الغليفوسات.. كيف تضر أشهر المبيدات العشبية في العالم بصحتنا؟
تاريخ النشر: 14th, October 2023 GMT
ازداد تردد العديد من الأمراض المزمنة واضطرابات الصحة العقلية لدى المراهقين والشباب خلال العقدين الماضيين في جميع أنحاء العالم، ويرى فريق من الباحثين أن مبيدات الأعشاب في الأماكن الزراعية يمكن أن يكون لها دور في هذا.
مبيدات الأعشاب هي مواد تستخدم للسيطرة على النباتات غير المرغوب فيها، فتقوم بقتل أنواع معينة من الحشائش مع ترك المحصول المرغوب فيه، دون أن يصاب بأذى نسبيا.
ووفق دراسة صدرت مؤخرا في دورية "إنفيرومنتال هيلث بريسبكتفز" فإن بعضا من مبيدات الأعشاب يمكن بالفعل أن تؤثر في الصحة العقلية للمراهقين.
فحصت الدراسة تركيزات اثنين من مبيدات الأعشاب شائعة الاستخدام، وهما الغليفوسات وحمض 2.4 (ثنائي كلوروفينوكسي أسيتيك)، وطارد الحشرات المسمى "ثنائي إثيل ميتا تولواميد" في عينات بول لـ519 مراهقا تتراوح أعمارهم بين 11 و17 عاما، يعيشون في مقاطعة بيدرو مونكايو الزراعية بدولة الإكوادور، وفي السياق نفسه قام الباحثون بتقييم الأداء السلوكي العصبي للمشاركين.
ولاحظ الباحثون أنه كلما كانت هناك تركيزات مرتفعة من تلك المواد الكيميائية في عينات البول، فإن ذلك يرتبط بدرجات من انخفاض الأداء السلوكي في مجالات الانتباه والتحكم والذاكرة والتعلم واللغة، ترتبط مع نسبة المادة الكيميائية.
ويتم إنتاج مئات المواد الكيميائية الجديدة في السوق كل عام، بمجمل وصل إلى 80 ألف مادة كيميائية تستخدم مبيدات حاليا، ومن ثم هناك حاجة إلى الإنفاق على مزيد من البحث العلمي لفهم أثرها قصير وطويل المدى على جسم الإنسان.
يأتي ذلك في سياق ملاحظات بحثية ازدادت مؤخرا تتعلق بالآثار الجانبية لتلك المواد الكيميائية، فمثلا في المناطق الريفية في سريلانكا، وعلى مدى العقدين الماضيين، أصيب عشرات الآلاف من الأشخاص بالفشل الكلوي لأسباب غير واضحة، وهي حالة سميت بـ"مرض كلوي مزمن غير معروف السبب"، والمشكلة الأكبر أن ما يصل إلى 10% من الأطفال في سريلانكا أظهروا مبكرا أعراضا لتلف الكلى.
وقد ظهرت حالات مماثلة لأمراض الكلى الغامضة في المجتمعات الزراعية الاستوائية حول العالم، بلا سبب واضح، ورجح الباحثون منذ سنوات أن ذلك له علاقة بالمبيدات المستخدمة في الزراعة.
وفي دراسة ميدانية ضخمة للآبار نشرت في 11 أكتوبر/تشرين أول الجاري بدورية "إنفيرومنتال ساينس آند تكنولوجي ليترز"، تبين أن الغليفوسات قد يكون هو المتسبب في تلك الكارثة.
ووفق الباحثين من جامعة ديوك والذين ترأسوا هذه الدراسة، فإن الغليفوسات يمكن أن يمر إلى ماء الشرب، ثم يتفاعل مع أيونات المغنيسيوم والكالسيوم لتشكيل تجمعات معدنية يمكن أن تستمر مدة تصل إلى 7 سنوات.
وقد بينت الدراسة أن الغليفوسات قد يؤدي دورا في الإصابة بأمراض الكلى المزمنة، إذ وجد الباحثون مستويات أعلى بكثير من مبيدات الأعشاب في 44% من الآبار داخل المناطق المتضررة مقابل 8% فقط من تلك الموجودة خارجها.
ويعد الغليفوسات أحد أكثر مبيدات الأعشاب شيوعا في العالم، وعادة ما يستخدم مع محاصيل الفاكهة والخضروات والذرة والقطن وفول الصويا وبنجر السكر والقمح وغيرها، وقد اكتشفه الكيميائي الأميركي جون فرانز من شركة مونسانتو عام 1970، ويتميز الغليفوسات بفعاليته للقضاء على الأعشاب الضارة دون الإضرار بالمحاصيل الزراعية، إضافة إلى ثمنه الرخيص.
وفي أحد التقارير الصادرة عن علماء كاليفورنيا ومنظمة الصحة العالمية، تبين أن 43 من أصل 45 منتجا يعتمد على الشوفان تم اختباره يحتوي على هذه المادة، وكانت حبوب الإفطار الشهيرة تحتوي على مستويات أعلى من المتوسط.
لكن التعرض قصير المدى ليس شيئا خطيرا، وتبقى المشكلة في التعرض إليه على المدى الطويل، وهو ما ظهر في حالة الدراسات السالف ذكرها، وهي ليست الوحيدة في هذا النطاق، إذ تشير دراسة -صدرت في مارس/آذار 2023 بقيادة باحثين من كلية الصحة العامة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي- إلى أن تعرض الأطفال للغليفوسات يرتبط بالتهاب الكبد واضطراب التمثيل الغذائي في مرحلة البلوغ المبكر، مما قد يؤدي إلى سرطان الكبد والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية في وقت لاحق من الحياة.
وقد أجريت الدراسة على 480 زوجا من الأشخاص (أم وطفل) من وادي ساليناس بولاية كاليفورنيا وهي منطقة زراعية، اهتم الباحثون على نحو خاص بفحص الاستخدام الزراعي للغليفوسات بالقرب من منازل الأمهات في أثناء الحمل، وفي الأطفال حتى سن الخامسة.
وتصنف الوكالة الدولية لأبحاث السرطان الغليفوسات على أنه مادة مسرطنة محتملة للبشر، وهذا لا يعني أنه مسرطن بشكل عام، لكن فقط مع تجاوز النسبة الموصى بها.
وما زال الجدل قائما بشأن هذه المادة إلى الآن؛ لأنه مع وجود دراسات مؤيدة لحظرها تماما توجد دراسات أخرى ترجح أنه يمكن استخدامها على نحو آمن.
وفي دول مثل فرنسا وهولندا وبلجيكا، يُحظر استخدام الغليفوسات منزليا، ولكنه ما زال نشطا في مبيدات الأعشاب، وفي ألمانيا تم حظر استخدامه في الأماكن العامة وهناك توجه لفرض حظر كامل في نهاية هذا العام.
وحظرت كل من كولومبيا والسلفادور وسيريلانكا الغليفوسات، ثم ألغت القرار، في حين تعهدت المكسيك بحظر استخدامه بحلول عام 2024، وحاولت الحكومة السريلانكية حظره عام 2015، لكنها ألغت الحكم عام 2021 لعدم وجود أدلة علمية.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
ترامب أعلن حربا حضارية على أوروبا.. وهكذا يمكن أن نقاوم
بعد ثلاثة عقود من إعلان أستاذ الفلسفة السياسية فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ، وأن «الديمقراطية الليبرالية الغربية هي الشكل النهائي للحكم البشري»، يتعرض النموذج الديمقراطي للهجوم في كثير من أرجاء العالم، وهنا في أوروبا أيضا.
فالشعبويون المصرَون على إضعاف سيادة القانون، والنكوص بحماية حقوق الإنسان، وإخضاع القضاء، وإرهاب الصحافة المستقلة، يستقوون بخوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي التي تسمح بأي شيء وتروج الغضب والاستقطاب على حساب الحوار العقلاني.
وقد تلقى الشعبويون الآن تفويضًا من إدارة ترامب، التي أعلنت فعليًا حربًا حضارية على الاتحاد الأوروبي وقيمه في استراتيجيتها للأمن الوطني. في الوقت نفسه تتزايد إخفاقات ديمقراطيات السوق لدينا ويزداد عجزها عن توفير إسكان ميسور وتعليم جامعي جيد ورعاية صحية ووظائف مضمونة ـ وذلك ما يطلق عليه عالم الاقتصاد جورج ستيجلتز بـ «حالة طوارئ التفاوت» ـ فتعمل هذه الإخفاقات على تنفير كثير من الشباب وأبناء الطبقة العاملة من الديمقراطية، وتغذي صعود الاستبداد ومعاداة الليبرالية.
ويمثل مزيج سياسات الهوية القائمة على المظالم وما يطلق عليه البعض الفاشية التقنية خطرًا على نظام الحكم الديمقراطي لدينا. ويمزق هذا المزيج نسيج كياناتنا السياسية، وينكص عن حقوق النساء والمثليين، وينال من متانة التوظيف وحماية الرفاه التي تمثل جزءًا من العقد الاجتماعي في أوروبا.
في الشهور الاثني عشر الماضية وحدها، قوّض أعداء الديمقراطية الليبرالية سلامة الانتخابات، وألحقوا أضرارًا بقدرة الحكومات على تنفيذ سياسة قائمة على الدليل في قضايا من قبيل تغير المناخ والتطعيم، وأضعفوا دور جهات الرقابة من قبيل المحاكم وهيئات التنظيم الرقمية وسلطات مكافحة الفساد.
غير أننا أبرع في وصف المشكلة وتحليلها ـ و»الوقوع في غرامها» حسبما يقول المتشائمون ـ منا في حبك استراتيجيات فعالة لمحاربة القوى المقوضة للديمقراطية.
ولقد خرج المؤتمر السنوي لمركز السياسة الأوروبية (EPC) الذي عقد في بروكسل الأسبوع الماضي بنطاق من المقترحات لكيفية المحاربة. لكن كل مقترح منها محفوف بالمصاعب.
ذهب كثير من الناس إلى أن الاتحاد الأوروبي والسلطات الوطنية المحورية من قبيل هيئة تنظيم الاتصالات في أيرلندا يجب أن تسارع في تنفيذ القوانين الرقمية القائمة فعلا في الاتحاد الأوروبي. والاتحاد الأوروبي لديه سلطة تغريم عمالقة التكنولوجيا الأمريكيين لتقاعسهم عن مراقبة المحتوى غير الشرعي وإزالته وعن الإفصاح عن خوارزمياتهم للباحثين والمنظمين وعن حماية البيانات الشخصية الخاصة بالمستخدمين الأوروبيين.
لماذا يستغرق تطبيق هذه القوانين كل هذا الوقت؟ الحقيقة أن السبب هو سيادة القانون. فقد صرحت ريناتا نيكولاي، نائبة مدير الاتصالات في المفوضية الأوروبية بقولها إن «هذا هو نظام الإجراءات الواجب». ورفضت المزاعم بأن الاتحاد الأوروبي يخفف التنظيمات أو يخفض المعايير في سياق سعيه إلى تبسيط التشريعات الأوروبية، أو يتباطأ خوفا من انتقام تجاري أمريكي.
أصدرت المفوضية سبعا مما سمي بالنتائج الأولية ضد عمالقة تكنولوجيا من أمثال آبل وميتا وجوجل وتيك توك متهمة إياها بخرق القواعد التقنية للاتحاد الأوروبي في قضايا من قبيل منع الباحثين من الوصول إلى بيانات المنصات، والقدرة على الإبلاغ عن المحتوى غير القانوني، والطعن في قرارات المراقبة.
وكان آخر إجراء اتخذته هو فرض غرامة قدرها مئة وعشرون مليون يورو على منصة إكس (تويتر سابقا) المملوكة لإيلون ماسك لفرضها على المستعملين رسوما مقابل علامة التوثيق الزرقاء دون القيام بأي تصديق فعلي.
غير أن التكنولوجيا، وخاصة الذكاء الاصطناعي، تتقدم بسرعة تفوق سرعة قواعد الاتحاد الأوروبي. وجهود الاتحاد الأوروبي لمنع الشركات التكنولوجية الكبرى من تقويض الديمقراطية الأوروبية لا تجد عونا في قيام أيرلندا ـ وهي بلد منخفض الضرائب اختارت شركات تكنولوجيا أمريكية كثيرة أن تجعل مقراتها فيه ـ بتعيين مناصر سابق لميتا ضمن ثلاثة من كبار واضعي قوانين حماية البيانات لديها.
يرى البعض، وخاصة في اليسار، أن مفتاح الحفاظ على الديمقراطية الليبرالية يتمثل في تلبية احتياجات الناس الأساسية من إسكان ميسور ووظائف جيدة الرواتب وخدمات عامة فعالة. ويرون أن السبب الأساسي لصعود اليمين المتطرف واليسار الراديكالي وجذبهما للشباب وكبار السن من عمال الصناعة هو فشل أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط الكبرى التي تحكم منذ عقود في توفير هذه الاحتياجات الأساسية.
ووفقا لهذه الرواية، فإن من خسروا في ظل الليبرالية الجديدة والعولمة هم الذين ينتقمون الآن من الديمقراطية الليبرالية.
لكن المشكلة أن حلول أزمة الإسكان تكمن في المستوى الوطني والمحلي، وليست قائمة تحت سقف الاتحاد الأوروبي، وأنها صعبة التوافر بسرعة بسبب القواعد المنظمة للتخطيط، والتحيز، والتكلفة.
ويجد كثير من الديمقراطيين الاجتماعيين الأوروبيين إثارة كبيرة في انتصار زهران ممداني في انتخابات عمودية نيويورك ببرنامج يركز على الانتقال المجاني بالحافلات والسيطرة على الإيجارات وإنشاء متاجر بقالة عامة غير ربحية في الأحياء الفقيرة ورعاية أطفال مجانية وبناء مساكن بأسعار معقولة. ويشيرون أيضا إلى نجاح حكومة أسبانيا اليسارية التي رفعت الإعانات الاجتماعية ورحبت بالهجرة مع حفاظها على أسرع اقتصادات أوروبا نموا.
غير أن هذا لم يوقف شعبوية اليمين المتطرف. فقد حقق حزب فوكس الأسباني المعادي للهجرة قفزة تأييد من 12.4% في انتخابات سنة 2023 العامة إلى قرابة 20% الآن. وشعبية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية تتراجع الآن في أغلب أوروبا.
يرى بعض أنصار الديمقراطية أن مفتاح تغيير هذا المد يكمن في استغلال مخاوف الشعب بتصوير الشعبويين باعتبارهم خطرا على نمط الحياة الأوروبي وازدهاره. يذهب فابيان زوليج رئيس الجمعية السياسية الأوروبية إلى أن الديمقراطيين الليبراليين يجب أن يبدأوا في التحرك وكأنهم يخوضون معركة وجودية، لأن هذا هو الواقع. «لماذا لا نقوم بأي إجراء هجومي، ونهاجم نقاط ضعف الطرف الآخر، وازدراءه للشعب؟».
غير أن فضح الدعم المالي الروسي السابق لحزب التجمع الوطني اليميني المتشدد بزعامة مارين لوبان في فرنسا، أو إدانة شخصية بارزة في حزب الإصلاح الشعبوي اليميني في المملكة المتحدة بتهمة العمالة للكرملين، لم يضعف شعبية هذه الحركات.
كما أن التنقيب عن تصريحات عنصرية سابقة لمرشحيهم أو تسليط الضوء على تناقض برامجهم الاقتصادية لم يسبب سوى إحراج عابر، إن تسبب في شيء أصلا.
هذا وفي تضخيم مواقف ضخمة بطبيعتها مخاطر خاصة. فتصوير الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة باعتبار أنها صراع وجودي بين الديمقراطية والاستبداد - مهما بلغت دقة هذا التصوير ـ لم يفلح في حشد الناخبين لصالح الديمقراطية كامالا هاريس. وانتصار دونالد ترامب باستغلاله غضب الرأي العام من غلاء المعيشة والهجرة، وما اعتبره البعض تهديدا لقيم الأسرة والرجولة.
كما لم تنقذ التحذيرات من أضرار اقتصادية جسيمة وصفها المعارضون بـ»مشروع التخويف» ديفيد كاميرون من خسارة استفتاء عام 2016 بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وثمة بديل يطرحه بعض دعاة الديمقراطية ويتمثل في أداء الممارسات السياسية على نحو أفضل والتعلم من حملات المتطرفين.
فقد قالت ليزا ويتر، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة «سياسة أفضل»، وهي مركز غير حزبي لتدريب السياسيين والناشطين الشبان على أساليب الحملات الانتخابية الحديثة «إننا بحاجة إلى العودة إلى العمل السياسي الشعبي».
لقد أصبحت الأحزاب الشعبوية رائدة في استخدام منصات التواصل الاجتماعي من قبيل تيك توك وإنستجرام وغيرها.
ففي المجر، يستخدم حزب فيدس بزعامة فيكتور أوربان المؤثرين المأجورين على الإنترنت بشكل واسع وفعال. وفي رومانيا، يظهر حزب التحالف من أجل اتحاد الرومانيين اليميني المتشدد براعة أكبر في استخدام التطبيقات التفاعلية لجذب الناشطين الشبان ومكافأتهم، كما أنه أكثر جدية في العمل الميداني التقليدي من خلال توزيع المنشورات في الأسواق والحملات الانتخابية المباشرة.
وفي فرنسا، تفوق الوسطي إيمانويل ماكرون على الأحزاب الرئيسية باستخدامه العمل الشعبي في صعوده إلى الرئاسة عام 2017، كما نجح أخيرا حزب D66، بزعامة روب جيتن، زعيم اليسار الليبرالي الهولندي، في استخدام بعض الأساليب نفسها لتحقيق فوز مفاجئ برسالة إيجابية مؤيدة لأوروبا. لكن الشعبوية الوسطية لا تضمن النجاح، خاصة للأحزاب التي شاركت في حكومات ائتلافية لفترة طويلة.
لعل مزيجًا من هذه الأساليب الأربعة قادر على إنقاذ الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا، لكن يبدو أن التيار في الوقت الراهن يميل بقوة في الاتجاه المعاكس.