أمن إسرائيل في مهب الريح!

هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية، وهي اللحظة التي لا تكون فيها المقاومة الفلسطينية مجرد رد فعل، على الإجرام الإسرائيلي المباشر كما في كل مرة، فقد قامت بعمليتها هذه المرة كرد فعل على عدوان مستمر، وفي هذه كانت في انتصارها الكبير، تمثل وصلاً بالنصر الوحيد للعرب على إسرائيل في أكتوبر 1973!

ليس عندي إضافة على ما قيل وصفاً لهذا الانتصار المدهش، فـ"طوفان الأقصى" لا تحتاج إلى قلم بعدها بأيام ليثبت المثبت، ويكرر المكرر، ويعيد الكتابة عما رآه الناس رأي العين.

وقد كانت الخطة الإعلامية لها على مستوى فائق الجودة، فما شغلني أن ما جرى جاء في وقت من يذهبون فيه إلى تل أبيب محلقين ومقصرين، يبتغون عندهم العزة، يتعاملون على الانبطاح للعدو السابق على أنه خيار العصر ولغته، وشاهدنا الذين لا يقتصر أداؤهم على الزيارة وإنما يشاركون القوم الرقص الماجن، وكأن بهم جُنة، وكأنهم سكارى وما هم بسكارى، فمن يقدر على إسرائيل؟!

إن دولاً لم يكن لها في العير ولا في النفير، اندفعت في اتجاه التطبيع، وإن زعامات ضنت عليها شعوبها بالشرعية المطلوبة، فكان خيارها الوحيد هو الحصول على الشرعية الأمريكية التي لا تمر سوى عبر البوابة الإسرائيلية، فإذا بالمقاومة تجعل من هذه التصورات هشيماً تذروه الرياح، أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء وما هو بماء!

هزيمة الحليف:

إن حليفهم في القاهرة يستقوي بهم على شعبه، وإذا كان كاتب إسرائيلي قد كتب مقالاً حمل عنوان "لا تحرجوا السيسي" في بداية الانقلاب، من خلال الطلب منه إعلان علاقته بالكيان، فقد ذهب الجنرال بعيداً حد الإعلان عن أن مهمته حماية أمن إسرائيل، وقد أعلن في حضرة الرئيس الأمريكي أنه جاهز لصفقة القرن، التي تبدت عورتها للناظرين فإذا بها خطة تسكين الفلسطينيين في سيناء، ولم يتم العدول عنها إلا بإرادة فلسطينية صلبة مثلتها المقاومة، ولم "يصرفوا نظراً" إلا لأن مقترحهم تهشم على أرض صلبة هي إرادة الشعب الفلسطيني.

زعامات ضنت عليها شعوبها بالشرعية المطلوبة، فكان خيارها الوحيد هو الحصول على الشرعية الأمريكية التي لا تمر سوى عبر البوابة الإسرائيلية، فإذا بالمقاومة تجعل من هذه التصورات هشيماً تذروه الرياح، أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء وما هو بماء
إن الجنين في بطن أمه يعلم أن هدم المنازل الذي جرى في رمح كان من أجل مهمة حماية أمن إسرائيل، وقد صار حارس المعبر ملكياً أكثر من الملك، إلى حد أن يُحكم الغلق على نحو لا تريده إسرائيل، فصارت هي من يتدخل لتخفيف قبضته، حتى لا تنفجر غزة في وجه الكيان!

وقد شاهدنا كيف جرى ترميم معبد يهودي في القاهرة، في وقت تجتاح فيه الجرافات مقابر المسلمين وأئمتهم ورموز مصر وعصبها الحي، وإذا بالصلاة تقام فيه، وإذا بالعدد مكتمل للمهمة، وكان هذا مفاجأة للمتابعين الذين يعلمون أنه منذ نزوح اليهود من مصر إلى إسرائيل في العهد الناصري، لم تُقم صلاة لهم لعدم اكتمال العدد المطلوب دينيا، فكيف اكتمل هذا العدد ومن أين ومتى؟!

أسئلة لم يعد لها معنى، ولم تجد السلطات المصرية نفسها معنية بالإجابة عنها، فمن يمكنه أن يستنكر هذا الحلف مع إسرائيل وما تمثله من قوة ونفوذ؟ حتى أن العرب يرون في زيارتهم لتل أبيب إنجازاً عظيما يستوجب الاحتفال، والخروج عن حدود الوقار!

وحتى الذين بنوا مجدهم السياسي على رفض الصلح مع إسرائيل ورفض التطبيع، لم يعودوا يكترثون بهذه العلاقة التي تفوقت على علاقة مبارك بالقوم، وهو من وصفوه بكنزهم الاستراتيجي، ولم يستنكروا هذا التماهي في المعسكر الصهيوني، فقد عنت الوجوه لحكم الدبابة فلم تعد تسمع حتى همساً!

في هذه الأجواء المحبطة، وقد صار قادة إسرائيل الأكثر تشدداً يتعاملون على أن كيانهم هو عنوان المنطقة الثابت الذي لا يتغير، إذا بالجيش الذي لا يقهر وكأنه عصف مأكول، فقيادات منه يقعون أسرى في يد أصحاب الأرض الأصليين، وإذا بقوم في حصار، يصنعون أسلحتهم البدائية بأيديهم، يكشفون أن ما نعيش فيه هو الوهم وهو الباطل الذي لا يغني عن الحق شيئاً.

تحرك واشنطن:

لقد تحركت واشنطن لتقدم الدعم العسكري لإسرائيل قبل أن تتلاشى من الوجود، وهدد قادة الكيان بأنهم سيدكون غزة دكا، وقالت الصحف الأمريكية إنه سيتم الاجتياح البري لغزة، وقد كذب المنجمون ولو صدقوا، فهذه الحشود العسكرية هي أضعف من أن تواجه أهل غزة المحاصرين وجهاً لوجه، لأنه سيكون قراراً مجنوناً؛ فغزة ستتحول الى كمين كبير للغزاة، وستكون مقبرة لهم، وسيغرقون في مستنقعها، لكنها مرارة الهزيمة التي جعلتهم يهددون بأفعال مجنونة كهذه، وهي هزيمة جعلت من بايدن ونتنياهو كأنهما منهوك على منهوك!

لعل ما جرى رسالة لمن يعنيهم أمر هذه المستوطنة الغربية في بلاد العرب، بأن فكرة التفوق العسكري الإسرائيلي، ودعم الديكتاتوريات العربية، ليس هو الحل، فلا حل إلا رفع العدوان على الشعب الفلسطيني، والحل العادل للقضية الفلسطينية!
إنها ظلمات في بحر لجي يعيش فيها القوم بسبب هذا الانتصار الكبير للمقاومة، إذا أخرج الواحد منهم يده لم يكد يراها، والذين قاموا بهذا العملية الكبيرة يدركون رد الفعل الإسرائيلي عليها، لكن الهزيمة قد وقعت، ورد الفعل المحتمل والذي بدأ بالفعل، لا يمثل قيمة فكثيراً ما حدث كفعل، لكن هذه المرة سيكون رداً على هزيمة مسحت بكرامة الجيش الإسرائيلي البلاط!

ولعل ما جرى رسالة لمن يعنيهم أمر هذه المستوطنة الغربية في بلاد العرب، بأن فكرة التفوق العسكري الإسرائيلي، ودعم الديكتاتوريات العربية، ليس هو الحل، فلا حل إلا رفع العدوان على الشعب الفلسطيني، والحل العادل للقضية الفلسطينية!

لقد رأينا كيف أن التفوق العسكري لم يحقق الأمان للقوم، وإذا بهم يهرعون إلى المطارات هروباً فالأرض لا تزال تلعن من يغتصبها، وإذا بمحاصرين يكبدون القوة الإسرائيلية التي لا تقهر خسائر عظيمة في الأنفس وفي الكرامة العسكرية، وإذا بالديكتاتوريات العربية أعجز من أن تفعل شيئاً، ضعف الطالب والمطلوب!

رسالة للبيت الأبيض:

لقد عمت السعادة بلاد العرب والعالم الإسلامي، لما حققته المقاومة الفلسطينية، ومن كل القوى، حتى أن أناساً كنا نحسبهم على الجبهة الأخرى، فإذا هو انحياز للهزيمة، واختلفت اللغة عندما تحقق النصر، وصُفع العدو على قفاه، في عملية مدهشة بكل التقديرات. وهذه رسالة للبيت الأبيض وللقوى الخارجية التي تدعم إسرائيل، بأنه ليس بالقوة يُفرض الأمر الواقع، وليس بدعم الديكتاتوريات يفرض السلام، وأن الحكام قد يعملون خدماً في الكنيست، لكن الشعوب لن تغير قبلتها، حيث القبلة هي القضية الفلسطينية. يا لها من قضية قادرة على جمعنا على كلمة سواء، وعلى إعادة تذكيرنا بأننا أخوة لا أعداء، وإن فرّق الحكام جمعنا!

كلفة دعم الاستبداد لن تؤدي إلى النتيجة المرجوة، وهي ضمان أمن إسرائيل، تماماً كما أن ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي وإن أخرج الجيوش من المعادلة فلن يحقق الهدف، فالمقاومة تنجح فيما يمكن أن تفشل فيه الجيوش العربية مجتمعة
إنني بإرادتي الكاملة أميز بين القتل والقتال، وبين ما يحدث في الأرض المحتلة وما يحدث من استهداف لإسرائيلي هنا وهناك، وبين ما حدث من المقاومة الفلسطينية وما أقدم عليه شرطي مصري بمحافظة الإسكندرية، فليس ممكنا أن أجامل على حساب دم معصوم، لكن لا يصح ترك دلالة ما حدث دون استلهام الدرس منه!

إن الذي اعترف بعظمة لسانه إن مهمته حماية أمن إسرائيل، وقام بتهجير أهالي سيناء من أجل هذه المهمة، لم يستطع توفير الحماية للسياح الإسرائيليين، ومع وجوده وقد سمح بترميم معبد يهودي في وقت يزيل فيه الآثار الإسلامية، فإنه عجز عن توفير الأمن لهم لأن الاستهداف قد لا يكون قاصراً على جماعة متطرفة، يمكن حصارها وتفكيكها، فقد يكون التهديد ممن يحمل السلاح الميري!

والحال كذلك، فقد نُفخ في الصور؛ أن على كل الإسرائيليين في مصر أن يغادروا خوفاً من استهدافهم، وقد يكون في الغد كل التراب العربي خطراً عليهم، ومن هنا لا يصح الا الصحيح!

والصحيح أن كلفة دعم الاستبداد لن تؤدي إلى النتيجة المرجوة، وهي ضمان أمن إسرائيل، تماماً كما أن ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي وإن أخرج الجيوش من المعادلة فلن يحقق الهدف، فالمقاومة تنجح فيما يمكن أن تفشل فيه الجيوش العربية مجتمعة!

والصحيح كذلك أنه بدون حل القضية الفلسطينية، ووقف العدوان على فلسطين شعباً وأرضاً، فلا أمن ولا أمان، ولو تحرك الجيش الأمريكي كله، وليس مجرد قطع عسكرية وأسطول رأيناه من قبل يهرب بمجرد صدور تحذير من حسن نصر الله، بأنه إن لم يغادر فسوف يكون هدفاً لصواريخ المقاومة.

twitter.com/selimazouz1

المصدر: عربي21