرّ آدم ريس بهدوء في ساحة الجدل العلمي، بل يترك صدى صوته فيها، كما يتجادل بضراوة مع كل من يخالفه الرأي".
يدافع ريس عن قضيته بحماسة بالغة. ورغم محاولات عديدة من علماء آخرين للعثور على أخطاء في قياساته، لم يتمكّن أحد من إثبات وجود خلل، ليس بسبب نقص المحاولة، بل على العكس، جرى التحقق من أرقامه بعناية باستخدام بيانات من تلسكوبي هابل وجيمس ويب الفضائيين. ومع ذلك، لم يتمكّن أحد من العثور على خطأ في قياساته.
ومن جانبه، يعلّق شون كارول، عالم الكونيات والفيلسوف في جامعة جونز هوبكنز (الذي لا ينتمي إلى فريق ريس)، قائلًا إن ريس حقق "عملًا بطوليا" في تقليل الأخطاء المنهجية في قياساته. ومع ذلك، يؤكد كارول أن الوقت لا يزال مبكرًا للحكم على ما إذا كان "توتر هابل" سيصمد أمام المزيد من التدقيق، ويعتبر من السابق لأوانه استبعاد النموذج الكوني القياسي. ويضيف: "لو لم تكن التداعيات بهذا القدر من الأهمية، لما غلّف الشك نفوس الناس بهذا القدر".
بدا الغضب جليًّا على ملامح ريس حين تطرق الحديث إلى الاعتراضات التي طالت نتائجه، وأرجعها إلى ما وصفه بـ"سوسيولوجيا" هذا الحقل العلمي. وأوضح أن زمرة صغيرة من علماء الكونيات، من بينهم سبيرغل وآخرون وصفهم بـ"أصحاب اللحى الرمادية"، ممّن قضوا أعمارهم في تأمل بدايات الكون، لا يميلون إلى تقبّل ما يُربك سردهم الكوني المعتاد، ويصدّون البيانات التي لا تسير وفق مسلّمات النموذج القياسي. (ومن المفارقات اللافتة أن لحية ريس نفسها قد خطها الشيب أيضًا).
ومع ذلك، أشار ريس إلى أن أحد هؤلاء العلماء قد بدأ تعديل موقفه. فقد أرسل ريس بياناته إلى جورج إفسثاثيو، وهو عالم كونيات بارز ومتخصص في الكون المبكر، وكان من أبرز المشككين في "توتر هابل". وعلى شاشة مكتبه، أرانا ريس رسالة تلقّاها من إفسثاثيو، جاء فيها تعليق مقتضب على بياناته بقوله: "إنها مُقنعة للغاية!".
لم أشأ أن أبني استنتاجًا كبيرًا على جملة ربما لم تكن سوى مجاملة عابرة، فآثرت أن أستقصي الأمر بنفسي. تواصلت مع إفسثاثيو مباشرة، وجاء رده أكثر تحفظًا مما بدا عليه في مراسلته مع ريس. كتب لي ببساطة: "ليس لديّ الكثير لأقوله بشأن توتر هابل". ومن وجهة نظره، لم تكن هناك أخطاء واضحة في قياسات ريس، لكنّه في الوقت ذاته لم يُغلق الباب تمامًا أمام احتمال وجود خلل خفي.
يعتقد ريس أن الوقت سيكون كفيلًا بإنصافه، وأن "توتر هابل" ليس عارضًا عابرًا، بل علامة ستزداد حدّة مع الأيام، حتى يبدأ مزيد من علماء الكونيات التشكيك في النموذج القياسي. ومن اللافت أن شخصًا كان له دور بارز في ترسيخ هذا النموذج يبدو مسرورًا باحتمال تزعزعه. وربما يُعزى ذلك إلى طبيعة ريس العلمية، التي تولي البيانات احترامًا مطلقًا، أو ربما لأنه ببساطة يتوق إلى نشوة أن يكون محقًّا مرة أخرى بشأن طبيعة الكون العميقة.
إعلانحين التقيتُ ريس في يناير/كانون الثاني الماضي، كان حديثه متّقدًا بشيء من الترقّب، أخبرني أنه كان ينتظر بفارغ الصبر صدور دفعة بيانات جديدة من أداة التحليل الطيفي للطاقة المظلمة "ديسي"، وهي مرصد حديث يقع على قمة كيت في الجزء التابع لأريزونا من صحراء سونورا بالمكسيك. تضم هذه الأداة 5000 ليفة بصرية تتحكم فيها أنظمة روبوتية، يقوم كلّ منها كل عشرين دقيقة بتوجيه نفسه نحو مجرة مختلفة في أعماق السماء.
وعلى مدار خمس سنوات، من المفترض أن يواصل هذا المرصد عمله الصبور حتى تُرصد ملايين المجرات، وهي كمية كافية لرسم خريطة لتمدّد الكون عبر الزمن. وقبيل صدور الدفعة الثانية من البيانات، توقع ريس أن تحمل تحديًا جديدًا للنموذج القياسي. وفي أبسط تصوّر للنظرية، تُرسم الطاقة المظلمة بوصفها قوة خافتة، طاردة، تملأ أرجاء الكون وتدفعه إلى التمدد، وهي ثابتة لا تهتز، وأزلية لا تتبدل.
لكن الإصدار الأول لبيانات مرصد "ديسي"، الذي صدر العام الماضي، قدَّم إشارات أولية تُوحي بأن الطاقة المظلمة لم تكن دومًا كما نظن، إذ بدت أشد فاعلية في فجر الكون، ثم أخذت تخبو شيئًا فشيئًا بعد ذلك. وفي 19 مارس/آذار، نشرت الفرق البحثية الدفعة الكبرى من البيانات التي طالما ترقّبها ريس. وقد استندت إلى ثلاث سنوات من التحديق الصبور في السماء. وكانت الإشارة هذه المرة أوضح: بدت الطاقة المظلمة وكأنها فقدت شيئًا من زخمها قبل عدة مليارات من السنين.
لا يمكن اعتبار هذا الاكتشاف حتى الآن علمًا مُستقرًّا، أو يقف على أرض صلبة. لكن إن ثبُتت صحته فسيستدعي بحسب رأي هيل "مراجعة جذرية" للنموذج القياسي، إذ قال: "الكتب التي أدرّسها لطلابي لن تعود صالحة، وسأضطر إلى إعادة كتابتها من جديد". لكن المسألة لا تتوقف عند صفحات المقررات، ففكرة "الموت الحراري" للكون لم تعد حكرًا على الصفحات الجامدة للكتب الأكاديمية، بل أصبحت إحدى "الأساطير العلمانية" الكبرى عن نهاية العالم، وربما أشهر سردية لنهاية الكون في عصرنا.
ومع ذلك، قد تكون هذه النهاية مجرّد وهم راسخ. فإذا ما ضعفت الطاقة المظلمة حتى تلاشت كليًّا، فقد يتوقف الكون عن التمدد ذات يوم، لا ليهوي إلى العدم، بل ليبلغ حالة سكون، حيث تستقر المجرّات في وضع ثابت لا يتغير. وفي هذه الحالة، قد يُكتب للحياة -وخصوصًا الحياة الذكية- أن تستمر لمدى أطول بكثير مما كنّا نتوقع.
إذا استمرت الطاقة المظلمة في الاضمحلال، كما تشير بيانات مرصد "ديسي"، فقد تمضي في خفوتها حتى تنطفئ تمامًا، وربما تنقلب إلى نقيضها، قوة سالبة لا تدفع المجرات بعيدًا، بل تجتذبها إلى حضنها، لتتقارب شيئًا فشيئًا حتى تنهار في نقطة واحدة، حارّة كثيفة، تشبه تلك اللحظة الأولى التي ولد فيها الكون، لحظة الانفجار العظيم.
وقد يكون ذلك جزءًا من دورة أبدية، حيث ينشأ الكون ويفنى ثم يُخلق من جديد مرارًا وتكرارًا. إلا أن ذلك مجرد احتمال، وقد لا يكون كذلك. لكن الحقيقة الوحيدة المؤكدة أن المستقبل البعيد لهذا الكون لا يزال مفتوحًا على جميع السيناريوهات، ولا شيء محسوم.
اتصلتُ بريس بعد صدور نتائج مرصد "ديسي" لمعرفة ما جال في خاطره في تلك اللحظة. فأخبرني أنه قد ظفر بنظرة مبكرة في البيانات. وحين فتح ملف البيانات في مكتبه، ارتسمت على وجهه ابتسامة. لقد راق له أن يرى نتيجة أخرى تُضعف من مصداقية النموذج القياسي. حينها شبّه النظرية ببيضة تتشقق، قائلًا: "لن تنكسر بسهولة من مكان واحد، بل من الطبيعي أن تظهر فيها تشققات متعددة في أماكن متفرقة".
سواء أكانت تلك الشقوق التي بدأت تظهر في جدار النموذج القياسي حقيقية أم مجرد أوهام علمية، فإن اتساعها لا يزال رهن الأيام المقبلة. فالملاحظات الجديدة تتوالى في الأفق، لا من مرصد ديسي فحسب، بل من مرصد فيرا روبين الجديد في صحراء أتاكاما، إلى جانب تلسكوبات فضائية أخرى. وفي كل يوم إفراج عن دفعة جديدة من البيانات، سيجلس أنصار النظرية وخصومها على أطراف الانتظار، يُجدّدون التحقق من صناديق بريدهم الإلكترونية بلهفة، في انتظار ما قد يؤكد نظرتهم أو يقوّضها.
أما في الوقت الراهن، فيرى ريس أن المجتمع النظري أصبح يميل إلى التراخي. فعندما يتواصل مع بعض المنظّرين طلبًا لتفسير نتائجه الرصدية، تأتي ردودهم فاترة ومحبطة، وهو ما عبّر عنه بقوله: " تقتصر ردودهم على عبارة واحدة: نعم، هذا تحدٍّ عسير فعلا". ثم أردف بأسى: "أشعر أحيانًا أنني أقدّم الأدلة، ثم أظلّ عالقًا في فراغ الانتظار، إلى أن يُطلّ علينا أينشتاين جديد".
عندما تحدّثتُ إلى ريس للمرة الأخيرة، كان يحضر مؤتمرًا لعلم الكونيات في سويسرا، وقد بدا صوته مفعمًا ببهجة أقرب إلى النشوة، تحدث إليَّ قائلًا: "حين تغيب المشكلات الكبرى، ويبدو كل شيء وكأنه في موضعه تمامًا، يغدو الأمر مملًّا". أما الآن، فهو يشعر بنبض جديد يسري في الميدان. الهمسات تتعالى، والسكاكين تُشهَر، والصراع على وشك أن يبدأ. وفي النهاية، قالها بحماس: "المجال يشتعل من جديد. أصبح من الوارد فجأة أن يكون الكون مختلفًا كليًّا عمّا ظنناه".
____________
* إضافة المترجم
هذه المادة مترجمة عن ذا أتلانتك ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت