لجريدة عمان:
2025-12-13@06:38:23 GMT

تضامن مُشفر

تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT

«فيه مظاهرة الساعة 3 بخصوص فلsطEن، تروحي؟» هذه بالضبط هي الرسالة التي وصلتني من صديقي المقيم مثلي في هنوفر - ألمانيا. والآن أنا أعرف أنه حتما لن يتأذى لو كتب «فلسطين» عوضا عن «فلsطEن»، لكن إن كان هذا يكشف عن شيء، فهي درجة التخوف التي تتجلى في الحذر -الذي يُمكن أن يصل لحدود غير معقولة- من قبل المدافعين عن حق الشعب الفلسطيني في الحياة.

هذا الخوف قادم بالطبع من التضييق على أصحاب الرأي الآخر في ألمانيا، ونعت أي مدافع عن حقوق الفلسطينيين بالإرهابي والمعادي للسامية.

في الإعلام الألماني يتم التشديد على نحو مضلل على دور حماس في الوضع غير الإنساني بغزة، يُقتطع ما فعلته المقاومة من السياق العام للأشياء. فبدل أن ينظر إليه على أنه ردة فعل لسنوات من الظلم تجاه سكان غزة، يُنظر لأفعال المقاومة على أنها حافز لحرب كان يُمكن تلافيها، لولا تعطش الإرهابيين للدماء، وما يُطلق عليه المقاومة الفلسطينية ما هو إلا شر قادم من وحشية أصيلة فيهم، حسب هذه السردية.

ثمة مثال آخر أقل جدلية يُمكن الاستعانة به لتمثيل مدى جحافة هذه السردية. كتبتُ قبل أشهر عن إضرابات عمال القطارات في بريطانيا. تمت شيطنة المضربين، واعتبار ما يفعلونه متسببا أساسيا في الخسارات الاقتصادية، والخسارات في الأرواح، فالملوم عندما تتدهور حالة مريض أو يموت لأنه لم يتمكن من الوصول إلى المستشفى في الوقت المناسب- هو سائق الترام الذي لم يقم بما يُتوقع منه ذلك اليوم. وضع الأمور بهذه الطريقة يتجاهل تماما أن الإضرابات جاءت بعد سلسلة من المفاوضات الطويلة، ورفض الحكومة الاستجابة للمطالب المشروعة بتوفير العيش الكريم لموظفي الخدمات العامة.

هذا تماما ما يحدث اليوم، إذ يتم التغاضي عن خلفيات ومقدمات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإهمال السلسلة الطويلة من المسببات والنتائج، واعتبار ما حدث في السابع من أكتوبر اعتداء غير مفهوم المبررات. دون الإشارة إلى الاحتلال والحصار الممتد لعقود والذي تُخالف به إسرائيل القوانين الدولية (إن لم يكن ثمة بوصلة أخرى تُرشدنا إلى أن القتل والتهجير أمر غير خيِّر).

أي فعل عنيف يُمكن إدانته بطبيعة الحال، لكن حتى لمن يؤمنون بهذا فإدانة حماس لا تتعارض مع إدانة ما تفعله إسرائيل، والتركيز الإعلامي على سحب كلمات الإدانة من أفواه مناصري القضية الفلسطينية، يقوم في الغالب على تحيز، فالتعليق التالي قليلا ما يكون عن إدانة أفعال إسرائيل.

مع قصف مستشفى المعمداني، تُشير مادة إعلامية (منشورة على DW) مثلا إلى أنه تم قصف مستشفى تُشغله حماس. انتقاء الكلمات على هذا النحو، يُحول التركيز من الأمر الأساسي (استهداف مستشفى وقتل المئات من المرضى، النازحين، وأعضاء الطواقم الطبية)، إلى الأمر الآخر وهو أنه تحت إدارة حماس (يتجاهل هذا بالطبع حقيقة أن المستشفى في الواقع يتبع الكنيسة الأنجليكانية في القدس).

الأمر الآخر، يتم التحدث عن المجزرة وكأنها لغز دفين لا يُعرف من المسؤول عنه، أو كيف حدث؟ تتم إدانته، والمطالبة بتحميل الفاعل المسؤولية ويتم كل هذا على نحو غامض يُراد منه الإشارة إلى أن الفاعل غير معروف وغير إسرائيلي على الأغلب.

عندما يُوجد الواحد منا في هذا الجو، جو المساندة غير المشروطة لإسرائيل، فإنه لا بد وعلى نحو أوتوماتيكي ربما يشعر بالتهديد. القادمون من خلفيات كخلفياتنا (من الشرق الأوسط أعني)، معتادون على التعامل مع السلطة التي يُعارضونها في كثير من الأمور، وهم معتادون على رؤية الثمن يُدفع لمن يتشجع ويتحدى السلطة. رغم هذا ورغم أنه من غير المحتمل (حتى لا أقول مستحيلا)، أن تتجسس السلطة الألمانية على ما يكتبه صديقي في تليجرام، وأقل ترجيحا منه اتخاذ موقف معتمد على رسائله إلا أن صديقي ودون شعور يجد نفسه يتصرف بالطريقة الآلية التي اعتاد عليها في مثل هذه الحالات. وهو قد يضحك عندما ألفت انتباهه لفوبياه غير المبررة. إلا أن حقيقة واحدة ستبقى: الخوف الذي يُنتجه التحيز الكامل وغير المشروط للجانب الإسرائيلي.

الحقيقة أنني ومنذ اندلاع الحرب وأنا أتجنب الحديث عن الموضوع. أفهم أن الوضع الألماني بهذا الخصوص معقد، كما أفهم أن الخطوة الأولى لتغييره هي عبر المناقشات المضنية والطويلة مع الآخرين. لكن هذه المناقشات تأتي بثمنها، إذ يسهل فيها أن تتعرض للمضايقات، وهي يجب أن تقع ضمن قالب صوابي يصعب احترافه في ظل ظروف مستفزة كهذه.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الوجوه المتعددة للبذاءة (2)

د. ناهد محمد الحسن

لم تولد البذاءة ثورية، ولم تُخلق لتكون شعارًا سياسيًا أو صوتًا للجماهير. لكن عندما تشتدّ الأزمات، يعاد ترتيب وظائف الأشياء، وتجد الكلمات المنفية إلى حواف اللغة طريقها فجأة إلى مركز الساحة. ولكي نفهم البذاءة في سياق المقاومة، لا بد أن نستدعي أعمق نقد وُجه للّغة. وهو النقد الذي قدمه ماركس، وإنجلز، وتروتسكي لما يسمّى بالأخلاق البرجوازية. فالأدب الاجتماعي يخبرنا أن “التهذيب” لم يكن يومًا قيمة محايدة. كأن طبقة كاملة من القواعد صُمِّمت لتقول من يحق له الكلام، وكيف يجب أن يتكلم، وعلى أي نبرة، وضمن أي حدود. بهذه القواعد، تُحكم المجتمعات دون شرطة، ويُربّى الناس على احترام كلمات معينة وتجنّب أخرى،

لا بدافع الأخلاق… بل بدافع السلطة. “فالطبقة التي تملك الامتيازات تملك أيضًا حق تعريف “اللغة المهذّبة”، ومن يخرج عن لغتها، يخرج عن طاعتها. هنا تمامًا يظهر معنى استخدام البذاءة كسلاح مقاومة. إنها ليست رغبة في “التدنّي”، بل رغبة في نزع قدسية اللغة التي حصرت الحقيقة في يد الأقوياء. ولهذا قال تروتسكي  رأيًا جوهريًا:

إن البذاءة حين تخرج من أفواه المقهورين لا تشرح يأسهم، بل تشرح وعيهم بما فُرض عليهم.

يرى عالم الإجتماع إرفنغ غوفمان أن المجتمع يشبه مسرحًا كبيرًا. في واجهته الأمامية الناس مؤدّبون، منمقون، خاضعون للسياق. بينما يقبع في واجهته الخلفية الغضب، السخط، الخوف، التناقضات. السلطة تريد من الناس أن يظلّوا على الواجهة الأمامية دائمًا. أن يبتلعوا الظلم بهدوء. أن يتحدثوا بلغة مهذّبة حتى وهم يُعذبون. لكن الثورات لا تقوم على المسرح الأمامي.

الثورات تبدأ حين يقتحم الناس الواجهة بالكلمات التي كانت محصورة في الخلفية. وهنا يتضح دور البذاءة. فالبذاءة هي اللحظة التي يسقط فيها الستار. ويظهر الواقع كما هو دون تجميل. وتفسد اللعبة الاجتماعية. لهذا تخشاها السلطة…لأنها تكسر وجودها الرمزي قبل وجودها العسكري. تحوّل الزعيم إلى رجل، والشرطة إلى أفراد، والدولة إلى جهاز قابِل للنقد.

 

في السودان، لم يكن شعار “تسقط بس” بذاءة، لكنه كان كسرًا للنبرة الرسمية. أما البذاءات التي لحقت به في الشوارع فكانت…تمرّدًا على اللغة التي طالبت الناس بالانحناء قبل التفكير.

تُظهر التجارب النفسية أن الخوف يُفقد الإنسان قدرته على الكلام المنظّم. البذاءة تظهر عندما يبدأ الحاجز العصبي بين الخوف والصوت في التهشّم. في الأنظمة السلطوية، يُربّى الناس على الصمت. يُعلَّمون أن الكلام مخاطرة. وأن الغضب يحتاج إذنًا. وأن الاعتراض يجب أن يكون “محترمًا” لكي يُسمع. لكن الانفجار الأول للحرية ليس هتافًا مهذّبًا. إنه كلمة حادّة، بسيطة، محرّمة، تنجح في اختراق الصمت لأن الجهاز العصبي نفسه يدفع بها إلى الخارج.

وهذا يفسّر شيئًا مهمًا؛ ان الجماهير لا تختار البذاءة لأنها جريئة، بل لأنها الكلمة الوحيدة القادرة على حمل الانفعال عندما تضيق اللغة المهذّبة. البذاءة هنا ليست إساءةبل استعادة لسلطة الصوت.

حين تتراكم كل هذه الطبقات، اللغة، الطبقة، التمثيل الاجتماعي، علم النفس، يتحوّل معنى البذاءة. لتصبح دفاعًا عن الحق في الكلام. انحيازًا للحقيقة العارية على حساب التجميل. رفضًا للمقام اللغوي الذي تفرضه السلطة. نقطة التحوّل من الخوف إلى الجرأة.

تاريخيًا، استخدمت المجتمعات البذاءة حين ينهار العقد الاجتماعي، أو يتوحّش الاستبداد، أو تصبح اللغة الرسمية عقبة أمام قول الحقيقة. في تلك اللحظة، لا يعود للكلمة البذيئة معناها الأخلاقي، بل معناها السياسي: أن أستعيد حقي في اللغة لكي أستعيد حقي في العالم.

 

نواصل. عن البذاءة كأداة مقاومة

 

 

 

الوسومناهد محمد الحسن

مقالات مشابهة

  • السلطة المحلية في لحج تنعي المناضل سيف صائل
  • إعلام فنزويلي يثني على تضامن اليمن: موقف شجاع يجب أن يقتدي به العالم التقدمي
  • حمزة العيلي يساند أحمد رفعت: مينفعش يقعدوا سنوات بلا عمل استغلّوهم يا أساتذة
  • 30 قتيلا في غارة للجيش على مستشفى بميانمار
  • تضامن الوادى الجديد: قوافل طبية مجانية لأهالى الخارجة وباريس
  • تضامن أسوان والأورمان يسلّمان 7 سماعات طبية للأسر الأكثر احتياجًا
  • تضامن أسوان: تسليم 7 سماعات طبية لذوى الهمم
  • حماس: استشهاد الأسير السباتين دليل على سياسة القتل البطيء التي ينتهجها العدو الاسرائيلي بحق الأسرى
  • الوجوه المتعددة للبذاءة (2)
  • “حماس”: استشهاد الأسير السباتين دليل على سياسة القتل البطيء التي ينتهجها العدو الاسرائيلي بحق الأسرى