الجزيرة:
2025-10-13@02:25:15 GMT

يوميات عائلة في غزة.. أمس واليوم وغدا

تاريخ النشر: 8th, November 2023 GMT

يوميات عائلة في غزة.. أمس واليوم وغدا

نشر موقع ميديا بارت الفرنسي في قسم مدوناته رسالة بعثت بها امرأة فلسطينية من سكان غزة لزميلة لها في فرنسا تشكرها على دعمها لغزة وتصف لها حياتها اليومية كما كانت بالأمس وكما هي اليوم وما يختلج في صدرها عن مآلات الأمور في المستقبل. تقول هذه المرأة التي لم تكشف هويتها:

"عزيزتي س..

أتمنى أن تكوني بخير!

أشكرك على رسالتك ولطفك ودعمك للفلسطينيين في هذه الأوقات الرهيبة!

أنا "ح "، أعيش في غزة مع زوجي "م"، وبنتي "ي"، وهي فتاة عمرها 8 سنوات، و"ك"، صبي يبلغ من العمر 6 سنوات، ومعنا قطنا ميشو ذو الستة أشهر.

لقد عملت أنا وزوجي لأكثر من 15 عامًا في المنظمات الإنسانية الدولية غير الحكومية.

ابنتي ي. في السنة الثالثة من المدرسة الابتدائية وابني ك. في السنة الأولى وكلاهما مسجل في مدرسة خاصة. هناك كانا يقضيان 7 ساعات بينما كنا نحن نقضي 8 ساعات في العمل. تقلهما حافلة المدرسة في الصباح ثم تنزلهما في منزل عائلتي حتى ننتهي من عملنا. بعد نهاية الدوام، نذهب إلى منزل عائلتي لاصطحابهما ونتناول العشاء ونساعدهما على الدراسة والقيام بواجباتهما المدرسية، نشاهد التلفاز معا، ونقضي بعض الوقت على هواتفنا المحمولة أو نتجول في السيارة وننتهز الفرصة لشرب عصير الفاكهة الطازجة أو القهوة (أو اللاتيه الذي أحبه) أو نتناول فطائر تختارها ي. أو يختارها ك.

بعدها نعود إلى المنزل للاستعداد للنوم. وفي يوم الخميس من كل أسبوع، يخرج م. مع صديقه لتناول العشاء معًا، ثم يذهب إلى مقهى للاستمتاع بالقهوة ولعب الورق.

أما أنا فأذهب إلى منزل العائلة حيث تجتمع والدتي وشقيقتي وبنات وأبناء إخواني للتخطيط لكيفية قضاء المساء وأين نذهب للترفيه فإما أن نطلب الطعام، أو نذهب إلى مطعم لتناول العشاء، أو نخرج ونذهب إلى الشاطئ لقضاء وقت ممتع في الأكل والشرب والدردشة واللعب والمشي لمسافات طويلة والاستماع إلى نكات ابن أخي، الذي لديه شخصية مرحة ويجعلنا نضحك بصوت عالٍ عندما يحاول تقليد المشاهير أو مشاركة ذكريات مضحكة. عطلة نهاية الأسبوع (الجمعة) نقضيها في منزل والدي م. بالمنطقة الوسطى بقطاع غزة. نحن نستمتع بلم شمل عائلات أخواته وإخوته، أثناء تناول وجبة غداء خاصة تعدها الوالدة.


بعد 7 أكتوبر

بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انقلبت حياتنا رأسًا على عقب، لا عمل ولا مدرسة، وطوابير طويلة من الناس يخاطرون بحياتهم لشراء الخبز والضروريات الأساسية والطعام. وبعد اليوم الثالث، قطعت قوات الاحتلال الإسرائيلي التيار الكهربائي. يوجد في بنايتنا مولد كهربائي نعتمد عليه لتشغيل الثلاجة والإضاءة وشحن هواتفنا المحمولة.

في حياتنا اليومية لا نتابع أنا وزوجي الأخبار السياسية ونحرص على عدم إقحام أطفالنا في السجالات السياسية. لذلك، منذ 7 أكتوبر، نتابع الأخبار عبر هواتفنا المحمولة فقط، ولا نشاهد أخبار التلفزيون لأننا لا نريدهم أن يروا مشاهد مخيفة ودموية. وكنا نسمح لهم بمشاهدة التلفاز ومشاهدة الرسوم المتحركة والأفلام أو اللعب على أجهزتهم اللوحية.

وبعد أيام قليلة، بدأ الشعور بنقص الوقود، فلم يكن مولد الكهرباء يشتغل في البداية إلا لمدة 4 ساعات، ثم ساعتين. وانقطعت الاتصالات بالإنترنت ووسائل الاتصال بسبب قصف مرافق الاتصالات، كنا بالكاد قادرين على الاتصال لبضع ساعات في اليوم. ولذلك لم يتمكن الأطفال من مشاهدة التلفزيون أو الأفلام على نتفليكس أو ممارسة الألعاب التي تتطلب اتصالا بالإنترنت.

ومنذ الليلة الأولى، ينام الأطفال في غرفتنا بدلا من غرفتهم لأنهم خائفون. وبما أن القصف أصبح أكثر عشوائية وعدوانية، ويستهدف المباني المدنية، أخذنا مراتبنا ووضعناها في غرفة المعيشة، وهي مأوى أكثر أمانًا، بعيدًا عن النوافذ وليس على جانب الطريق. نحاول تهدئة الأطفال وصرف انتباههم عن ضجيج القصف نهارا أو اهتزاز بنايتنا بسبب القصف المكثف ليلا ونهارا، حتى ميشو يخاف ويختبئ عندما يسمع التفجيرات.

حاولنا الحصول على بعض المعلبات والأطعمة التي يمكن تخزينها دون استخدام الثلاجة. كان علينا التخلص من الطعام الموجود في الثلاجة لأنه تعفن، نحاول أنا وزوجي أن نذهب إلى السوق مرة واحدة في الأسبوع وليس كل يوم حتى لا نخاطر بحياتنا بسبب التفجيرات العشوائية التي تحدث في كل مكان، ولم أتمكن من رؤية عائلتي التي تبعد 10 دقائق عن منزلنا، والمتاجر التي تبيع مستلزمات الحيوانات الأليفة مغلقة، لكننا علمنا بوجود متجر واحد كان يفتح لمدة ساعة، مما سمح لنا بشراء بعض الطعام لميشو.

أفتقد منزلي، وسريري، والمرتبة المريحة، أفتقد والدي، وأخي، وأختيّ، وأبناء وبنات إخوتي، أفتقد نزهاتنا، وضحكاتنا، ومناقشاتنا مساء كل خميس

وعندما طلبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من الفلسطينيين الذين يعيشون في شمال مدينة غزة وسكانها الإخلاء إلى الوسط والجنوب، لم نكن متأكدين من أنه من الصواب القيام بذلك، إذ علمتنا تجربتنا مع قوات الاحتلال، أنها تخدع الناس وتعرضهم للخطر.

وبعد مكالمتهم والرسائل المسجلة التي أرسلت على هواتف العديد من الأهالي مطالبينهم بمغادرة شمال غزة، لاحظنا أن القصف يزداد ضراوة، وفي إحدى الليالي وجدنا أنفسنا من دون مولد كهربائي، فاضطررنا إلى إضاءة الشموع التي كنا نستخدمها في المنزل كديكور.

لم يكن هناك إنترنت، حاولت التحقق من خلال هاتفي الخلوي وكنا نسمع قصفًا مكثفًا ومتواصلًا، تمكنت من تشغيل الراديو في هاتفي الخلوي، وفوجئنا عندما علمنا أن قوات الاحتلال الإسرائيلي استهدفت المستشفى الأهلي الذي يستضيف آلاف النازحين، واستشهد نحو 800 شخص بينهم نساء وأطفال.

في اليوم التالي، قررنا أن نأخذ أمتعتنا التي أعددناها منذ اليوم الأول للحرب، كما هو الحال دائمًا أثناء الهجوم. وهي تشمل أوراقنا الرسمية وبعض الملابس. ذهبنا مع الأطفال وميشو إلى منزل عائلة زوجي في المنطقة الوسطى، ووجدنا أمامنا عائلة أخيه وعائلة شقيقتيه، كان الطريق مخيفًا للغاية، كنا نخشى التفجيرات، وشاهدنا دمارًا للعديد من المباني في طريقنا، كما تم تدمير الطريق الساحلي أيضًا، وكانت هناك عائلات مع فرشاتها وممتلكاتها.


يمكنك أن تتخيلي صعوبة الوضع مع وجود 13 طفلا و12 شخصًا بالغًا في المنزل، عليك أن تكون حذرًا جدًا بشأن استهلاك مياه الغسيل ومياه الشرب وإعداد الطعام. ونظرًا لانقطاع الكهرباء، كان مولد الحي يعمل لمدة ساعة يوميًا. وأثناء القصف، تعرض هذا المولد لأضرار بالغة وتوقف عن العمل.

نحاول التحقق مما إذا كان لدى أي من جيراننا ألواح شمسية لشحن هواتفنا المحمولة والبطارية التي نستخدمها ليلا لإنارتنا. نحن نفتقر إلى الموارد الغذائية والمياه النظيفة ومياه الشرب، فضلا عن الوقود اللازم لوسائل النقل ومولدات الكهرباء في المستشفيات. عندما نغسل وجهنا، تكون المياه غير نظيفة ومالحة جدًا، مما يؤدي إلى إتلاف الشعر والعينين والجسم. ومياه الشرب غير نظيفة وتسبب مشاكل صحية منها الإسهال.

كما استهدفت قوات الاحتلال مخابز مختلفة. وللحصول على الخبز أصبح على الشخص الوقوف في طابور طويل والانتظار أكثر من 3 ساعات. كما ارتكبت مجازر عديدة بحق المدنيين في السوق المحلي وأمام المخابز وفي العديد من المساجد وفي كنيسة تضم العديد من العائلات، مما أدى إلى استشهاد العشرات من النازحين.

لكم أن تتخيلوا انعدام الخصوصية، والظروف الصحية، واستخدام المراحيض، ونقص المواد الغذائية والمشروبات

وربما نكون نحن أكثر حظا من غيرنا لأننا تمكنا من الحصول على الغذاء والماء، حتى لو لم يكن ذلك كافيا. وتعاني عائلات أخرى وجدت مأوى في مدارس الأونروا من نقص المساعدات المالية وغير الغذائية والمساعدات الغذائية، وأغلبهم من العاملين بأجر يومي الذين فقدوا مصدر دخلهم. ولكم أن تتخيلوا انعدام الخصوصية، والظروف الصحية، واستخدام المراحيض، ونقص المواد الغذائية والمشروبات في المدارس التي يعيش فيها أكثر من 1500 شخص، بما في ذلك النساء والأطفال وذوو الإعاقة والرضع والنساء الحوامل.

المأساة والحزن لا نهاية لهما ويستغرق كشفهما والحديث عنهما الكثير من الوقت.

لا شك أن المأساة والحزن لا نهاية لهما ويستغرق كشفهما والحديث عنهما الكثير من الوقت.

في إحدى الليالي، قطعوا الاتصال بالإنترنت وجميع أنواع الاتصالات في جميع أنحاء قطاع غزة، وكان انقطاع التيار الكهربائي كاملا، ولم نتمكن من متابعة الأخبار ومعرفة مكان التفجيرات، ولم نتمكن من الاتصال بعائلاتنا وأصدقائنا للتحقق مما إذا كان الأمر كذلك. كانوا بخير. لا توجد تغطية إعلامية، حيث استشهد أكثر من 24 صحفيا منذ بداية الحرب.

ولم تتمكن سيارات الإسعاف والمسعفين ورجال الإطفاء من معرفة مكان التفجيرات ولا أين ينبغي أن يذهبوا لإنقاذ الأرواح.. استمر الانقطاع حوالي 24 ساعة، ثم عاد الاتصال، لكنه لا يعمل بشكل كامل، فهو ينقطع طوال الوقت. إنهم يقصفون حيا بأكمله، مثل مجزرة مخيم جباليا ومخيم الشاطئ، وهي مناطق مكتظة، وقد تم تدمير الحي بالكامل وهناك أكثر من ألف شخص تحت الأنقاض.

في إحدى الليالي قصفت قوات الاحتلال منزلا بالقرب منا، وكان الأطفال يصرخون، وساد الظلام والفوضى، وفي الصباح اكتشفت جروحا طفيفة بالقرب من عيني اليمنى، وحتى اليوم أشعر دائمًا أن هناك شيئًا ما داخل عيني ولا أستطيع الوصول إليه، وفي الخارج، تعرضت سيارتنا لأضرار طفيفة.

لقد فقدت حتى الآن ابن عمي الذي درس في أوكرانيا، وأصبح طبيب أسنان، وتزوج من امرأة أوكرانية ولديه ابنتان جميلتان. هرب من مدينة غزة مع عائلته ووالدته إلى رفح، بحثًا عن مكان أكثر أمانًا، ولكن في أحد الأيام عندما ذهب لجمع الطعام لعائلته، استشهد أثناء القصف.

إحدى قريباتي التي لجأت إلى المنطقة الوسطى اضطرت ذات ليلة لمرافقة والدتها إلى المستشفى تحت القصف لتلد. لقد مرت بأسوأ تجربة: في المستشفى، لم يكن هناك بطانية ولا نظافة، فقط ممرضة واحدة وطبيب واحد لـ24 امرأة تلد.

لم يعد الأطباء ينظفون الجروح كما أنهم يجرون العمليات الجراحية دون تخدير

هناك نقص خطير في الإمدادات الطبية. وشاهدت جرحى قصف الاحتلال الإسرائيلي على الأرض، إذ لا يملك المستشفى القدرة على علاج العدد الكبير من المصابين. لم يعد الأطباء ينظفون الجروح كما أنهم يجرون العمليات الجراحية بدون تخدير. لا يستطيع الأطباء علاج جميع الحالات، وللأسف يعطون الأولوية للحالات الأكثر خطورة، ويطلب من الآخرين مغادرة المستشفيات.

طعام ميشو ينفد ونحاول أن نجد له بديلا بطعامنا، لكنه لن يأكل أي شيء. لا نعرف كيف نحضر له طعامه. نحاول تعريفه بهذا الوضع الصعب حتى يتمكن من الاعتماد على نفسه في حال استشهدنا أو ضاع إذا خاف وهرب أثناء قصف أحد الأحياء.

خوفي الأكبر هو الاضطرار إلى الهجرة خارج غزة تحت تهديد القصف. أين يجب أن نذهب وماذا سنفعل بعيدًا عن منازلنا؟ ونخشى من مستقبل مظلم ومجهول إذ يستهدفون البنية التحتية لقطاع غزة، وقد فقد آلاف الأشخاص منازلهم ووظائفهم.

أفتقد منزلي، وسريري، والمرتبة المريحة، أفتقد والدي، وأخي، وأختيّ، وأبناء وبنات إخوتي، أفتقد نزهاتنا، وضحكاتنا، ومناقشاتنا مساء كل خميس. أفتقد وجود القهوة في مكاني المفضل، أفتقد صديقتي، أفتقد عملي رغم الضغط وعبء العمل اليومي. أفتقد روتيننا اليومي. أطفالي يفتقدون المدرسة والمدرسين والأصدقاء.

خوفي الأكبر هو فقدان أحد أفراد عائلتي، إن لم يكن جميعهم، لأنهم استهدفوا الحي بأكمله بشكل عشوائي. في كل مرة أتحدث إليهم، أبذل قصارى جهدي لمنع دموعي، أريدهم أن يكونوا أقوياء. أخشى أن أجد نفسي تحت الأنقاض دون أن يتمكن أحد من الوصول إلينا أو أن أتعرض للإصابة بينما تنهار الأوضاع الصحية في المستشفيات ولا يتمكن جميع المصابين من تلقي العلاج.

كما أخاف من الهجرة القسرية، حيث إننا مضطرون حاليا إلى مغادرة مدينتنا والاستقرار في المنطقة الوسطى. وخوفي الأكبر هو الاضطرار إلى الهجرة خارج غزة تحت تهديد القصف. أين يجب أن نذهب وماذا سنفعل بعيدًا عن منازلنا؟ ونخشى من مستقبل مظلم ومجهول إذ يستهدفون البنية التحتية لقطاع غزة، وقد فقد آلاف الأشخاص منازلهم ووظائفهم".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الاحتلال الإسرائیلی قوات الاحتلال أکثر من لم یکن

إقرأ أيضاً:

غزة.. أسطورة الصمود التي كسرت هيبة الاحتلال وأعادت للحق صوته

عامان من النار والحصار والدمار.. عامان لم تشهد لهما البشرية مثيلا في القسوة، ولا في الصبر. في تلك الرقعة الصغيرة المحاصَرة بين البحر والحدود، وقف أهل غزة عُزّل إلا من إيمانهم، فحملوا على أكتافهم ملحمة أعادت تعريف معنى الكرامة، وأثبتت أن الشعوب الحرة قادرة على قلب الموازين، ولو كانت وحدها في مواجهة آلة القتل.

عامان من الصمود الأسطوري

منذ اللحظة الأولى للعدوان، ظنّ قادة الاحتلال أن غزة ستنحني سريعا، وأن القصف العنيف سيكسر إرادة المقاومة، لكنّ ما حدث كان عكس كل حساباتهم. فكلما اشتد القصف، اشتعلت روح التحدي أكثر، وكلما سقط بيت، وُلدت في الأنقاض ألف إرادة جديدة.

لم يكن في غزة جيوش نظامية أو أسلحة متطورة، بل كان فيها رجال يعرفون أن الأرض لا تُسترد إلا حين يُقدَّم من أجلها الدم والعرق والعمر.

عامان من المواجهة المتواصلة أثبتا أن إرادة الشعوب، مهما حوصرت، قادرة على فرض واقع جديد، وأن الاحتلال مهما امتلك من قوة، لا يمكنه أن يهزم فكرة الحرية.

المقاومة.. من ردّ الفعل إلى فرض المعادلة
عامان من المواجهة المتواصلة أثبتا أن إرادة الشعوب، مهما حوصرت، قادرة على فرض واقع جديد، وأن الاحتلال مهما امتلك من قوة، لا يمكنه أن يهزم فكرة الحرية
لم تعد المقاومة الفلسطينية ذلك الطرف الذي يردّ بعد الضربات؛ بل أصبحت اللاعب الأساسي الذي يرسم ملامح المعركة ويحدد إيقاعها.

أجبرت فصائل المقاومة الاحتلال على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بعد عامين من العدوان المتواصل، بعدما أدركت القيادة العسكرية والسياسية للاحتلال أن خيار "الحسم العسكري" مجرد وهم، وكل محاولة للتوغّل بَرّا تحولت إلى فخٍّ قاتل، وكل اجتياحٍ بري انتهى بانسحابٍ مذلّ.

المقاومة لم تدافع فقط عن غزة، بل أعادت تعريف مفهوم الردع. وبدل أن تكون غزة "نقطة ضعف"، أصبحت "نقطة ارتكاز" لمعادلة جديدة في المنطقة: أن أمن المحتل لن يكون ممكنا ما دام أمن الفلسطينيين منتهكا.

هزيمة السمعة وسقوط صورة "الجيش الذي لا يُقهر"

ربما لم يخسر الاحتلال في تاريخه الحديث خسارة أخلاقية وسياسية كتلك التي خسرها خلال حرب غزة الأخيرة، وجيشه الذي كان يتفاخر بـ"الدقة التكنولوجية" ظهر كآلة قتلٍ عشوائية تستهدف الأطفال والمستشفيات والمدارس ومراكز الإغاثة.

انهارت صورة "الجيش الأخلاقي" أمام عدسات العالم، وتحوّل قادته إلى متهمين بجرائم حرب في المحاكم الدولية. وما لم تستطع المقاومة فعله بالصواريخ، فعله الوعي العالمي بالصور والفيديوهات التي نقلت بشاعة العدوان إلى كل بيت على وجه الأرض.

سقطت هيبة الاحتلال، لا فقط في الميدان، بل في الرأي العام الدولي، حتى صار قادة الغرب يجدون حرجا في تبرير دعمه أمام شعوبهم.

التعاطف العالمي.. النصر غير العسكري

لم يكن الانتصار في غزة بالسلاح وحده، فخلال عامين من المجازر، تحوّلت فلسطين إلى قضية إنسانية عالمية. شهد العالم مظاهرات غير مسبوقة في العواصم الغربية، من لندن إلى نيويورك، ومن باريس إلى مدريد. الملايين خرجوا يحملون علم فلسطين، يهتفون باسم غزة، ويدينون الاحتلال بصوتٍ واحد. الجامعات، والنقابات، والمؤسسات الأكاديمية، والمبدعون، وحتى الرياضيون؛ كلهم قالوا كلمتهم: كفى قتلا في غزة.

لقد أعادت المقاومة تعريف الصراع أمام الضمير الإنساني: فالقضية لم تعد "نزاعا سياسيا"، بل معركة بين الحرية والاحتلال، بين العدالة والإبادة. وهذا الوعي العالمي المتزايد ربما يكون أعظم مكاسب غزة، لأنه نصر طويل المدى، يغيّر الرأي العام الغربي الذي لطالما كان منحازا للاحتلال.

غزة تُسقط الصمت العربي

وحدها غزة قاتلت، ووحدها دفعت الثمن، بينما كانت أنظمة عربية كثيرة تكتفي بالصمت أو البيانات الباردة. لكن هذا الصمت لم يمنع الرسالة من الوصول: أن المقاومة، رغم كل الحصار والخذلان، فعلت ما عجزت عنه جيوشٌ نظامية تمتلك أحدث الأسلحة والعتاد.

لقد سقطت أوهام القوة الزائفة، وكُشف حجم جيش الاحتلال الحقيقي أمام العالم. فذلك الجيش الذي قيل عنه إنه "لا يُقهر" عجز عن إخضاع مدينة محاصرة لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومترا مربعا. إنها الحقيقة التي على كل عاصمة عربية أن تتأملها: القوة ليست في السلاح، بل في الإيمان بعدالة القضية.

اتفاق وقف النار.. إعلان نصر لا هدنة
الاحتلال مهما امتلك من سلاح، يظل هشّا أمام إرادة من يقاتل من أجل حقه.. أن الكرامة لا تُشترى، وأن الحرية لا تُمنح، وأن من يقف بثبات على أرضه يُرغم المحتل في النهاية على التراجع
حين يُوقَّع اتفاق وقف إطلاق النار، فذلك ليس مجرد نهايةٍ مؤقتةٍ للقتال، بل اعترافٌ بانتصار غزة. فالاحتلال لم يجلس إلى طاولة التفاوض إلا بعدما استنفد كل وسائله، ولم يرضَ بالتفاوض إلا بعدما أدرك أن الحرب أصبحت عبئا لا مكسبا.

وقفُ إطلاق النار، بالنسبة للمقاومة، ليس تنازلا، بل تتويجا لمسيرة صمودٍ دامت عامين، دفعت فيها غزة ثمن الحرية دما، لكنها انتزعت اعترافا سياسيا ومعنويا بأنها الطرف الذي لا يمكن تجاوزه في أي معادلة قادمة.

غزة.. مدرسة الأحرار

لقد قدّمت غزة للعالم درسا خالدا: أن الاحتلال مهما امتلك من سلاح، يظل هشّا أمام إرادة من يقاتل من أجل حقه.. أن الكرامة لا تُشترى، وأن الحرية لا تُمنح، وأن من يقف بثبات على أرضه يُرغم المحتل في النهاية على التراجع. هي مدرسة للأحرار، ومصدر إلهام لكل شعبٍ يسعى للخلاص من القهر.

وغزة اليوم لا تنتظر التصفيق، بل تطلب أن يُكتب تاريخها كما يليق بها: كأعظم قصة صمود في وجه أعتى آلة بطش عرفها العصر الحديث.

غزة انتصرت.. لأن الحق لا يُهزم

في زمنٍ يُباع فيه المبدأ وتُشترى المواقف، ظلّت غزة وفية لقضيتها، وحين ظنّ العالم أن صوتها سيخفت تحت الركام، خرجت لتقول: "ما زلنا هنا، وما زال لنا وطن".

لقد انتصرت غزة، لا فقط في الميدان، بل في الوعي والكرامة والتاريخ. وانتصارها هو انتصارٌ لكل من يؤمن بأن الحرية تستحق النضال، وأن الحق لا يضيع ما دام وراءه شعبٌ يقاتل من أجله حتى الرمق الأخير.

مقالات مشابهة

  • مجدي الجلاد: أكثر من 70% من الوجوه التي شاهدناها في مجلس النواب السابق لن تكون موجودة في المجلس المقبل
  • الاحتلال يُخطر عائلة الشهيد رأفت دواسة بهدم منزلها
  • طبيب غزاوي للوموند: هذه هي المعركة التي تنتظرنا بعد انتهاء الحرب
  • أحمد موسى: نتنياهو فشل في إعادة الرهائن رغم الإبادة التي قام بها
  • مدرب الريال السابق يكشف الأختلاف الماضي والحاضر في كرة القدم
  • غزة.. أسطورة الصمود التي كسرت هيبة الاحتلال وأعادت للحق صوته
  • إسرائيل تمنع مغادرة 20 عائلة من الأسرى المحررين إلى الأردن
  • «يوميات عيلة كواك».. منصة شاهد تطرح مسلسل كوميدي جديد
  • جامعة دمنهور تضيء معرض الثامن للكتاب بندوة بعنوان "التراث بين الأمس واليوم"
  • تتعدى الـ50 ملم.. أمطار جد غزيرة اليوم وغدا