ميزان الاقتصاد العُماني (2- 2)
تاريخ النشر: 31st, October 2023 GMT
د. يوسف بن حمد البلوشي
yousufh@omaninvestgateway.com
نستكمل اليوم الحديث عن الكفة الثانية لميزان الاقتصاد العُماني بشيء من التفصيل والتحليل، من خلال التركيز على بعض المؤشرات المعنية بدخول الأموال والعملة الصعبة إلى الاقتصاد العُماني، مقابل الطلب العالمي على السلع والخدمات المُنتَجَة في سلطنة عُمان، والتي نستعرضها في هذا المقال، وندعو إلى تعظيمها، كما تعكسها البيانات المتوفرة في تقرير البنك المركزي لعام 2022.
البداية من المصدر الأهم المُتمثِّل في الصادرات بمُختلف أنواعها؛ حيث تُعد قضية تعزيز الصادرات أحد أهم التحديات الاقتصادية التي تواجه السلطنة؛ كونها مُكمِّلًا للعملية الإنتاجية، فبدون التصدير يظل الإنتاج المحلي حكرًا على السوق المحلية الصغيرة نسبيًا، ومن ثم عدم تمكُّنه من تحقيق الزيادة المرجوة في الدخل القومي.
الإحصاءات تشير إلى أن سلطنة عُمان صدَّرت سلعًا خلال السنوات الثلاثة الأخيرة (2020- 2021- 2022) بقيمة 12.9، و17، و25.4 مليار ريال عُماني على التوالي؛ بارتفاع بنسبة 49% خلال عام 2022. وعند استعراض تفاصيل هذه الصادرات لعام 2022، نجد أنها تنقسم إلى ثلاث مجموعات؛ الأولى: مرتبطة بالنفط والغاز، وهذه حققت زيادة مطردة؛ حيث بلغت صادرات النفط الخام 11.6 مليار ريال، والمُصفَّى 1.8 مليار ريال، والغاز 3.1 مليار ريال عُماني. وترجع هذه الزيادة بشكل الرئيسي إلى ارتفاع أسعار النفط التي بلغت في المتوسط 95.4 دولار للبرميل، لعام 2022، بالمقارنة مع 64.3 دولار للبرميل لعام 2021، بزيادة قدرها48.4 %، إضافة إلى زيادة كمية الإنتاج.
وهنا نطرح عددًا من التساؤلات: لماذا لا يُضاعف الإنتاج من مليون إلى 3 ملايين برميل يوميًا، مع مُضاعَفة كميات الغاز المُنتَجَة، خاصة وأننا نتشارك جغرافيًا مع دول الخليج وعلى حدود طويلة مع المملكة العربية السعودية التي تنتج حوالي 12 مليون برميل، ودولة الإمارات التي تنتج 3 ملايين برميل وتستهدف إنتاج 5 ملايين برميل في المرحلة المقبل.. وهل قمنا فعلًا باستنفاد جميع البدائل مع شركائنا الاستراتيجيين وتوظيف المُكوِّن التكنولوجي والخبرات الوطنية والمساحات الشاسعة برًا وبحرًا. ومن جانب آخر، لماذا لا نحِد من تصدير النفط والغاز كمادة خام ونستغله في بناء صناعات للشق السفلي تزيد من قيمتها أكثر من 16 ضعفًا حسب بعض الدراسات لإنشاء تجمعات صناعية متكاملة لمنتجات الألمنيوم والبلاستيك وغيرها، خاصة ونحن في طور تحقيق رؤية طموحة تسعى لزيادة القاعدة الإنتاجية وتعزيز القيمة المحلية المضافة والاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والتي حتمًا ستخلق المزيد من فرص العمل وفرص الاستثمار وتكبر من حجم الاقتصاد وتحقق الاستدامة المالية والاقتصادية والاجتماعية.
أما المجموعة الثانية؛ فهي الصادرات غير النفطية العُمانية المنشأ؛ حيث بلغت خلال السنوات الثلاثة الأخيرة (2020- 2021- 2022) بقيمة 4.1، و5.8، و7.5مليار ريال عُماني؛ بارتفاع بنسبة 29% خلال عام 2022. وهذه زيادة مُهمة، لكن مع ذلك لا تتجاوز حصة الصادرات غير النفطية 30% من إجمالي الصادرات، علمًا بأن معظمها مرتبطة بقطاع البتروكيماويات المرتبط هو الآخر بقطاع النفط.
وهنا نشير إلى أن ترتيب سلطنة عُمان قد سجل تراجعًا في مؤشر "التعقيد الاقتصادي" بواقع 4 مراتب؛ ليصل إلى 73 حسب تقرير عام 2022، وذلك من بين 134 دولة، كما سجَّل ترتيبنا تراجعًا في مؤشر الابتكار العالمي؛ حيث جاءت في المرتبة 79 من بين 132 دولة في العام 2022م.
وحريٌّ بنا قراءة مُؤشر التعقيد الاقتصادي الذي طوَّره باحثون في جامعة هارفارد؛ وهو مقياس شامل لخصائص الإنتاج في بلد مُعين يُوضِّح حجم المعرفة المتراكمة في ذلك البلد والتي تُترجِم في قدرته على مواصلة الابتكار والإنتاج والتصنيع، وتُقاس هذه المعرفة من خلال تقييم مدى تنوّع وتطوّر سلة المنتجات الصناعيّة للدولة والتي تمكنها من المنافسة وتقود إلى ازدهارها. لذلك، هناك علاقة طردية بين كمية المعرفة الإنتاجية الموجودة في المجتمع وعدد المنتجات التي يستطيع هذا المجتمع إنتاجها. وهناك علاقة إيجابية بين درجة التعقيد الاقتصادي وزيادة الناتج المحلي الإجمالي، وهناك عاملان يؤثران على مؤشر التعقيد الاقتصادي للدولة؛ يكمن الأول في التنوع، والذي يُدلِّل على عدد المنتجات التي يمكن أن ننتجها في عُمان. فيما يكمُن الثاني في الوفرة التي تدل على مدى انتشار منتج معين بين دول العالم.
ننتقل الآن إلى المكون الثالث من الصادرات، وهو إعادة التصدير؛ والذي يُدلِّل على نشاط ومكانة الموانئ العُمانية والإمكانات اللوجستية والبنية الأساسية للنقل ووضع السلطنة كلاعب مهم في سلاسل التجارة العالمية، وهناك الكثير من الآمال معقودة عليه في تحسين قدرات الاقتصاد واستغلال الموقع الجغرافي المتميز للسلطنة في القيام بدور حيوي في مجال توزيع السلع في المنطقة وخارجها. وتُظهر الأرقام أن قيمة إعادة التصدير حققت نتائج متواضعة؛ حيث تراجعت من حوالي 1.8 مليار ريال عُماني في عام 2020م إلى حوالي 1.3 مليار ريال عُماني في كل من عامي 2021 و2022. ولو قارنَّا هذه الأرقام بتلك المتوفرة في عام 2015، نجد أنَّ قيمة السلع المُعاد تصديرها حققت نموًا كبيرًا في تلك السنة؛ حيث بلغت 2.6 مليار ريال عُماني، وهذا يعكس التراجع الكبير في هذا القطاع، وأنه لم يصل للمستوى المطلوب في مساهمته في تدعيم الاستراتيجية الرامية إلى تنويع مصادر الدخل، خاصةً في ضوء وجود موانئ الحاويات الضخمة في كل من صلالة وصحار والسويق، إضافة إلى منطقة الدقم الاقتصادية الخاصة والتي جميعها تتمتع بمواقع فريدة ولا تزال تحوي قدرات متاحة غير مستغلة؛ بما يمكنها بكل جدارة من المنافسة إقليميًا وهو ما يستدعي عمل الحكومة المزيد لتعزيز تنافسية الموانئ العُمانية.
وعلى صعيد حساب الخدمات، تشير الإحصاءات في ميزان المدفوعات إلى ان متحصلات السلطنة من الخدمات التي قدمتها للعالم خلال السنوات الثلاثة الأخيرة (2020- 2021- 2022) بلغت 0.86، و0.86، و1.4 مليار ريال عُماني على التوالي. ومن أهم بنود المتحصلات لعام 2022، متحصلات بند السفر (غالبيته مدفوعات غير المقيمين مقابل خدمات السياحة) والتي لم تتجاوز 604 ملايين ريال عُماني على الرغم من الإمكانيات السياحية الكبيرة التي تتمتع بها السلطنة وهو الأمر الذي يستدعي تطبيق الاستراتيجيات اللازمة.
أما في المرتبة الثانية، فتأتي متحصلات بند خدمات النقل، والتي بلغت ما يقارب 454 مليون ريال عُماني، وهو رقم متواضع يجب أن يحقق هو الآخر قفزات نوعية، في ظل ما استثمرت السلطنة من مبالغ ضخمة في إنشاء الطرق والموانئ والمطارات. ومن ثم تأتي خدمات الاتصالات والخدمات المتصلة بها بقيمة 100 مليون ريال عُماني، وخدمات التأمين بـ25 مليون ريال عُماني، والخدمات المالية بـ7 ملايين ريال عُماني، وخدمات أخرى بقيمة 193 مليون ريال عُماني. ولا تزال هذه الحصيلة لاقتصاد الخدمات متواضعة، إذا ما قورنت بالامكانيات المتاحة.
هناك قناة أخرى قد تكون مهمة لدخول الأموال إلى السلطنة وترتبط بإيجاد علاج للباحثين عن عمل؛ وهي تحويلات العُمانيين العاملين في الخارج إلى السلطنة؛ فهي تكاد لا تُذكر، وهو ما قد يُعزى إلى ضآلة حجمها، وبالتالي عدم تغطيتها إحصائيًا. ولا شك أن هناك فرص عمل كبيرة في دول الخليج في قطاعات الصحة والبنوك والتعليم والنفط والغاز، وهناك أهمية لتجسير الهوة بين تلك الوظائف والأعداد الكبيرة من الشباب العُماني الباحث عن عمل في مُختلف القطاعات الإنتاجية في دول الخليج، وايجاد قنوات للتوظيف، وهذا لا يعني الانتقاص من شبابنا فهم يعملون في وظائف جيدة. وهناك آمال كبيرة معقودة على دور سفاراتنا لدراسة هذه الاقتصادات والفرص المتاحة فيها. كما نشير إلى أنَّه على الحكومة في إطار سعيها لبناء قدرات شبابنا، أن تتبنى برامج تستهدف إرسال عدد من الفنيين العُمانيين سنويًا إلى عدد من المصانع خارج السلطنة؛ لتحقيق جملة من الأهداف؛ أهمها: تعلُّم أساليب العمل وبيئة الأعمال الدولية؛ سواء من خلال استثمارات وشركاء جهاز الاستثمار العُماني أو من خلال فروع المصانع الموجودة في السلطنة.
ننتقل الآن إلى مصدر آخر لدخول الأموال إلى الاقتصاد العُماني، ويتمثل في أرباح شركاتنا العُمانية العاملة في الخارج. وهذه الأرباح متواضعة للغاية وتستوجب دورًا مُهمًا من غرفة تجارة وصناعة عُمان لمساعدة الشركات المحلية على الانطلاق نحو العالمية وفتح آفاق أرحب للنمو، وليس ذلك بسبب صغر حجم السوق المحلي فقط، وإنما لوجود فرص واعدة في الأسواق العالمية، خاصة ونحن جزء من المنظومة الخليجية التي تعج بالنشاط والديناميكية. لكن الأمر يستوجب إعداد استراتيجيات توسُّع نحو العالمية، وتعظيم دور الغرفة والاستفادة من زيارة وفودها للدول المختلفة والالتقاء بسفراء مختلف الدول؛ فالغرفة هي بيت الشركات المحلية والمعنية بتهيئة الظروف لتقدمها، وعليها أن تسعى لصناعة شركات محلية قوية من خلال تشجيع عمليات الاستحواذ والاندماج بين الشركات، لإيجاد كيانات كبيرة قادرة على امتصاص الصدمات والخروج للعالمية، ومن ثم تحويل أرباحها للاقتصاد العُماني.
هناك قناة مفصلية لدخول الأموال تتسابق عليها الدول وتعمل على تطويع تشريعاتها لاجتذابها، وهي الاستثمارات الأجنبية، وخاصة الاستثمار الأجنبي المباشر المعني ببناء قواعد إنتاجية بخبرات ورؤوس أموال أجنبية، والإحصاءات تشير إلى أنه بالرغم من الجهود الكبيرة المبذولة والتحسن النسبي في هذا المجال لكن حصاد السلطنة من الاستثمار الأجنبي لا يزال متواضعًا- كمًا ونوعًا- بالنظر إلى الفرص والموارد المتاحة، ولا تزال متركزة بأكثر من 65% في قطاع النفط والغاز، وجغرافيًا يأتي ما يقرب من 60% من الاستثمار الأجنبي المباشر في عُمان من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. هذا الأمر يستدعي مزيدًا من الحوافز الذكية لترويج الاستثمار في ظل المنافسة العالمية والإقليمية المحتدمة، ولتسويق السلطنة كوجه مثلى للاستثمار ووضعها في شاشات المستثمرين العالميين، ولا مناص من وضع الاستراتيجية الوطنية للاستثمار وغيرها من الاستراتيجيات موضعَ التنفيذ لخلق الانسجام والتنسيق المطلوب في إدارة ميزان الاقتصاد العُماني المتداخل.
قبل الختام.. نذكُر أن تحقيق معدلات مرضية للتنمية الاقتصادية في السلطنة كغيرها من الدول يتطلب وجود تنسيقٍ تامٍ ومتبادلٍ بين قطاع التجارة الخارجية والقطاعات الإنتاجية المختلفة؛ وذلك من خلال وضع الواردات في خدمة الصادرات والصادرات في خدمة التنمية الاقتصادية. ولا مناص من ضرورة تفعيل الاتفاقيات الدولية وأدوار السفارات لتعزيز المكانة الاقتصادية ودعم تنافسية المنتجات العُمانية، وكذلك زيادة حصاد السلطنة من جذب الاستثمار الأجنبي المباشر. وهناك ضرورة لمزيد من البحث والابتكار لدراسة هيكل الواردات وهيكل الصادرات العُمانية للوصول إلى عدد من السلع التي يمكن التركيز عليها من خلال الفترة المقبلة؛ لتكون القاعدة الإنتاجية للاقتصاد العُماني والتي يجب أن تنصب جهود التنمية عليها في المستقبل، بحيث يتم التركيز على التصنيع كخيار استراتيجي للسلطنة. وكل ذلك مرهون بالدرجة الأولى بتنشيط وتفعيل دور شركات القطاع الخاص وتقديم الممكنات الضرورية. ويُظهر لنا التحليل ضرورة تحسين الإحصاءات المحلية المُرتبطة بميزان الاقتصاد العُماني واحصاءات المرتبطة بالقطاع الخاص، حيث ان المعلومات والبيانات الدقيقة التي تصدر بانتظام هي نقطة البداية للانطلاقة الصحيحة في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار
وفي الختام.. وبالتزامن مع إعلان نتائج انتخابات مجلس الشورى، نبارك لجميع الإخوة المُنتَخَبين مُمثلي المجتمع، ونُذكِّر بدورهم المُهم والمفصلي في الجانب التشريعي والتنظيمي، الذي يعد مكونًا مُهمًا مع أدوار المؤسسات والأجهزة الحكومية، وندعو الأعضاء الجُدد لقراءة مضمون ميزان الاقتصاد العُماني بأبعاده المختلفة. ونؤكد هنا أن تحليل ميزان الاقتصاد العُماني يُوضِّح بشكل جليّ حجم الفرص الواعدة والمساحات المتاحة لتحقيق تحسينات مُهمة في كفتي الميزان، من خلال إدارة قنوات دخول وخروج الأموال في الدورة الاقتصادية المحلية، والعمل على زيادة درجة استقرارها لتعظيم مُضاعِف ومتانة الاقتصاد، وإيجاد صناعات محلية قادرة على خلق فرص عمل للعُمانيين، وتعظيم الاستفادة من المكانة الرفيعة للسلطنة بين الأمم لجذب استثمارات. إلى جانب ضرورة إعادة هندسة الاقتصاد العُماني بالتركيز على محورين يجب العمل عليهما، الأول: يتمثل في تمكين تحول عميق في الأدوار بين الحكومة وشركات القطاع الخاص، بحيث تنتقل الحكومة من كونها المحرك والمشغل والمستثمر الرئيسي والمولد لفرص العمل، إلى التركيز على تهيئة بيئة الاعمال والأُطر الضامنة لحُسن استغلال الجاهزية وتوافر البنية الأساسية والموارد البشرية والطبيعية، والاعتراف بوجود القطاع الخاص ودوره المفصلي في تشغيل محركات الاقتصاد نحو المزيد من الاستثمار والإنتاج والتصنيع والتصدير وتقديم الخدمات وهي أدواره الاصيلة. أما المحور الثاني فيتمثل في معالجة الاختلالات الواضحة في عناصر الإنتاج، وخاصة الحصول على راس المال والتمويل بتكلفةٍ واشتراطاتٍ مناسبة، وكذلك توافر العمالة بالمهارات والخبرات المناسبة، وضرورة تجنب ضبابية المواقف وإيجاد السياسات والأُطر المُحفِّزة على الاستثمار في موارد الأرض المختلفة، واتخاذ الإجراءات الضرورية لتخفيض تكاليف التشغيل وتحفيز الطلب والعرض المحلي.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ما بعد التبعية: تغير ميزان القوة بين واشنطن وأوروبا
لعقودٍ طويلة، ظلت الولايات المتحدة تحثّ حلفاءها في حلف الناتو على زيادة مساهماتهم الدفاعية. ومع انعقاد قمة الناتو لعام 2024 في واشنطن، بدا أن الرسالة وصلت أخيرًا: فقد خصّصت 23 دولة من أصل 32 عضوًا في الحلف 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، وهو الهدف المحدد من قبل الناتو، مقارنةً بست دول فقط في عام 2021. أرجع العديد من المحللين هذا التحول إلى عامل رئيسي: دونالد ترامب، فرغم الانتقادات الواسعة التي واجهها أسلوبه الحاد تجاه الأوروبيين خلال فترتيه الرئاسيتين، فإن لهجة ترامب المتشددة حيال «تقاعس» أوروبا عن تحمل عبء الدفاع، لعبت دورًا في دفع دول الحلف إلى مراجعة سياساتها. ومع ذلك، فإن التحول في الإنفاق لم يبدأ مع ترامب، بل سبق ظهوره السياسي بسنوات.
فطوال أكثر من عقد، ظلّ حلفاء الناتو يتعاملون بجدية مع التهديد الروسي المتنامي للأمن الأوروبي. وشكّلت الحرب الروسية الأوكرانية نقطة تحوّل واضحة، ترافق ذلك مع تراجع ملحوظ في تركيز واشنطن على أوروبا وتحوّل اهتمامها نحو آسيا. دفعت هذه العوامل مجتمعة أوروبا إلى تعزيز إنفاقها الدفاعي، وزيادة المشتريات والإنتاج، في مسار تصاعدي ساعد القارة على بناء جيوش أكثر فاعلية قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض في 2025 - وهو اتجاه يُرجَّح أن يستمر حتى بعد مغادرته منصبه.
إعادة انتخاب ترامب لم تكن السبب بقدر ما كانت بمثابة تأكيد على تحوّل أعمق: الأوروبيون باتوا يدركون أن الولايات المتحدة تمرّ بتحوّل جذري، ولم يعودوا واثقين من أن الاعتماد على القيادة الأمريكية يخدم مصالحهم.
زيادة الإنفاق الأوروبي على الدفاع تُعدّ، من جوانب كثيرة، خبرًا سارًا للولايات المتحدة. فمع تصاعد قدرات القارة الدفاعية، تستطيع واشنطن الآن أن تُركّز أولًا على الصين، ثم روسيا. ولهذا السبب، كان رؤساء أمريكيون من كلا الحزبين يضغطون منذ سنوات على أوروبا للقيام بالمزيد.
لكن قبل أن يُسارع المسؤولون الأمريكيون إلى تهنئة أنفسهم، عليهم إدراك أن لهذا «النجاح» ثمنًا. فتعاظم القدرات الأوروبية يعني نهاية مرحلة القيادة الأمريكية المريحة. أوروبا باتت تعتمد على نفسها أكثر، وستشعر بضغط أقل لمجاراة مصالح واشنطن، وستكون أقل ميلاً لشراء الأسلحة الأمريكية، وربما تحدّ من استخدام القواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها في عمليات خارجية تشمل إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. بل إن بعض المواقف الأوروبية، خصوصًا بشأن الحرب في أوكرانيا، بدأت تُقيّد حرية واشنطن في التحرك، على نحو لم يكن واردًا في السابق.
لا يعني تغيّر موازين القوى بين ضفّتي الأطلسي أن التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا محكوم عليه بالانهيار. فلا تزال هناك مصالح مشتركة قوية تدفع الطرفين للتعاون. غير أن هذه الشراكة لم تعد تُفترَض تلقائيًا؛ بل على واشنطن أن تسعى لكسبها من جديد، خاصة في ظل التحديات العالمية المتعددة التي تواجهها منذ نهاية الحرب الباردة. وللتعامل مع هذه التهديدات -من بكين إلى موسكو وطهران- ستحتاج الولايات المتحدة إلى أوروبا، لكن أوروبا مختلفة: أكثر قوة وثقة واستقلالية.
كان الأمن الأوروبي والأمريكي متداخلين إلى حدّ لا يسمح بفصلهما. ورغم أن اختلال عبء الإنفاق الدفاعي لطالما شكّل مصدر توتر داخل الناتو، فإن قيادة الولايات المتحدة كانت آنذاك منطقية وضرورية.
اليوم، ومع تغيّر الواقع الجيوسياسي وارتفاع كلفة القيادة الأحادية، على واشنطن أن تختار: إما شراكة عادلة تحترم مصالح أوروبا، أو مخاطر خسارة النظام العالمي لصالح قوى استبدادية صاعدة.
لم تحصل الولايات المتحدة مقابل حمايتها لأوروبا على نظام عالمي مستقر فحسب، بل حصدت أيضًا مجموعة كبيرة من المكاسب العسكرية والسياسية والاقتصادية. فمن خلال أكثر من 30 قاعدة عسكرية موزعة في أوروبا، ضمنت واشنطن قدرة شبه مطلقة على استخدام المجال الجوي والممرات المائية الأوروبية لدعم عملياتها حول العالم، وفق اتفاقيات «الوصول والتمركز والتحليق الجوي» (ABO) التي غالبًا ما تكون بشروط سخية.
استغلت واشنطن هذه القواعد مرارًا: في 1973 استخدمت قاعدة في جزر الأزور لدعم إسرائيل خلال حرب أكتوبر، رغم المخاطر الاقتصادية؛ وفي 2001 حصلت على إذن أوروبي لاستخدام القواعد والمجال الجوي في عمليات أفغانستان؛ وحتى في 2003، ورغم المعارضة لحرب العراق، سمحت دول أوروبية باستخدام قواعدها أو على الأقل بمرور الطائرات الأمريكية، باستثناء فرنسا التي تعرّضت لانتقادات داخل الحلف. هذه المرونة تكشف كيف خدمت القيادة الأمريكية مصالحها حتى عند الاختلاف.
وتُشكّل هذه القواعد أيضًا خط دفاع رئيسي ضد تهديدات كالغواصات الروسية في شمال الأطلسي، إذ تعتمد واشنطن على تعاون دول مثل النرويج والدنمارك والمملكة المتحدة لرصد أي تحركات عبر فجوة GIUK الحساسة. فضلًا عن ذلك، تؤمّن واشنطن تفوقها العسكري عبر مبيعات الأسلحة. فمعظم دول الناتو تشتري أنظمة أمريكية الصنع لتسهيل التشغيل المشترك والتدريبات الموحدة، كما هو الحال في استخدام طائرات P-8 بوسايدون. رغم بيروقراطية نظام المبيعات الأمريكي، تبقى المعدات الأمريكية مفضلة بسبب موثوقيتها ودعمها الفني المستمر، كما في عقود طائرات F-35 باهظة الثمن ولكن عالية الكفاءة.
باختصار، بنت الولايات المتحدة هيمنتها في الناتو على مدى 75 عامًا، لا فقط عبر الحماية، بل عبر شبكة مصالح متشابكة تضمن لها النفوذ والسيطرة والفاعلية العسكرية.
تُعزز مشتريات أوروبا من السلاح الأمريكي قدرة واشنطن على الحفاظ على قاعدة صناعية دفاعية قوية. ففي الفترة بين 2022 و2024، اشترت الدول الأوروبية أنظمة دفاع أمريكية بقيمة 61 مليار دولار، أي ما يعادل 34% من إجمالي عقودها الدفاعية، وفقًا للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. وحدها صفقات طائرات F-35 تمثل مليارات الدولارات لشركات السلاح الأمريكية. ومنذ عام 2020، تضاعف حجم واردات السلاح الأوروبي، وارتفعت نسبة المشتريات من الولايات المتحدة من 54% إلى 64%، مما منح الشركات الأمريكية حصة متزايدة من سوق الدفاع الأوروبي.
صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال تنفق أكثر من أوروبا على الدفاع، لكن الهوة بدأت تضيق. ففي 2014، أنفقت الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو في المتوسط 1.5% من ناتجها المحلي على الدفاع، مقابل 3.7% لأمريكا. أما في 2024، فبلغ الإنفاق الأوروبي 2.2%، في حين تراجع الأمريكي إلى أقل من 3.4%. وتفوقت دول مثل إستونيا وبولندا على واشنطن من حيث النسبة: 3.43% و4.12% على التوالي.
صحيح أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة لا يزال أعلى من معظم الدول الأوروبية، ما يعني أنها تظل تنفق أكثر بالنظر إلى الحجم، لكن المعادلة بدأت تميل. ففي عام 2025، شكلت الولايات المتحدة 14.8% من الناتج العالمي، مقابل 17.5% لدول الاتحاد الأوروبي إلى جانب المملكة المتحدة والنرويج. في حين تُنفق الولايات المتحدة على وجودها العسكري العالمي، يركّز الأوروبيون إنفاقهم داخل القارة.
بدأت ملامح هذا التحوّل تظهر بعد الحرب الروسية الأوكرانية الأولى في 2014. ومع تزايد الضغط الأمريكي، بدأت معظم دول الناتو برفع إنفاقها الدفاعي تدريجيًا، فيما اتجهت أوروبا لتحديث ترسانتها وتوسيع إنتاجها الصناعي العسكري. في عام 2024 وحده، ارتفع إنفاق الدول غير الأعضاء في الناتو على المعدات بنسبة 37%، مقابل 15% فقط للولايات المتحدة.
أما على مستوى الاتحاد الأوروبي، فقد جرت تعديلات تشريعية لزيادة مرونة الإنفاق الدفاعي، بما يسمح للأعضاء بتخصيص ما يصل إلى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، حتى ولو أدى ذلك إلى تجاوز قواعد العجز المالي. وإذا تم تفعيل هذا الخيار، فقد تصل الزيادة في الإنفاق الأوروبي إلى أكثر من 700 مليار دولار حتى عام 2030.
لم تقتصر جهود أوروبا على التمويل، بل شملت أيضًا تعزيز القيادة. فمنذ 2017، أنشأ الناتو تسع مجموعات قتالية على حدود الحلف، تتولى قيادتها دول أوروبية: تقود الولايات المتحدة فقط مجموعة بولندا، بينما تتولى السويد القيادة في فنلندا، والمملكة المتحدة في إستونيا، وألمانيا في ليتوانيا، وفرنسا في رومانيا... إلخ. هذا التوزيع يؤكد التحوّل التدريجي نحو تقاسم الأعباء داخل التحالف، دون الاستغناء عن الدور الأمريكي الحيوي. مع انضمام السويد وفنلندا للناتو، أصبح لدى أوروبا قوات أكثر قدرة على مواجهة التحديات في القطب الشمالي، كما تعمل على تطوير دفاعات ساحلية وتقنيات غير مأهولة لمواجهة روسيا في البحر الأسود، مما يُخفف العبء عن واشنطن.
لكن التقدم الأوروبي يطرح تحديات للولايات المتحدة. فمع تصاعد اهتمامها بمواجهة الصين، ترحب واشنطن بأن تتحمل أوروبا مزيدًا من مسؤولية الدفاع، لكن هذا الاستقلال قد يكون له ثمن. إذ يشترط صندوق الدفاع الأوروبي، البالغ 163.5 مليار دولار، أن تُنفق الأموال داخل القارة، مما يُقلل فرص شركات السلاح الأمريكية، إلا إذا كانت تنتج داخل أوروبا وتوظف عمالًا أوروبيين وتدفع ضرائب محلية. الاستقلال الأوروبي قد يُعقّد أيضًا المواقف السياسية. ففي حين ترغب واشنطن في إنهاء الحرب الأوكرانية تدريجيًا عبر تخفيف العقوبات على موسكو، ترفض أوروبا الضغط على كييف للقبول بتسوية لا ترضاها. لم تعد القارة تخشى فقدان الدعم الأمريكي كما في السابق، وأصبحت أكثر استعدادًا لتبنّي موقف مستقل.
قلّص الاعتماد المتزايد على أوروبا من قدرة واشنطن على استخدام أدواتها العقابية تجاه روسيا. فثلثا الأصول الروسية المجمّدة، والبالغة 330 مليار دولار، تحتفظ بها أوروبا منذ 2022، ولا يمكن للبيت الأبيض أن يعرض استخدامها كورقة ضغط دون موافقة أوروبية. كذلك، تُعدّ أوروبا موطنًا لنظام «سويفت»، الذي حرم البنوك الروسية من الوصول إلى النظام المالي العالمي. وحتى في مجال الطاقة، لا يكفي تخفيف العقوبات الأمريكية وحده، إذ إن أوروبا هي المستورد الرئيسي للغاز الروسي عبر أنابيب «نورد ستريم» المعطّلة حاليًا، مما يجعل تأثير واشنطن محدودًا.
كما تفرض أوروبا عقوبات على الشحن الروسي وعلى تصدير التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج، وهو أمر لا يمكن للولايات المتحدة القيام به بمفردها. وتُعوّل واشنطن أيضًا على التزام أوروبي بإرسال قوات برية إلى أوكرانيا في حال تم التوصل إلى تسوية، لكن الأوروبيين مترددون ما دامت واشنطن تُظهر مرونة تجاه شروط موسكو، مثل رفض انضمام كييف للناتو.
وقد تمتد آثار هذا التباعد إلى مناطق أخرى. ففي حال قررت الولايات المتحدة شنّ عملية عسكرية ضد منشآت إيران النووية، فستحتاج إلى قواعدها الأوروبية. لكن موافقة الحكومات الأوروبية على ذلك قد تواجه رفضًا شعبيًا واسعًا، وربما ترفض بعض الدول الطلب الأمريكي، كما حدث في 2003 قبيل غزو العراق. حينها، ستُجبر واشنطن على استخدام قواعد بعيدة أو تلك المعرضة لخطر الرد الإيراني في الشرق الأوسط.
ويبقى دونالد ترامب عامل انقسام رئيسيا. ففي ولايته الأولى، كان الأوروبيون يأملون أن يكون فوزه عرضيًا. أما اليوم، وبعد انتخابه مجددًا في 2024 رغم سياساته التي أضعفت الناتو وقرّبت موسكو، يرونه تعبيرًا عن تحوّل عميق في المزاج الأمريكي. قال دبلوماسي أوروبي: «ربما تكون رئاسة بايدن، لا ترامب، هي الاستثناء». ومع ولايته الثانية، أصبح فريق ترامب أكثر انسجامًا مع رؤاه، وأقل ميلًا لكبح اندفاعاته. ففي فبراير، قال وزير دفاعه بيت هيجسيث: «لن نتسامح بعد اليوم مع علاقة غير متوازنة تُغذي التبعية»، ووصف نائبه جيه دي فانس أوروبا بأنها «نسيت من انتصر في الحرب الباردة»، في حين اعتبر وزير الخارجية ماركو روبيو أن هناك «فرصًا هائلة للشراكة مع روسيا».
في استطلاع رأي شمل 18 ألف أوروبي بعد فوز ترامب في نوفمبر، أشار أكثر من نصف المشاركين إلى أن الولايات المتحدة لم تعد «حليفًا» بل مجرد «شريك ضروري»، فيما لم يستخدم وصف «الحليف» سوى 22% منهم. وكان هذا التحول سريعًا: قبل 18 شهرًا فقط، اعتبر أكثر من نصف الأوروبيين الولايات المتحدة حليفًا. اليوم، يستخدم المسؤولون الأوروبيون مصطلح «تخفيف المخاطر» في الحديث عن علاقتهم بواشنطن -وهو توصيف كانوا يحتفظون به للصين فقط. لكي تُرمّم واشنطن علاقتها مع أوروبا، عليها أولًا أن تتقبل حقيقة أن العالم أصبح متعدد الأقطاب، وأن أوروبا هي أحد هذه الأقطاب. هذا يتطلب العودة إلى دبلوماسية واقعية، تعترف بتوازن القوى وتقوم على التفاوض والمصالح المتبادلة، لا الافتراضات القديمة عن التبعية. سيتعين على الولايات المتحدة، التي اعتادت على تنازلات أوروبية، أن تُجيد فن التسوية. كما تحتاج واشنطن إلى أن تكون أكثر تنافسية في سوق الدفاع الأوروبي، وتُظهر مرونة في قضايا مثل العلاقة مع الصين، تمامًا كما تُراعي حاجات شركائها في الشرق الأوسط. كذلك، لا يمكنها تجاهل مواقف الدول الأوروبية المستضيفة لقواعدها العسكرية، لا سيما فيما يتعلق بملفات حساسة مثل البرنامج النووي الإيراني.
الاتحاد الأوروبي، بقوته الاقتصادية، بات شريكًا لا غنى عنه لنجاح الناتو. وإذا استطاعت الولايات المتحدة الحفاظ على هذه الشراكة، فستمتلك أفضلية استراتيجية على الصين وروسيا، اللتين تفتقران إلى حلفاء بهذا الوزن والتأثير.
سيليست أ. والاندر مستشارة أمريكية للعلاقات الدولية شغلت منصب مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في وزارة الدفاع الأمريكية.
نشر المقال في Foreign Affairs