لجريدة عمان:
2025-12-01@00:10:39 GMT

سؤال الوجود والمعنى: قراءة في ماهية العقل

تاريخ النشر: 25th, November 2023 GMT

جال بعقل الأديب الروسي الكبير «دوستويفسكي» سؤال ملّح قُبيل أنْ يُنفَّذَ عليه حكمُ الإعدام بعد أن قَدَّر الوقت المتبقي له في هذه الحياة -قبل إعدامه- بحدود خمس دقائق، وكان الخاطرُ الذي أيْقَظَ هاجسه: ماذا عليَّ أن أفعل في هذه الخمس دقائق المتبقية من حياتي قبل الولوج إلى عالم «الماورائيات»، الذي طالما غاصت عقول الفلاسفة في بحره العميق والمجهول؛ لبلوغ معناه وماهيته؟ فاهتدى «دوستويفسكي» إلى أن يجعل أول دقيقتين لتوديع أصحابه الذين سيعدمون معه، ودقيقة للتأمل في الوجود والنظر في فضائه المفتوح، وآخر دقيقتين لطرح أهم سؤال في الحياة: ما معنى الوجود؟ والإجابة عنه ، رغم أن «دوستويفسكي» نجا من تنفيذ حكم الإعدام في اللحظات الأخيرة، ومع ذلك صنعت تجربة الإعدام الوشيكة لدوستويفسكي عقدة نفسية انعكست إيجابًا في إبداع أدبي فريد من نوعه، ومنحت هذه الدقائق الخمس -حتى لو أخذنا بمجازيتها- مفهوما للإنسان والوجود والحياة والموت والمجهول.

طرح النمساوي «فكتور فرانكل» في كتابه المُلهِم «الإنسان والبحث عن المعنى» سؤالا مماثلا عن الوجود ومعناه إبّان فترة وجوده في المعتقلات النازية، وخَلُصَ إلى نتيجة مفادها أن الوجود يتبنّى المعنى، وأن الإنسان لا وجود له دون تحقق المعنى؛ فيكون السؤال عن الوجود والمعنى ملازما للعقل وبحثه.

بدأت الفلسفة -عبر تاريخها القديم والحديث- بأسئلة الوجود والبحث عن مفاهيم لعناصر الوجود وكلياتها، واتخذت العقلَ وسيلة لتفكيك هذا السؤال إلى أسئلة جزئية وسرد إجابات تُغلّف بغلاف المنطق والرياضيات والعلم، وفي حالات بغلاف الحَدَس -مع اختلاف مفاهيم الحدس عند الفلاسفة مثل الغزالي وديكارت-، ولا يمكن أن نختزل الفلسفة وسؤالها العميق في فلسفة ما؛ فجميع الفلسفات -وإن تعددت مآربها ومآلاتها- تسير إلى غاية معرفة الوجود والمعنى النابعة من تجليات العقل وضروراته المُلّحّة؛ فندرك «سقراط» فيلسوفا لا يبرز فلسفته إلا بغطاء المُحب للحكمة عبر حواراته مع السفسطائيين، وعبر شذرات أفكاره التي ينثرها للعامة والبسطاء؛ بغية استفزاز عقولهم للبحث في الوجود ومعناه، و«أفلاطون» بمثاليته الفلسفية البارزة عبر نظريته في المُثل معتقدا بوجودٍ صميمٍ آخر لا نرى إلا ظلاله التي لا تُظهر ماهية الوجود، ولا سبيل للعقل إلى بلوغه إلا بواسطة اليقين الفلسفي -وهذا ما أراه أنه ألهم «كانط»؛ فينعكس في فلسفته الشارحة لمقتضيات العقل المحض وبواعثه الوجودية-، وأتى «أرسطو» بمنطقه ومقولاته العشر التي لم تتزعزع كما تزعزعت بضربات «كانط» الفلسفية عبر مقولاته الاثنتي عشرة، وضربات «كوبرنيكس» التي أفقدت الأرض مركزيتها الراسخة منذ قرون طويلة.

جاءت الفلسفة العقلانية -في بعض فروعها وحالاتها- لتجعل من العقل «إلها» تَحْتَكِمُ إليه كل أسئلة الوجود وقضاياه المعقّدة، إلا أن «كانط» أحيا بفلسفته قواعد «أفلاطون» في المُثل، وأقام للعقل جدارا -لا سبيل لتجاوزه- يفصل بواسطته العقل عن الوجود الميتافيزيقي؛ فيركن العقل في وجوده الطبيعي «المحسوس»، وحينها لا سبيل للعقل إلى بلوغ منتهى الوجود ومعناه، إلا في حدود ظواهر الوجود عبر النشأة العقلانية والفعل التجريبي؛ إذ لا تنشئ المعرفة -حسب كانط- إلا بوجود العقل ومقولاته القبلِية -الاثنتي عشرة- وبالبدء بالتجربة التي تُؤسس بعدها إلى صناعة المعرفة وتحققها، وأما مقتضيات الإيمان فهي ضرورة مستقلة وجودها لا يُثبت بالعقل ولا بالتجربة، وهذا أشبه بمبدأ «الضمان الإلهي» الذي أعان «ديكارت» في تجربته الفلسفية في الشك المنهجي الذي آله إلى منتهى يقيني -كما لخصها في كتابه «مقال عن المنهج»-، وهذا ما يُحسب لتجربة أبي حامد الغزالي في تجربته السابقة لديكارت في الشك المنهجي؛ حيث إن الحدس والإلهام -دون حتمية العقل والتجربة- سبيلان -ممكنان- إلى محطة اليقين «الإيمان»، وهنا يكتمل مسار «كانط» بعدهما في نقده للعقل المحض، ويُبرهن بوجود ماهية للوجود لا تخضع لسلطة العقل وحتميته المطلقة؛ ليقدّم أهمّ عمل فلسفي استطاع الوقوف بوجه فلسفات مادية تَعشعشَتْ في داخلها منطلقات الإلحاد، ومع ذلك استدرجت فلسفة كانط العقل إلى شكيّة حديثة -تطورت مع الكانطية الحديثة- نعرفها بـ«اللاأدرية» غاب عنها مبدأ «الضمان الإلهي» -رغم تمسك «كانط» به بطريقة أو بأخرى-، وهذا ما أخضع المعرفة إلى سلطة جديدة لم تعدّ تحت مظلة العقل -كما أراد كانط- بل أعاد المعرفة إلى الوجود وطبيعته المادية؛ فتتشكّل سلطة العلم التي أبعدت العقل عن كل مقولاته القبلِيّة -سواء الأرسطية أو الكانطية-؛ فيكون العقل كأنه صفحة بيضاء -كما يقول الفيلسوف التجريبي الإنجليزي «جون لوك»- يكتب الوجود عليها وتجاربه منطلقات المعرفة وتفاصيلها، وتبدأ مرحلة التنوير الحديثة أو مرحلة ما بعد العقل؛ إذ يجد العقل -نفسه- مُبعدا عن سلطته الطاغية -السابقة-، ويعيش تحت كنف العلم وتجاربه، ولم تتحقق مآلات الفلسفة في فهم ماهية العقل ومغزاه؛ فتارة نرى العقل -حسب المنهج العلمي الحديث- مجرد أداة بيولوجية -تُفسر بآلية عمل الدماغ وتعقيده البيولوجي والتطوري- مهمتها التفاعل مع الوجود وصناعة المعرفة، وتارة نراه -حسب بعض المناهج الفلسفية- بمثابة وعيّ كلّيّ يعكس الوعيَّ الكوني الكلّي «الجمعي» بجميع وجوده وتجاربه؛ لينعكس في التجربة الفردية الساعية إلى نبش دفاتر المعرفة والبحث عن إجابات لأسئلة وجودية عميقة، وهذا مبحث يحاول العلم أن يتحد فيه مع الفلسفة عبر منطلقات علمية حديثة مثل نظرية الكوانتم -بحاجة إلى تفصيل مستقل في مقالات قادمة بإذن الله-، ومع ذلك يبقى السؤال مطروحا باحثا عن جواب: ما الوجود وما معناه؟ لتبقى الفلسفة صامدة أمام أسئلة العقل والوجود؛ لتقدّم كلّيات معرفية جوهرية بعد أن انحصر دور العلم في تناول جزئيات المعرفة دون التدخل في كلّيات الوجود ومعناه.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

بين وهج الضياء وغربة العتمة

الظلام والنور:

ألم تر أن الظلام لا يُذكر إلا والنور صنوه مُخالِفُهُ ماحِقُهُ، وكلما اتسع الظلام بان اختراقه من الوميض أو تلألؤ شعلة من نار مهما بعدت لتكون هداية إلى السبيل، لكن النار لا بد من وجود من يشعلها ولا بد من تحول المشاعل إلى رماد، فإن أتى الصبح بعد ليل بلا قمر استيقظت النفوس الساهرة منها والنائمة. أما الساهرة فمعايش نهضة الشمس يحس بأطياف الشعاع وهو ينتشر، والنائم يحتاج إلى وقت ليدرك أنه في الصباح بيد أنه لم يك يحس بمعاني الظلمة عندما يقترب الخوف مع معانقة غريزة البقاء خيال البشر وأسر تفكيره، كل هذا لا يصف الظلام ولا النور إلا من معاناة من لم يحس بمعاناته من ظرفه.

أما معنى الظلام فهو الفضاء كله لكنه يتمزق عندما تجهد بدورانها الكواكب لتواجه الشمس فتشرق، بيد أن الشمس ليست آمنة إلا في كوكب كالأرض تحيطه دروع تصفي وتنقي أشعة الشمس التي تستنير بها والتي لولا دروع الأرض لأبادت من على الأرض، لذا كانت الأرض الأم للبشرية ليست كتراب فحسب، بل كطبقات الهواء التي تغلف الأرض إلى يوم الوعيد،وفي المقابل حين تلامسنا الشمس بنورها ترسم الظلال الممتدة، كأن الضوء لا يكتمل إلا بصحبة العتمة. الطفل يخاف الغرفة المظلمة، والعجوز يغلق عينيه أمام توهج النهار، كلاهما يواجه حقيقة أعمق: النور والظلام ليسا خارجنا فقط، بل فينا ومعنا.

الظلام والنور: جدلية الوجود والعدم بين الرمز والحقيقة

ومع توالي المدنيات، أصبح الظلام والنور رمزين متلازمين للخير والشر، الجهل والمعرفة، الغياب والحضور، بل وحتى الحياة والموت. لكن، هل هما خصمان يتصارعان في كينونة الكون والإنسان؟ أم أنهما وجهان متكاملان لحقيقة واحدة؟ النور دائما مرادفا للوعي، والحقيقة، والإلهام كما الظلام يصف الجهل في الانطباع العام، هكذا تعارف الناس واصطلحوا على فهمه، وشبهوا الشر بالسواد ولا يختلف في تشبيه الشر أفريقي أسود عن ناصع البياض؛ في الفلسفة اليونانية، اعتبر أفلاطون النور صورة الخير الأسمى في "محاورة الكهف"، حيث يخرج السجين من الظلام إلى ضوء الشمس، فيكتشف الحقيقة بعد الوهم. والنور صفة إلهية: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"؛ أي أنه مبدأ الإشراق والمعرفة والوجود. النور هنا ليس فقط ما يُرى بالعين، بل ما يُدرك: لحظة الوعي التي تُبدد الجهل، فكرة تولد وسط الفوضى، أو حب يسطع في قلبٍ مظلم باليأس، أما الظلام فهو الشر والجهل كناية عما لا يدرك، هو خيالات كهف أفلاطون، هو أنت في الأمس نسبة إلى معرفتك ووعيك اليوم، لذا كان وما زال الانتقال من الجهل بالله إلى الإيمان تغييرا ثوريا يصعب تفسيره إلا بشروق يوم أو مرحلة جديدة من الحياة.

الظلام هو السائد لكن النور القليل يجعل تعريفا للواقع هذا معروف وهذا ليس معروفا، فمن بقي على انطباعات أهل كهف أفلاطون فهو سيبقى في الظلام رغم وجود النور الخلفي الذي لا يولد إلا الخيالات، المؤامرة التي هي قدر مقدور، الأنا الطاغية، الركض وراء الأوهام وتسخيف العلم والعلماء، كذلك هم سجناء خيالات كهف أفلاطون.

إن لم تبحث فأنت ستكون بعلمك كالكرة الأرضية من الظلام مع شمعة في صحراء تسمع عواء الذئاب وينسكب ماؤك، فلا أنت تنام ولا تشرب ولا تستطيع السير بعيدا، ذلك مثل من وصل تمام العلم في ظنه وراح يحكم على العلم والعلماء من ظلام جهله، لكن الحقيقة أن الإنسان مهما بلغ من علم ومعرفة فهو ما زال لم يصل الغاية، وإنما عليه أن يبحث ليفهم وليكون خروجه من الحياة أفضل حينما يترك شموعا يستنير بها من بعده فيكمل صناعة الحياة.

جدلية التوازن: المعرفة شموع لم تشعل فتائلها

الثنائية بين النور والظلام سباق مساحات يتقدم فيها نور المعرفة فإن وجد من يتفكر وينمي ويستنبط بعد قراءة واقعه انحسر الظلام عن مساحة أوسع، فإن لم يجد فإن المعرفة شموع مكدسة لا تكون فاعلة إلا إن وجدت من يشعل الفتيل، لذا فالمعرفة لا تطرد الجهل بل قد يستعين الجهل بها ما لم يك تفكرا يشعل فتائل المعرفة لتكون نورا، أو تكون كمن اشترى سلاحا يقتله. ولعلنا نميز بين الظلام وظل الضوء، عندما يأتي المفكر بالجديد فتتصوره ظلاما، فلا ظل إلا نابع من مصدر ضوء، وليس مدرك النور حين يدركه مثل من جرّب الظلام.

الظلام هو إطار للنور، محيط به؛ من أجل هذا قال الإسلام إننا لا نكره الإنسان بل نكره فعله أو انحرافه عن الرأي السديد ولكل علاجه وظرفه؛ فإن تاب أتى كما ولدته أمه "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ" (التوبة: 6). من أجل هذا كان سيف الله المسلول وكان عمر أمير المؤمنين، وتحول كفار الأمس إلى دعاة هداة للعالمين، وإلا فإن قتلت مخالفك فلا دعوة ولا عزوة ولا حياة؛ الحكمة تكمن في التوازن بين من عاش في النور الدائم وقد يعمى عن التفاصيل، ومن غرق في الظلام فقد يغطي عينيه منبهرا ويعود إلى الكهف ما لم يشهد نسائم الصبح وخيوط الشمس تبشر بيوم جديد.

خاتمة:

إن الظلام واسع، والشر قادر ومتمكن لأنه الأكبر دوما، فتفعيل البصيرة غير البصر، وكم من أعمى يرى ما لا يراه ذو العينين. نحن في الأرض لامتحان منظومتنا العقلية، فعلى قدر فاعليتها يتسع النور من حول الناظر، فإن أغمض عينيه أو لم يشعل شموع المعرفة بقيَ قانعا بظلمة انطباعاته أو ما تلقى، ويظن أنه يعيش في النور، فلا بد من إشعال شموع المعرفة ولا يكتفي بتكديسها أو القناعة بها انطباعا وظنا وتجميد الفكر؛ ذلك مثله كالحمار يحمل أنواعَ الغذاء وهو جائع.


مقالات مشابهة

  • أمريكا تمنح مادورو مهلة للرحيل وتشدد الوجود العسكري قبالة السواحل الفنزويلية
  • «قمة بريدج» تطلق أمسيات «بريدج الترفيهية»
  • الفلسفة الراهنة في مواجهة التحديات المعاصرة
  • الاقتصاد الإنتاجي في العالم العربي
  • بالفيديو.. البابا يجذب الزائرين إلى لبنان
  • سؤال في النواب للمطالبة باسترداد آثار مصر بالخارج
  • د. هبة عيد تكتب: دمعة لا تجد سؤالًا صادقًا
  • بين وهج الضياء وغربة العتمة
  • إعادة تشكيل العقل الجمعي في العصر الرقمي
  • موضوع خطبة الجمعة اليوم .. كن جميلًا ترى الوجود جميلًا