مسقط - الرؤية

أعلن مجلش إدارة شركة طيران السلام تعيين الكابتن أحمد بن محمد الشيذاني رئيسا تنفيذيا بالإنابة خلفا للكابتن محمد أحمد.

وقد شغل الشيذاني سابقا منصب الرئيس التنفيذي للعمليات في طيران السلام.

.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الاستشراق الرقمي: كيف تصنع وسائل الإعلام الغربية شرقاً جديداً؟

#الاستشراق_الرقمي: كيف تصنع #وسائل_الإعلام_الغربية شرقاً جديداً؟

#الدكتور_حسن_العاصي

باحث أكاديمي في الأنثروبولوجيا

في هذا العصرٍ الذي تتداخل فيه الحدود بين الواقع والافتراض، وتتشابك فيه خيوط المعرفة مع خوارزميات المنصّات الرقمية، يبرز مفهوم الاستشراق الرقمي بوصفه امتداداً جديداً لخطابٍ قديم أعاد تشكيل نفسه داخل بيئة إعلامية أكثر تأثيراً وانتشاراً. فبينما كان الاستشراق التقليدي يعتمد على الرحّالة والمستشرقين والكتّاب والفنانين لتكوين صورة “عن الشرق”، فإن النسخة الرقمية منه اليوم تُصنع عبر شبكات الأخبار العالمية، ومنصّات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث، وخوارزميات التصفية التي تحدد ما يُرى وما يُخفى، وما يُضخّم وما يُهمّش. وهكذا، لم يعد الشرق يُعاد إنتاجه عبر نصوص أدبية أو لوحات فنية فقط، بل عبر تدفقات هائلة من الصور والفيديوهات والعناوين العاجلة التي تُبنى وفق منطق السرعة والانتشار والتأثير.

مقالات ذات صلة فِقْهُ التَّعَدُّدِ.. لِحَلِّ مُشْكِلَةِ العُنُوسَةِ..! 2025/12/01

لقد أصبحت وسائل الإعلام الغربية لاعباً مركزياً في تشكيل المخيال الجمعي العالمي حول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وآسيا وشمال إفريقيا. فهي لا تنقل الأحداث فحسب، بل تصنع إطاراً تفسيرياً يحدد معنى الحدث، ويعيد ترتيب عناصره، ويُسقط عليه منظومة من القيم والتصورات المسبقة. وفي هذا السياق، يتحول الشرق إلى “شرق رقمي” جديد: شرقٍ مُفلتر، مُجزّأ، مُختزل في ثنائيات جاهزة مثل العنف/الاستقرار، الحداثة/التخلّف، الديمقراطية/الاستبداد، والحرية/التهديد. شرقٌ لا يُرى كما هو، بل كما تسمح به عدسات الكاميرات الغربية وخوارزميات المنصّات التي تُعيد تدوير الصور النمطية القديمة في قالبٍ معاصر.

إن الاستشراق الرقمي لا يقتصر على التغطيات الإخبارية، بل يمتد إلى صناعة الترفيه، وتحليلات الخبراء، وصور “الشرق” في السينما والمسلسلات، وحتى في نتائج البحث على الإنترنت. فحين يبحث المستخدم الغربي عن “العرب” أو “المسلمين” أو “الشرق الأوسط”، فإن ما يظهر أمامه ليس مجرد معلومات محايدة، بل منتج معرفي تشكّله شركات التكنولوجيا الكبرى وفق معايير تجارية وسياسية وثقافية. وهكذا، تتكرّس صورة الشرق كفضاء للأزمات، والحروب، والغرابة الثقافية، في حين تُهمّش جوانب الحياة اليومية، والإبداع، والتنوع، والتاريخ الاجتماعي الحقيقي لشعوبه.

إن هذا المقال يسعى إلى تفكيك آليات هذا الاستشراق الرقمي، وطرح سؤال جوهري: كيف تصنع وسائل الإعلام الغربية شرقاً جديداً؟ وما الذي يجعل الصورة الرقمية للشرق أكثر حضوراً وتأثيراً من الواقع نفسه؟ وهل نحن أمام إعادة إنتاج لخطاب استشراقي قديم، أم أمام شكل جديد من الهيمنة الرمزية التي تُمارس عبر البيانات والصور والخوارزميات؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة ليست مجرد تمرين نظري، بل ضرورة لفهم كيف يُعاد تشكيل وعينا بالعالم في زمن الإعلام الرقمي، وكيف يمكن للشرق أن يستعيد حقه في تمثيل ذاته بعيداً عن عدسات الآخر.

خلفية نظرية عن الاستشراق

يُعدّ مفهوم الاستشراق واحداً من أكثر المفاهيم إثارةً للجدل في حقل الدراسات الثقافية والإنسانية، لأنه لا يقتصر على كونه مجالاً معرفياً يهتم بدراسة الشرق، بل يتجاوز ذلك ليصبح منظومة فكرية وخطابية أسهمت في تشكيل علاقة غير متكافئة بين الغرب والشرق. تاريخياً، ظهر الاستشراق في البداية كتسمية علمية لمجموعة من الدراسات التي اهتمت باللغات الشرقية، والأديان، والتاريخ، والعادات، والجغرافيا، إلا أن القراءات النقدية الحديثة، وعلى رأسها قراءة إدوارد سعيد، كشفت أن هذا الحقل المعرفي لم يكن بريئاً أو محايداً، بل كان متشابكاً مع مشاريع القوة والهيمنة والاستعمار.

في القرون الثامن عشر والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين، برز المستشرقون كخبراء في “شؤون الشرق”، يُجيدون لغاته، ويُدرّسون نصوصه الدينية والأدبية، ويُنتجون دراسات عن تاريخه ومجتمعاته. ظاهرياً، يبدو هذا جهداً علمياً يهدف إلى الفهم والمعرفة، لكن المشكلة الأساسية تكمن في زاوية النظر؛ فقد كانت عملية دراسة الشرق تتم عادةً من مسافة، ومن موقع تفوّق حضاري مزعوم، يُفترض فيه أن الغرب هو معيار التقدم والعقلانية والمدنية، بينما يُنظر إلى الشرق كموضوع للدراسة، وكـ“آخر” مختلف وغريب، يحتاج دائماً إلى تفسير وترجمة وتأطير.

هذا الموقع غير المتكافئ بين “الدارس” الغربي و“الموضوع” الشرقي جعل المعرفة المنتجة عن الشرق محمّلة، في كثير من الأحيان، بأحكام مسبقة، وصور نمطية، وتعميمات واسعة، مثل اعتبار الشرق عالماً ساكناً، غير تاريخي، تقليدياً، منغلقاً، عاطفياً وغير عقلاني. وهكذا، لم يكن الاستشراق مجرد مشروع معرفي، بل كان طريقة معينة لرؤية الشرق، طريقة تصنع شرقاً متخيلاً، يختلف كثيراً عن واقع المجتمعات الشرقية المعقد والمتنوع.

قراءة إدوارد سعيد: الاستشراق كخطاب

التحوّل الجذري في فهم الاستشراق جاء مع كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد (1978)، الذي نقل النقاش من مستوى “ما يقوله الاستشراق عن الشرق” إلى مستوى أعمق: كيف يُنتج الخطاب الاستشراقي الشرقَ ذاته ككيان متخيّل؟ استند سعيد إلى أعمال ميشيل فوكو حول الخطاب والسلطة، ليطرح فكرة أن الاستشراق ليس مجرد مجموعة من الكتب والأعمال الفنية، بل هو خطاب متكامل يربط بين المعرفة والقوة.

في هذا المنظور، يصبح الاستشراق شبكة من النصوص، والصور، والتمثيلات، والمؤسسات الأكاديمية، والسياسات، التي تعمل معاً على إنتاج “شرق” محدد الملامح: شرقٍ غامض، جنسي، استبدادي، متخلّف، يحتاج دائماً إلى توجيه أو إنقاذ أو إدارة من قبل الغرب. هذه الصورة ليست مجرد سوء فهم أو معلومات ناقصة، بل هي بنية متماسكة تخدم دوراً سياسياً واضحاً: تبرير السيطرة الاستعمارية، والتدخل السياسي، وفرض نماذج جاهزة للتقدم والتحضر.

بهذا المعنى، يصبح الاستشراق خطاباً يعمل على مستويين في الوقت نفسه. أولاً: على مستوى المعرفة: يقدم نفسه كعلم موضوعي محايد. ثانياً: وعلى مستوى السلطة: يخدم مشاريع الهيمنة الغربية، عبر تكريس صورة دونية عن الشرق ورفعة عن الغرب.

“الشرق” كاختراع رمزي

من أهم أفكار الاستشراق النقدي أن الشرق، كما يقدمه الخطاب الغربي، ليس “الشرق الحقيقي” بتعقيداته، بل هو شرق مُتخيَّل تم بناؤه عبر عقود من الكتابة، والرسم، والبحث، والسياسة. هذا الشرق المتخيّل يعمل كمرآة عكسية يرى الغرب فيها ذاته؛ فهو يجعل الغرب يبدو عقلانياً، حراً، متقدماً، في مقابل شرق يُقدَّم كمقابل نقيض: عاطفي، مقموع، متخلّف. وبذلك، لا يكون الاستشراق مجرد حديث عن الآخر، بل هو أيضاً طريقة لبناء صورة الذات الغربية عبر مقارنة مستمرة مع “الآخر الشرقي”.

هذا الاختراع الرمزي للشرق يختزل التنوع الهائل للثقافات واللغات والتجارب التاريخية في قالب واحد، ويحوّل مجتمعات كاملة إلى نمط واحد مسطَّح. فالعرب، والفرس، والهنود، والأتراك، والمسلمون، والآسيويون – بكل ما بينهم من اختلافات – يتم دمجهم في صورة واحدة اسمها “الشرق”، كأنهم كتلة متجانسة لها صفات مشتركة ثابتة لا تتغير.

جزء أساسي من قوة الاستشراق أنه تشكّل بالتوازي مع صعود الحداثة الأوروبية وتوسع الإمبراطوريات الاستعمارية. فكلما توسع النفوذ الغربي في الشرق، ازدادت الحاجة إلى معرفة هذه المجتمعات من أجل إدارتها والسيطرة عليها. هنا تبرز فكرة مركزية: المعرفة ليست منفصلة عن السلطة. فالدراسات التفصيلية عن جغرافيا الشرق، وتركيب مجتمعاته، ونُظمه القبلية أو الدينية، لم تكن مجرد فضول علمي، بل كانت أيضاً أدوات عملية لتسهيل السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية.

وهكذا، يمكن القول إن الاستشراق كان جزءاً من البنية التحتية الفكرية للمشروع الاستعماري؛ فبينما كانت الجيوش والأساطيل تتقدم على الأرض، كانت الكتب والأبحاث تُمهّد الطريق، وتمنح هذه السيطرة غطاءً معرفياً وأخلاقياً، عبر تصوير الشرق كمجال يحتاج إلى “تمدين” و“تحديث” و“تحرير” من تخلفه الذاتي المزعوم.

من الاستشراق الكلاسيكي إلى الاستشراق المعاصر

مع نهاية الحقبة الاستعمارية بشكلها المباشر، لم يختفِ الاستشراق، بل غيّر أشكاله. فلم يعد المستشرق اليوم ذلك الباحث الكلاسيكي الذي يجلس في مكتبه يترجم نصوصاً عربية أو فارسية فقط، بل أصبح الاستشراق حاضراً في وسائل الإعلام، والسينما، والأكاديميا، والخطاب السياسي، بل وفي المناهج التعليمية أيضاً. ومع كل أزمة أو حرب أو حدث مرتبط بالشرق، تُعاد تنشيط الصور القديمة، وتظهر مفردات استشراقية في ثوب جديد: “العالم الإسلامي”، “المناطق الخطرة”، “محور الشر”، “حزام التطرف”، وغيرها من التعابير التي تضع الشرق داخل إطار جاهز من الشك والريبة والتهديد.

هذا التحوّل من الاستشراق الكلاسيكي إلى ما يمكن تسميته بـ“الاستشراق المعاصر” يفتح الباب للحديث عن الاستشراق الرقمي بوصفه امتداداً جديداً لهذا التاريخ الطويل؛ فبدلاً من أن تُنتج الصورة في كتاب أو لوحة فقط، باتت تُصنع اليوم عبر الشاشات، والمنصات، والخوارزميات، وهو ما يجعل حضورها أكثر كثافة وانتشاراً وتأثيراً على وعي الجمهور العالمي.

أهمية هذه الخلفية لفهم الاستشراق الرقمي

إن فهم الاستشراق بهذا العمق النظري لا يُعدّ ترفاً فكرياً، بل هو شرط أساسي لفهم كيف تعمل وسائل الإعلام الغربية اليوم في إنتاج “شرق رقمي جديد”. فالصور النمطية التي تظهر في العناوين العاجلة، والتقارير الإخبارية، والأفلام والمسلسلات، ليست معزولة عن هذا التاريخ، بل هي امتداد له داخل سياق تقني جديد. ما تغير هو الوسيط وسرعة الانتشار وكمية البيانات، لكن كثيراً من البُنى الذهنية التي حكمت نظرة الغرب إلى الشرق ما زالت حاضرة، وإن كانت تتخفى خلف لغة أكثر مهنية وموضوعية ظاهرياً.

من هنا، تصبح دراسة الاستشراق الرقمي محاولة لربط الماضي بالحاضر: رصد كيف انتقل خطاب قديم من الكتب والمستعمرات إلى الخوادم الرقمية ومنصات التواصل، وكيف ما زال الشرق يُعاد إنتاجه كصورة أكثر مما يُفهم كواقع. هذه الخلفية النظرية ليست سوى نقطة الانطلاق لقراءة أعمق لكيفية صناعة “شرق جديد” في زمن الإعلام الرقمي، وهو ما سيتناوله المقال في محاوره اللاحقة.

مفهوم الاستشراق الرقمي

يشير الاستشراق الرقمي إلى انتقال الخطاب الاستشراقي التقليدي—الذي كان يُنتج عبر الكتب والرحلات والدراسات الأكاديمية—إلى الفضاء الرقمي، حيث تتولى وسائل الإعلام الغربية، والمنصّات الاجتماعية، ومحركات البحث، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي مهمة إعادة تشكيل صورة الشرق في الوعي العالمي. فوفقاً لتحليلات حديثة، فإن الاستشراق لم يختفِ، بل “اتخذ شكلاً جديداً في عصر الإعلام الرقمي” عبر ما يُسمّى Digital Orientalism، حيث تستمر الصور النمطية القديمة في الظهور، ولكن عبر وسائط أكثر حداثة وانتشاراً.

في هذا السياق، يصبح الشرق منتجاً رقمياً يُعاد تشكيله من خلال آليات تقنية لا تبدو سياسية في ظاهرها، لكنها تحمل في جوهرها تحيزات ثقافية ومعرفية. فخوارزميات المنصّات الكبرى—مثل فيسبوك، يوتيوب، إنستغرام، وتويتر—تعمل على تضخيم محتوى معين وإخفاء آخر، مما يؤدي إلى تكريس صورة محددة عن الشرق باعتباره فضاءً للأزمات، والصراعات، والغرابة الثقافية. وقد أشارت دراسات في مجال الإعلام إلى أن هذه التحيزات الرقمية ليست مجرد أخطاء تقنية، بل امتداد لبنية معرفية غربية ما زالت تنظر إلى الشرق من خلال ثنائية “الغرب/الآخر” التي تهيمن على كثير من التحليلات الإعلامية المعاصرة.

كما يبرز الاستشراق الرقمي في الرقابة على المحتوى، حيث تُظهر تقارير بحثية أن المحتوى العربي أو المتعلق بقضايا الشرق الأوسط يتعرض لحذف أو تقييد أكبر مقارنة بغيره، وهو ما وصفه باحثون بأنه “شكل جديد من الاستشراق في الفضاء الرقمي” نتيجة إخفاقات الحوكمة الرقمية وتحيزاتها البنيوية. هذا يعني أن الشرق لا يُعاد تمثيله فقط عبر الأخبار والصور، بل أيضاً عبر التحكم فيما يُسمح له بالظهور وما يُحجب، مما يجعل المنصّات الرقمية شريكاً في إنتاج “شرق افتراضي” يتوافق مع التصورات الغربية السائدة.

وبذلك، يمكن القول إن الاستشراق الرقمي هو عملية إعادة إنتاج للشرق كصورة أكثر منه كواقع، حيث تتداخل القوة التقنية مع القوة الرمزية لتشكيل وعي عالمي منحاز. إنه استشراق لا يُمارَس عبر المستشرق التقليدي، بل عبر الخوارزمية التي تختار ما نراه، والمنصة التي تحدد ما ينتشر، والإعلام الذي يصوغ سرديات جاهزة عن الشرق. وهذا ما يجعل الاستشراق الرقمي أكثر خطورة من سابقه: فهو غير مرئي، سريع، عالمي، ويعمل تحت غطاء “الحياد التقني” بينما يعيد إنتاج علاقات القوة القديمة في ثوب جديد.

آليات عمل الاستشراق الرقمي

تعمل آليات الاستشراق الرقمي ضمن منظومة معقدة تجمع بين الإعلام، التكنولوجيا، والخوارزميات، بحيث تُعاد صياغة صورة الشرق داخل الفضاء الرقمي بطريقة تبدو “حديثة” لكنها تحمل جذوراً عميقة في الخطاب الاستشراقي التقليدي. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الاستشراق في العصر الرقمي لا يُمارَس فقط عبر النصوص أو التحليلات، بل عبر بُنى تقنية تتحكم في تدفق المعلومات، وتعيد ترتيبها، وتضفي عليها معنى محدداً يخدم رؤية غربية للعالم.

1ـإعادة إنتاج الصور النمطية عبر الإعلام الرقمي

وسائل الإعلام الغربية الرقمية—من المواقع الإخبارية إلى المنصّات الاجتماعية—تستمر في تقديم الشرق ضمن إطار جاهز: الشرق كمنطقة صراعات، وكفضاء للغرابة الثقافية، وكتهديد سياسي أو أمني

هذه التمثيلات ليست عشوائية، بل جزء من ممارسات تأطير إعلامي تُظهر الشرق من خلال عدسة تبسيطية، وهو ما أشارت إليه تحليلات نقدية لخطاب الإعلام العالمي الذي يعيد تدوير الصور النمطية القديمة في سياق رقمي جديد.

2ـ الخوارزميات كأدوات لإعادة تشكيل الوعي

الخوارزميات التي تدير المنصّات الرقمية—مثل فيسبوك، يوتيوب، ومحركات البحث—تلعب دوراً مركزياً في تكريس الاستشراق الرقمي. فهي: تضخّم المحتوى الذي ينسجم مع السرديات الغربية. وتقلل ظهور المحتوى الذي يعرض الشرق بصورة مختلفة. وتفضّل المحتوى المثير أو الصادم، ما يعزز الصور السلبية.

وبذلك، تصبح الخوارزمية فاعلًا ثقافياً يعيد إنتاج الشرق وفق منطق تجاري وسياسي، وليس وفق الواقع. هذا ما تؤكده دراسات تناولت كيفية تشكّل “الشرق الرقمي” عبر آليات تقنية غير محايدة.

3ـ الرقابة الرقمية والتحكم في المحتوى

تشير أبحاث حديثة إلى أن المحتوى المتعلق بالشرق الأوسط أو الصين أو المجتمعات الإسلامية يتعرض أحياناً لرقابة أو حذف أو تقييد أكبر من غيره، نتيجة تحيزات مضمّنة في سياسات المنصّات أو في آليات الإشراف على المحتوى. هذه الرقابة لا تُمارَس دائماً بشكل مباشر، بل قد تكون نتيجة: قواعد غير متوازنة. وأنظمة كشف تلقائي متحيزة. معايير “السلامة” التي تُطبّق بشكل غير متساوٍ. وهكذا، لا يتم فقط إعادة إنتاج الشرق، بل أيضاً إعادة تشكيل ما يُسمح له بالظهور.

4ـ التأطير الخطابي في التحليلات الغربية

التحليلات الغربية للأحداث في الشرق—سواء في الإعلام أو مراكز الأبحاث—تستخدم أحياناً لغة تُعيد إنتاج ثنائية “الغرب المتقدم” مقابل “الشرق المتخلّف”. هذا التأطير يظهر من خلال التغطيات السياسية، والتحليلات الأمنية، ولنقاشات حول التكنولوجيا والرقمنة في الشرق.

وقد أشارت دراسات مقارنة إلى أن هذا التأطير يُعدّ شكلاً من أشكال “الاستشراق الأخلاقي” الذي يقيّم الشرق وفق معايير غربية مسبقة.

5ـ الانتقائية في عرض الأحداث

الاستشراق الرقمي يعمل أيضاً عبر انتقاء ما يُعرض من الشرق، ولتركيز على العنف وإهمال الحياة اليومية، وإبراز التطرف وإخفاء الإبداع، وتضخيم الأزمات وتجاهل النجاحات.

هذه الانتقائية تُنتج شرقاً “مفبركاً” يتوافق مع توقعات الجمهور الغربي، ويعزز سرديات الهيمنة الثقافية. إن الاستشراق الرقمي ليس مجرد خطاب إعلامي، بل بنية تقنية–معرفية تعمل عبر الخوارزميات، التأطير الإعلامي، الرقابة، والانتقائية. إنه استمرار للاستشراق التقليدي، لكن بوسائل أكثر قوة وانتشاراً وتأثيراً.

أمثلة تطبيقية على الاستشراق الرقمي

هذه الأمثلة تُظهر كيف تعمل الخوارزميات، الإعلام، والمنصّات الرقمية على تكريس صورة “شرق جديد” يتوافق مع التصورات الغربية، كما تشير دراسات حديثة تناولت الظاهرة في سياق الإعلام الرقمي.

1 تغطية الشرق الأوسط كمنطقة أزمات فقط

تشير تحليلات نقدية إلى أن الإعلام الرقمي الغربي يركّز بشكل مفرط على الحروب، الإرهاب، والصراعات عند الحديث عن الشرق الأوسط، بينما يُهمل الحياة اليومية، الثقافة، الإبداع، والعلوم. هذا النمط من التغطية يعيد إنتاج صورة الشرق كفضاء دائم للعنف، وهو مثال مباشر على الاستشراق الرقمي الذي يختزل المنطقة في “أزمة مستمرة”.

2 الصور النمطية عن المسلمين في المنصّات الرقمية

تُظهر دراسات أن المحتوى المتعلق بالمسلمين غالباً ما يُقدَّم في سياق التطرف أو الأمن، مما يعزز صورة “المسلم الخطر” أو “المسلم الغريب”. هذا النوع من التمثيل الرقمي يعكس استمرار الصور الاستشراقية القديمة في بيئة الإنترنت الحديثة.

3 التركيز على “غرابة” الثقافات الآسيوية

تشير تحليلات حول “الاستشراق الافتراضي” إلى أن المنصّات الرقمية الغربية تُبرز الثقافات الآسيوية—مثل الصين والهند—كعالم غريب، غامض، أو غير مفهوم، خصوصاً في سياق التكنولوجيا أو السياسة. هذا ما وصفته دراسات بأنه “جغرافيا جديدة للتمثيل” في العصر الرقمي.

4 التحيّز الخوارزمي في نتائج البحث

عند البحث عن كلمات مثل “Arab” أو “Muslim”، تظهر نتائج مرتبطة بالعنف أو الصراعات أكثر من نتائج تتعلق بالثقافة أو الحياة اليومية. هذا مثال على تحيّز خوارزمي يعيد إنتاج الصور النمطية دون تدخل بشري مباشر، لكنه يعكس بنية معرفية غربية.

5 الرقابة غير المتوازنة على المحتوى الشرقي

تشير تقارير بحثية إلى أن المحتوى المتعلق بقضايا الشرق الأوسط يتعرض أحياناً لحذف أو تقييد أكبر من غيره، نتيجة تحيزات في سياسات الإشراف على المحتوى. هذا النوع من الرقابة الرقمية يُعد شكلاً من “الاستشراق الرقمي” لأنه يتحكم فيما يُسمح للشرق أن يقوله أو يظهره.

6 الترفيه الرقمي وصناعة “الشرق المتخيل”

تُظهر أمثلة من السينما والمسلسلات الغربية التي تُعرض على المنصّات الرقمية أن الشرق يُقدَّم غالباً كفضاء مليء بالغرابة، السحر، أو العنف. هذه الصور تُعاد تدويرها رقمياً وتنتشر بسرعة عبر المنصّات، مما يعزز “شرقاً افتراضياً” بعيداً عن الواقع.

نحو تفكيك الاستشراق الرقمي وإعادة بناء السردية

يكشف تحليل الاستشراق الرقمي عن تحوّل عميق في الطريقة التي يُعاد بها تشكيل الشرق داخل الفضاء الإعلامي المعاصر. فبدلاً من الخطابات الكلاسيكية التي كانت تُنتج عبر الكتب والرحلات والدراسات الأكاديمية، أصبح الشرق اليوم يُصاغ من خلال منظومة تقنية واسعة تتداخل فيها الخوارزميات مع سياسات المنصّات وأساليب التغطية الإخبارية. هذا التحوّل لا يعني اختفاء الاستشراق، بل انتقاله إلى مستوى أكثر خفاءً وتأثيراً، حيث تتولى التكنولوجيا مهمة إعادة إنتاج التمثيلات القديمة في قالب جديد يبدو محايداً لكنه يحمل في داخله نفس البُنى المعرفية التي حكمت علاقة الغرب بالشرق عبر قرون.

إن خطورة هذا الشكل الجديد من الاستشراق تكمن في قدرته على الانتشار السريع، وفي تأثيره المباشر على تشكيل الوعي العالمي. فالصورة التي تُبنى رقمياً لا تبقى داخل حدود الإعلام، بل تتحول إلى مرجع ثقافي وسياسي يؤثر في السياسات العامة، وفي تصورات الشعوب، وفي العلاقات الدولية. ومع كل عملية بحث، أو مشاركة، أو توصية خوارزمية، تتكرّس صورة “شرق رقمي” يبتعد عن الواقع، ويقترب من الخيال الذي صاغته القوى المهيمنة.

ومع ذلك، فإن هذا الواقع لا يعني استسلام الشرق لتمثيلات الآخر. فالمشهد الرقمي نفسه يتيح إمكانات واسعة لإنتاج سرديات بديلة، ولإعادة تقديم الذات بعيداً عن الفلاتر الغربية. إن الوعي بآليات الاستشراق الرقمي هو الخطوة الأولى نحو تفكيكه، أما الخطوة التالية فهي بناء حضور رقمي قادر على تقديم الشرق كما هو: متنوعاً، معقداً، نابضاً بالحياة، وغير قابل للاختزال في صورة واحدة.

بهذا المعنى، يصبح فهم الاستشراق الرقمي ضرورة معرفية وأخلاقية في زمن تتشكل فيه الحقائق عبر الشاشات. فالمعركة لم تعد فقط حول من يملك القوة، بل حول من يملك القدرة على رواية القصة.

مقالات مشابهة

  • الاستشراق الرقمي: كيف تصنع وسائل الإعلام الغربية شرقاً جديداً؟
  • حسام فارس رئيساً لاتحاد الرماية العراقي
  • هندوراس تنتخب رئيساً جديداً
  • عبدالله بن زايد: ننشد السلام الوطني متّحدين
  • بالفيديو.. استجابة سريعة لطيران الشرطة لإصابة شخصين في جبال العامرات
  • أخبار التوك شو| أبو العينين: استقرار المنطقة يشجع على الاستثمار.. أحمد موسى: قمة شرم الشيخ مرجعية السلام
  • البرلمان الأوروبي: استضافة مصر لقمة شرم الشيخ للسلام تثبت قدرتها على القيادة وقت المواقف الحاسمة
  • أحمد موسى: قمة شرم الشيخ مرجعية السلام
  • أحمد موسى: الجمعية البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط تشيد بجهود الرئيس لحل أزمات المنطقة
  • محمد بلال رئيسا لنادي سموحة.. الغنيمي نائبا وفتح الله أمينا للصندوق