أخيرا استطعت على مدى بضع ساعات، من يوم السبت الماضي أن أتنفس. فالمشاركة إلى جانب عشرات الآلاف من المتظاهرين في وسط لندن جددت روحي مرة أخرى. وكنت ـ شأن العديد من الفلسطينيين في الخارج ـ قد قضيت الأسبوع وقد صعب عليَّ أن أعمل أو أن أنام، إذ بقيت أشاهد برعب المذبحة التي ترتكبها إسرائيل في حق سكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة.
كان من المزعج أن أرى غياب لغة الإدانة والإجماع السياسي غيابا فاضحا عندما تعلق الأمر بقتل المدنيين الفلسطينيين في مواجهة قوة عسكرية متفوقة بشكل لا مثيل له، مما أفضى إلى القضاء على عائلات وأحياء بأكملها على الشاشات.
فعلى الرغم من قول وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف جالانت، إن إسرائيل «ستقضي على كل شيء» في غزة، وحديثه عن إزالة «القيود» المفروضة على قواته، وعلى الرغم من الخطط المعلنة لهدم مدن بأكملها وتسويتها بالأرض وطرد أكثر من مليون شخص من منازلهم، رفض العشرات من السياسيين البريطانيين مرارا وتكرارا وبصراحة إبداء أي قلق على حياة المدنيين الفلسطينيين. ومثل هذا التجاهل هو الذي يدفع الملايين من الفلسطينيين إلى التوصل إلى نتيجة لا مفر منها: وهي أن حياتهم، مقارنة بحياة الإسرائيليين، أقل قيمة، وأن حريتهم أقل أهمية.
وهو أمر مدهش أيضا عند مقارنته باهتمام الغرب بحياة الأوكرانيين. فقبل عام واحد فقط، اعتبر الاتحاد الأوروبي الإجراءات الروسية بقطع المياه والكهرباء بمثابة جرائم حرب و»أعمال إرهابية محضة». ولكن عندما أعلنت إسرائيل عن سياسة مماثلة لتجويع الشعب وفرض العقاب الجماعي، توجه زعماء الولايات المتحدة وأوروبا إلى إسرائيل إظهارا للدعم. فهل أصحاب البشرة السمراء تافهون إلى هذا الحد؟
رفضت المظاهرات ازدواج المعايير بهذا الشكل وما ينطوي عليه من منطق عنصري وغير إنساني. في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر، طوى النسيان فورا أن إسرائيل، بموجب إجماع القانون الدولي، تظل القوة المحتلة في غزة. وهذا المحو للاحتلال أمر مثير للدهشة لأن الاحتلال الإسرائيلي هو أطول احتلال عسكري في التاريخ الحديث، وقد طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيرا من محكمة العدل الدولية أن تحكم في وضعه القانوني.
لقد كانت هذه اللامبالاة بحياة الفلسطينيين واضحة منذ أمد بعيد: فالحصار القاسي المفروض على غزة قائم ـ في نهاية المطاف ـ منذ ستة عشر عاما. وفي عام 2012، تساءل تقرير للأمم المتحدة عما إذا كانت غزة ستكون صالحة للحياة في عام 2020. وهذا الحصار، كما أكدت تقارير منظمة العفو الدولية و»هيومن رايتس ووتش»، يمثل جزءا لا يتجزأ من نظام هيمنة وفصل عنصري.
لقد زعمت وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا برافرمان، أن شعار «من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة» يمكن فهمه بوصفه «تعبيرا عن رغبة عنيفة في رؤية إسرائيل وقد محيت من العالم». لكن في رأيي أن هذا الهتاف و»فلسطين حرة» لا يدعوان إلى محو إسرائيل، وإنما هما تعبير عن رفض نظام الهيمنة والفصل العنصري.
ولن نجد كثيرين اليوم يمكن أن يعربوا عن دعم لنظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا. ولذلك، في هذا السياق، يكون إعلان هيئة الإذاعة البريطانية تراجعها العلني عن الزعم بأن المتظاهرين كانوا من أنصار حماس موضع ترحاب.
وبعيدا عن النفاق والصمت، فإن ما جعلني أكثر إصرارا على المشاركة في مظاهرة يوم السبت هو المحاولات الكريهة التي بذلتها الحكومة البريطانية للحد من حرية التعبير والحق في الاحتجاج. فالتشريعات التي تحظر محاولات المجتمع المدني للضغط على إسرائيل من خلال مبادرات المقاطعة، والتشريعات التي تقوض الحق في الاحتجاج ورسالة سويلا برافرمان إلى الشرطة قبل مظاهرات نهاية الأسبوع، هي جميعا محاولات لمنع الأشخاص العاديين من أصحاب الضمائر الحية من التضامن مع المقهورين، والمحتلين والمستعمرين.
لقد كان من المشجع أن نرى هذا العدد الكبير من المتظاهرين من جميع الأعمار والخلفيات إذ يظهرون تضامنهم مع الفلسطينيين في غزة، دون أن يردعهم انحياز وسائل الإعلام ومحاولات التجريم.
كما كان من المبهج أيضا رؤية التلويح بالأعلام الفلسطينية خلال المظاهرة، لأنه لا يمكن ولا يجب تجريم التعبير عن التاريخ والهوية الفلسطينية، برغم رسالة برافرمان.
وبينما يحذر خبراء الأمم المتحدة من التطهير العرقي، ويحذر الباحثون من الإبادة الجماعية، تظل هناك حاجة إلى المزيد من المظاهرات لإنقاذ أرواح المدنيين. فمن واجبنا السياسي والأخلاقي أن نوقف الأعمال الوحشية الإسرائيلية وأن نتحرك إلى أن يتمكن الفلسطينيون من العيش بحرية وكرامة في وطنهم.
نمر سلطاني متخصص في القانون العام بجامعة سواس في لندن. وهو مواطن فلسطيني في إسرائيل.
عن الجارديان البريطانية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
برلمانية: الأونروا خط الدفاع الإنساني الأخير عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين ولا بديل عنها
أكدت النائبة فاطمة سليم، عضو مجلس النواب وعضو لجنة حقوق الإنسان، أن البيان المشترك الصادر عن وزراء خارجية كلٍّ من مصر وعدد من الدول العربية والإسلامية يعكس موقفًا دوليًا واضحًا ومسؤولًا في الدفاع عن الحقوق المشروعة للاجئين الفلسطينيين، والتأكيد على الدور الحيوي وغير القابل للاستبدال لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
وشددت النائبة على أن الأونروا تمثل أحد أهم الأعمدة الإنسانية التي يعتمد عليها ملايين اللاجئين الفلسطينيين، لا سيما في مجالات التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والإغاثة الطارئة، مؤكدة أن تجديد ولاية الوكالة بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يعكس ثقة المجتمع الدولي في رسالتها، وضرورة استمرارها إلى حين التوصل إلى حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، وفقًا لقرارات الشرعية الدولية.
وأدانت فاطمة سليم بأشد العبارات اقتحام القوات الإسرائيلية لمقر الأونروا في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، معتبرة ذلك انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي ولقواعد حماية مقار الأمم المتحدة، وتصعيدًا خطيرًا يضاف إلى سجل الانتهاكات المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، ويتعارض بوضوح مع الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية، والذي يؤكد التزام قوة الاحتلال بعدم عرقلة عمل الوكالة، بل تسهيل مهامها الإنسانية.
وفي هذا السياق، أكدت النائبة أن ما يشهده قطاع غزة من أزمة إنسانية غير مسبوقة يجعل من دور الأونروا شريان حياة حقيقي لمئات الآلاف من المدنيين، من خلال توزيع المساعدات وضمان الحد الأدنى من مقومات الحياة، إلى جانب استمرار عمل المدارس والمراكز الصحية في ظل ظروف بالغة القسوة، بما يحفظ كرامة الإنسان الفلسطيني وحقه في البقاء على أرضه.
واختتمت النائبة فاطمة سليم بيانها بالتأكيد على أن دعم الأونروا هو دعم مباشر للاستقرار الإقليمي، وحماية لحقوق الإنسان، داعية المجتمع الدولي إلى توفير تمويل مستدام للوكالة، ومنحها الغطاء السياسي والقانوني اللازم لمواصلة عملها، مشددة على أن إضعاف الأونروا لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يفتح الباب أمام تداعيات إنسانية وسياسية خطيرة تمس المنطقة بأكملها.