تجرعت «إسرائيل» السم، ووافق قادة كيان الاحتلال على هدنة الأيام الأربعة، التي أملت المقاومة الفلسطينية أغلب شروطها عبر الوسطاء، وكان ذلك اعترافا «إسرائيليا» صريحا بالهزيمة في حرب قاربت الأيام الخمسين، فالسياسة هي امتداد للحرب بوسائل أخرى، ونتائج أي مفاوضات مرتبطة بموازين القوى على الأرض، وحماس فرضت شروطها في تبادل الدفعة الأولى من الأسرى، وإطلاق سراح ثلاثة أطفال وسيدات فلسطينيات من سجون الاحتلال، مقابل كل أسير أو أسيرة «إسرائيلية» مماثلة يفرج عنها، وهو ما خضع له «الثلاثي المنكوب» في قيادة الاحتلال (نتنياهو وغالانت وغانتس)، وكانوا جميعا يصرون على إطلاق سراح ما يسمونه كل «الرهائن» لدى «حماس» بلا مقابل.
وأبدى بنيامين نتنياهو بالذات عجرفة لفظية منفلتة عصبيا، وبالغ في ظنونه بإمكان «تحرير» الرهائن بالقوة المسلحة، ثم تبين له أنه كان يطارد سرابا، وفشلت حملة عشرات الآلاف من جنوده ونخبة ضباطه في شمال غزة، وصدمته خسائر قواته المفجعة، وكان طبيعيا بعدها، أن يحني العدو رأسه المنكسة منذ هجوم السابع من أكتوبر المزلزل، وأن يتقبل صاغرا ما أعلن رفضه لمرات، وأن يوافق وحكومته ومجلس حربه على وقف إطلاق نار مؤقت، وعلى منع الطائرات الحربية «الإسرائيلية» من التحليق خلالها في سماء غزة، وعلى مضاعفة تدفق المساعدات وشاحناتها بما فيها الوقود إلى القطاع جنوبا وشمالا، وأن يعترف ضمنا بدوام حكم حركة «حماس» في غزة، وهو الذي وصف «حماس» مرارا وتكرارا بالإرهابية و»الداعشية»، بينما كسرت حماس وفصائل المقاومة أنف كيانه الإرهابي الوحشي الهمجي، الذي أخفق في قتال الرجال وجها لوجه، ومن المسافة «صفر» القاتلة، وراح يصب جام غضبه الانتقامي على المدنيين العزل، وقتلت طائراته وقنابله الأمريكية ما يفوق العشرين ألفا من الفلسطينيين المدنيين، بينهم نحو سبعة آلاف مفقود تحت الأنقاض، وهدم أكثر من نصف مباني غزة، وأغلب مستشفياتها ومدارسها ومساجدها وكنائسها ومطاحنها ومخابزها ومنشآتها الحيوية ومحطات تحلية المياه، ومن دون أن يرفع سكان غزة الراية البيضاء رغم التجويع والتعطيش والتشريد، ولا أن ينزحوا من وطنهم، ولا أن يتوقفوا عن إعلان التأييد الجارف لفصائل المقاومة، التي أذلت جيش الاحتلال، وأنهت أساطير هيبته وتفوقه وقوته الموهومة.
السياسة هي امتداد للحرب بوسائل أخرى، ونتائج أي مفاوضات مرتبطة بموازين القوى على الأرض، والمقاومة الفلسطينية فرضت شروطها في تبادل الدفعة الأولى
وقد يقال، إن الحرب لم تنته بعد، وهذا صحيح، فما أن تنفد أيام الهدنة، حتى يعود القتال من جديد، ويعود القصف البربري «الإسرائيلي»، لكن عودة الحرب ستكون موقوتة كما الهدنة، ولأسباب ظاهرة، قد توحي بأن الحرب الراهنة تسلك طريق النهايات، فحركة «حماس» وفصائل المقاومة، لا تزال تحتفظ بالعدد الأكبر من أسرى العدو «الإسرائيلي» الأمريكي، وبينهم الكنز الأهم من جنود العدو وضباطه الكبار، وما قد يضاف إليهم من الأسرى في الميدان الحربي، وصيغة المقاومة واضحة، وعنوانها الكل، مقابل الكل، أي أنه لا إفراج عن كل أسرى «إسرائيل» إلا بشروط، أهمها الإفراج بالمقابل عن كل الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وأنه قد يجوز التدرج في الإفراج عن الأسرى غير العسكريين بمقابل الثمن الثلاثي، وفي مقابل هدنة موقوتة، تزيد فتراتها الزمنية، بما فيها الهدنة الأولى المحتمل تمديدها لأيام مضافة، مع إطلاق سراح أسرى جدد، لكن الإفراج عن العسكريين بالذات، قد يلزمه اتفاق على وقف إطلاق نار شامل من قبل العدو، وهو ما يبدو أن «إسرائيل» سترضخ له في النهاية، وأن واشنطن ستفعل هي الأخرى، وهي التي دفعت «تل أبيب» للحرب، ودعمتها بكامل قوتها العسكرية وخطط جنرالاتها ونشر حاملات طائراتها وغواصاتها النووية ونخبها الخاصة، ثم صدمتها النتائج المخيبة لآمالها، واكتشفت أنها ذاهبة إلى محرقة لقواتها ولجيش الاحتلال «الإسرائيلي»، إضافة لمحرقة الساسة في واشنطن وتل أبيب معا، فقد تهاوت شعبية بنيامين نتنياهو ـ رئيس وزراء العدو ـ إلى الحضيض، ولم يعد يثق بصواب قراراته سوى 4% لا غير من يهود التجمع «الإسرائيلي»، وهو ذاهب يقينا إلى أعطن مزابل التاريخ، والرئيس الأمريكي جو بايدن ذاهب هو الآخر إلى مصير مماثل، وتتدهور فرصه في كسب انتخابات الرئاسة المقبلة، وقد قال عقب إعلان الهدنة أنه «ممتن وراض عنها تماما»، وهو الذي كان يحذر متبجحا، أن أي وقف لإطلاق النار يفيد «حماس» وحدها، ويجب عدم السماح به، بينما يمضي اليوم في طريق تجرع السم نفسه.
وبسبب القدرة القتالية الباهرة للمقاومة، وتدميرها بالجملة لمئات من آليات العدو العسكرية ودباباته، وقتلها المئات من الجنود وضباط النخبة «الإسرائيلية» وربما الأمريكية، اعترف العدو منها بمقتل ما يفوق السبعين، وحجب أغلب الأرقام، بينما اعترف مدير المقبرة العسكرية في جبل «هرتزل» بالقدس المحتلة، أنه يشرف على دفن خمسين عسكريا إسرائيليا كل يومين ، فوق مئات الجنود والضباط الذين قتلوا في هجوم السابع من أكتوبر، ولا شيء يرعب «إسرائيل» وأمريكا أكثر من الخسائر البشرية الثقيلة، فوق نزيف اقتصاد العدو، الذي يخسر نحو 250 مليون دولار في كل يوم حرب، بينما تبدو قوة الاحتمال الفلسطيني للخسائر ذاتها بغير نهاية، فوق أن خسائر «حماس» وأخواتها تبدو محدودة، ويقدرها الإسرائيليون أنفسهم بما لا يزيد على عشرة في المئة من قوة «كتائب القسام» العسكرية، وهو تقدير مبالغ فيه على تدنيه، ولا تدل عليه عقيدة وأساليب قتال متفوقة، تبديها «حماس» وفصائل المقاومة الرديفة، التي نجحت في الحفاظ على شبكة ومدن أنفاقها السرية تحت الأرض، وفى إبداء مهارات احترافية في القيادة والسيطرة، وإبداع وسائل وقذائف قتال صنعت ذاتيا وبتكاليف مالية متواضعة، أثبتت المعارك الجارية في شمال غزة نجاحها الباهر، بينما يتردى العدو في «الخيبة بالويبة»، ويشن حربه على المستشفيات والجرحى والجثث والأطقم الطبية، ويثبت هزال ادعاءاته العسكرية والمخابراتية وإعلاناته المثيرة للسخرية، من نوع بياناته عن هدم وإغلاق المئات من فتحات الأنفاق، بينما جنرالاته يضيعون في المتاهة، ويفبركون فيديوهات عبثية، دفعت حتى أصدقاءهم وداعميهم في الإعلام الأمريكي والأوروبي إلى المشاركة في فضح ادعاءات «الإسرائيليين»، على نحو ما فعلت قناتا «سي. أن. أن» الأمريكية و»بي. بي. سي» البريطانية، وقد اصطحبت القوات الإسرائيلية مراسليهما إلى مستشفى «الشفاء»، وقدمت لهم ما تصورته من غنائم وأسلحة وفيديوهات مصطنعة، واضطرت القناتان لإعلان زيف الفيديوهات مقارنة بما اطلعوا عليه، ورجحوا صحة رواية «حماس»، التي كانت أعلنت حقيقة الأسلحة المضبوطة، وأنها قطع سلاح أحضرتها القوات الإسرائيلية من جانبها، فوق أن الجنرال إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، كان قد اعترف في حوار مع «سي. أن. أن» ببعض الحقيقة، وقال إن «إسرائيل» نفسها هي التي حفرت نفقا تحت مباني مجمع «الشفاء» وقت احتلال غزة بعد 1967، وهكذا راحت الأوراق «الإسرائيلية» المزيفة كلها تتساقط، ولم يعد أحد عاقل يصدق رواية «إسرائيلية»، بدءا من ادعاء قطع «حماس» لرؤوس الأطفال، إلى أكاذيب الانتصارات الوهمية في حرب المستشفيات، فلم يعد العالم يرى من حقيقة قابلة للتصديق، سوى وحشية «إسرائيل» وقتلها لعشرات آلاف المدنيين العزل في غزة، أغلبهم من النساء والأطفال، وبما يجعل «النازي» نفسه يفزع في قبره من بربرية جيش الاحتلال، الذي يعجز عن مواجهة المقاتلين الفلسطينيين، ويصب حمم النار الأمريكية على المدنيين المسالمين، وهو ما اتسعت معه موجات غضب الرأي العام الغربي، ومظاهرات مئات الآلاف في المدن الأمريكية والأوروبية، التي تقودها الجاليات الفلسطينية والعربية، مع هوامش إنسانية تتسع في النسيج الغربي عند القواعد الشعبية، وتضغط على الحكومات الموالية لإسرائيل، وتطالبها بالضغط على «تل أبيب» لوقف العدوان وإنهاء الحرب، إضافة لمظاهرات الغضب في التجمع الإسرائيلي نفسه، وكلها تطالب بوقف الحرب مقابل إعادة الأسرى لدى «حماس» وأخواتها.
ولم يكن لهذا التحول أن يجري في المزاج الغربي، إلا مع الصمود الشعبي الفلسطيني الصابر المتحدي لمحارق الإبادة الجماعية، وإلا مع الأداء القتالي الأسطوري لحركات المقاومة الفلسطينية، وكل هذه المتغيرات تصنع النصر الفلسطيني الجديد، وتؤكد هزيمة «إسرائيل» التي لا مفر منها، فقد أعلنت «إسرائيل» حربها بدعوى اجتثاث «حماس»، بينما تبين للكافة ما كان معلوما من البداية، وهو استحالة تحقق الهدف «الإسرائيلي» الأمريكي، وزادت شعبية «حماس» وحضورها الفلسطيني والعربي والإسلامي، وراح العدو يتفاوض مع «حماس» نفسها، ويعقد معها هدنا موقوتة، قد تكون تمهيدا لإعلان هزيمة شاملة لكيان الاحتلال، حتى لو جرى استئناف الحرب لخمسين يوما جديدة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال الفلسطينية حماس الهدنة فلسطين حماس الاحتلال الهدنة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
هزيمة الصهيونية
حاتم الطائي
◄ إسرائيل وبدعم أمريكي سعت لرفع علامة نصر زائفة في حربها مع إيران
◄ 12 مليار دولار الخسائر الأولية لإسرائيل في "حرب الأيام الـ12"
◄ رماد الحرب لم ينطفئ.. واشتعال نيرانها سيقود لمآسٍ غير مسبوقة
في الوقت الذي يتباهى فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنَّه "دمَّر" البرنامج النووي الإيراني، مُستخدمًا 12 قنبلة من طراز "جي بي يو-57"- والتي يجب أن تكون محرَّمة دوليًا؛ حيث تزن القنبلة الواحدة منها أكثر من 30 ألف رطل- تتواصل التقارير الاستخباراتية والإعلامية الأمريكية التي تُفيد بأنَّ المفاعلات النووية الإيرانية لم يلحق بها ضرر كبير؛ بل ذهب كثيرون إلى أن القصف الأمريكي الغاشم على المفاعلات الإيرانية لم يكن سوى قصف لهياكل خرسانية لا قيمة لها.
تقييمات أجهزة الاستخبارات التي أوردتها شبكة "سي إن إن" الأمريكية أكدت أن الضربات الأمريكية لم تؤثر على عمليات تخصيب اليورانيوم، ويأتي ذلك بالتزامن مع تأكيدات بأن الإيرانيين نقلوا اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزي إلى مواقع آمنة، قبل أيام من القصف الأمريكي. هذه المعلومات وغيرها مما يتوالى تباعًا تؤكد أن الطرف الأمريكي ومن ورائه الإسرائيلي، قد سعيا فقط إلى رفع علامة نصر زائفة، بعدما نجحت الصواريخ الإيرانية بأنواعها وأحجامها وقدراتها النوعية والمختلفة، في دك مدن الاحتلال الإسرائيلي، مثل تل أبيب وحيفا وبئر السبع وغيرها، وأصبحت المشاهد التي كان يراها الإسرائيلي في غزة، تنتشر في هذه المدن، وظل الإسرائيليون مختبئين في الملاجئ طيلة 12 يومًا، استطاعت إيران فيها ولأوَّل مرة في تاريخ المواجهات مع الكيان الصهيوني، أن تقصف العمق الإسرائيلي، وتُدمِّر البنية التحتية العسكرية، خاصة مقرات قيادة جيش الاحتلال وقيادة جهاز المخابرات "الموساد"، وقيادة جهاز المخابرات العسكرية "أمان"، ومعهد وايزمان للعلوم المعروف بأنَّه "العقل النووي" لإسرائيل.
هذه الحرب- التي بدا للبعض في مُستهلها أنَّ إسرائيل حققت نصرًا على إيران باغتيال عدد من قادتها العسكريين والأمنيين والعلماء النوويين- انقلبت وبالًا وخسرانًا على هذا الكيان العدواني المُجرم؛ إذ لم تتردد إيران في الرد بكل قوة، مُرتكزة على قدراتها العسكرية الهائلة، وتماسكها الداخلي المتين، وهذه نقطة حاولت إسرائيل والولايات المتحدة اللعب عليها، واستغلالها، ظنًا منهما أنَّ النظام الإيراني سيسقط من داخله، وقد استعانت إسرائيل في ذلك بعملاء وجواسيس على الأرض، لكن المؤسسات الإيرانية، التي تُشكِّل "الدولة العميقة"، نجحت بجدارة في الحفاظ على اللُحمة الوطنية، واستمرت هذه اللُحمة حتى بعد انتصار إيران على إسرائيل. ولا شك أنَّ مشهد الجنازات المهيبة التي شُيِّع فيها القادة والعلماء الذين اغتالتهم يد الغدر الصهيونية، أبلغ دليل على تماسك الشعب الإيراني خلف قيادته، إدراكًا منه بأهمية الحفاظ على كيان الدولة من الانهيار، حتى لو اختلف البعض منهم مع السياسات، لكنهم يتفقون على الوطن الإيراني.
خسائر إسرائيل في حربها مع إيران، فاقت كل التوقعات، إذ تُشير تقديرات موثَّقة إلى أن الكيان الصهيوني كان يتكبّد يوميًا مليار دولار أمريكي، ما يعني 12 مليار دولار خلال أيام الحرب، وهذه فاتورة ضخمة لا تستطيع أمريكا الوفاء بها لإسرائيل أو تقديم "خطة مارشال" إسرائيلية على غرار "مارشال الأوروبية" في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لذلك نرى أنَّ استعراض ترامب للعضلات الأمريكية، من خلال قنابل "بانكر باستر" الخارقة للتحصينات، ليست سوى إخراج هوليودي عديم القيمة، حاول من خلالها ترامب إثبات أنه صاحب البصمة الأخيرة في هذه الحرب، ودعمًا منه لصديقه مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، لإخراجه من أزمته الطاحنة. لكن ما لم يُدركه ترامب ولا المجرم نتنياهو، أن الإيرانيين أُمة، وليست دولة تضم مواطنين ورعايا، والأُمة تدافع عن حقها حتى آخر رجل منها، لذلك ومع تدخل ترامب وإعلان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، لقّنت إيران إسرائيل والولايات المتحدة درسًا لا يُنسى؛ حيث استبقت دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وقصفت مواقع استخباراتية وعسكرية ومخازن سلاح، وألحقت بها أضرارًا غير مسبوقة.
والوضع الراهن أشبه بمرحلة اللاسلم واللاحرب، فبينما توقفت الصواريخ وربضت الطائرات المُقاتلة في حظائرها، إلّا أن ما يُمكن أن يُدبر في الخفاء، قد يُفضي إلى ما هو أعظم مما شاهدناه على مدى 12 يومًا، ولذلك ربما تعمل إيران حاليًا على تسريع وتيرة زيادة تسليحها النوعي وخاصةً ما يتعلق بالدفاعات الجوية، وقد تواترت أنباء عن صفقات مرتقبة بين إيران والصين، لشراء مقاتلات صينية متعددة المهام، فضلًا عن أنظمة دفاع جوي لمواجهة أي انتهاك للسيادة الإيرانية.
وهنا يجب أن نقف على أبعاد الموقفين الصيني والروسي؛ حيث اعتقد البعض أنَّ كلًا من بكين وموسكو، لم يُبديا رغبة في الدخول في مواجهات غير مباشرة مع الولايات المتحدة، من خلال دعم طهران، عسكريًا، بينما أظهرت الصين وروسيا، دعمًا سياسيًا قويًا للغاية، سواء من خلال البيانات الدبلوماسية المُستنكرة للعدوان الإسرائيلي ثم الأمريكي، أو بتلمحيات عن أهمية تسليح إيران. وليس أبلغ من ذلك، تصريح ديميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، والرئيس الروسي السابق، بأنَّ إيران قد تحصل على سلاح نووي (رؤوس نووية) من أي طرف، ولا شك أن رجلاً بحجم ميدفيديف لا يمزح ولا يُلقي بالتصريحات جزافًا؛ بل هو يعلم يقينًا ما ينطق به. وهذا يعني أننا أمام احتمالين واردين؛ الأول أن إيران ربما تكون غيّرت عقيدتها النووية، وقررت امتلاك سلاح نووي، ليس من أجل العدوان على أحد، لكن بهدف الردع، وفي ذلك لن تكون إيران قد خالفت فتوى المرشد الأعلى الذي حرَّم استخدام السلاح النووي في الضربات العسكرية. أما الاحتمال الثاني، فيُشير إلى الخطوة التالية، وهي إما تصنيع السلاح النووي، من خلال اليورانيوم المُخصب بنسبة 60% والذي تملك إيران منه حاليًا أكثر من 400 كيلوجرام، وهي نسبة وكمية يقول الخبراء النوويون إنها قادرة على تصنيع سلاح نووي، لكن ليس بنفس كفاءة وقوة تدمير اليورانيوم المُخصَّب بنسبة 90 أو 95%. أو لربما تلجأ إلى شراء السلاح مباشرة من أي دولة نووية، مثل كوريا الشمالية أو الصين أو روسيا ذاتها!
المشهد الضبابي القائم حاليًا، يثير شهية بعض الأطراف لأداء أدوار بعينها، أو لتنفيذ مُخططات؛ فالمنطقة باتت تعيش فوق تنُّور ضخم، يتصاعد اللهب منه ولا أحد يعلم كيفية تفاديه، لكن هناك من يجمع الخيوط ويعُد العُدة لتفجير مُفاجآت، البعض منها مُتوقّع والآخر ربما لا. وهذا التوقعات لا تنفصل أبدًا عن قضية غزة الجريحة، التي ما تزال تنزف دمًا، في مذابح المساعدات، والطحين المعجون بدماء الأبرياء من سكان غزة الأبية. ويؤكد ذلك التسريبات المتتالية عن اعتزام الرئيس الأمريكي الإعلان عن وقف لإطلاق النار في غزة، وتنفيذ هدنة تستمر لمدة 60 يومًا، ومن بعدها يجري الاتفاق على وقف دائم ومستدام لإطلاق النار، بالتوازي مع إبرام اتفاقيات تطبيع أو معاهدات أمنية مع بعض الدول العربية، والمرشح الأبرز في هذا السياق: سوريا.
واختيار سوريا لم يكن عشوائيًا أو اعتباطيًا؛ بل قائم على رهانات محسوبة، تستهدف في المقام الأول والأخير، قطع شريان الإمدادات نهائيًا عن المقاومة في لبنان، وتهيئة الأجواء للتخلص من الحشد الشعبي في العراق بعد ذلك، من خلال كتائب ومليشيات طائفية مسلحة، تتقاتل فيما بينها؛ الأمر الذي سيضمن لإسرائيل مسلكًا سهلًا نحو إيران، إذا ما أرادت أن تُكرر مقامرتها الخاسرة مجددًا.
ويبقى القول.. إنَّ الهزيمة النكراء لإسرائيل في حربها مع إيران، ومحاولات دعم الولايات المتحدة لها والتغطية على هذه الهزيمة، تؤكد أنَّ هذا الكيان الهش ليس سوى نمر من ورق، ويتعين على دول المنطقة الاتحاد والوحدة لمواجهة أي عربدة صهيونية، تستهدف أمننا واستقرارنا، وهو ما يفرض بالتبعية الاعتماد على الذات، وتعزيز الوعي الشعبي بالمخاطر التي تُحدِّق بِنا، والسعي نحو الانعتاق من الهيمنة الأمريكية، التي لا تستهدف سوى سلب إرادة الدول بعد نهب مواردها وخيراتها، وما دون ذلك سيُفضي إلى مزيد من الهزائم النفسية قبل المادية، وسيسمح لثُلة من المتطرفين الصهاينة وتيار اليمين الأمريكي، أن يفرض سطوته على المنطقة، وتنفيذ مخططاتهم لما يصفونه بـ"شرق أوسط جديد"، أشبه بجمهوريات الموز والحدائق الخلفية للقوى الإمبريالية. وفي المرحلة القادمة الخوف كل الخوف من انزلاق بعض الدول العربية في تطبيع مجاني مع الكيان الصهيوني دون إعلان للدولة الفلسطينية حسب مخطط ترامب فيما يعرف بـ"مشروع الدرع الإبراهيمي"، الأمر الذي سيفقد هذه الدول شرعيتها وما تبقى من شعبيتها الفقيرة، ومما سيعرض المنطقة لانفجارات مستقبلية قادمة، ويحرمها من فرص السلام والتنمية، وهذا ما يريده ويطمح إليه أعداء الأمة "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".