الإمام وثورة ديسمبر
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
الإمام وثورة ديسمبر
رشا عوض
تمر اليوم الذكرى الثالثة لرحيل الإمام الصادق المهدي- عليه رحمة الله ورضوانه- الذي كان قبساً من نور في هذا العالم، رحل تاركاً بصماته المضيئة وسيرته المجيدة كرمز من رموز الديمقراطية في السودان، ورائد من رواد التجديد في الفكر الإسلامي، وكمناضل تصدى لكل الدكتاتوريات وتقدم كل الثورات.
رحل حامل المسك من هذا الوطن فاستوطنت رائحة الجثث والبارود والكراهية!
كان الراحل المقيم في صدارة الفعل والتفاعل الفكري والسياسي على مدى ستين عاماً من تاريخ السودان المستقل، وبالتالي فإن مسيرة حياته العامة، وكيفية تعاطيه مع الأحداث المفصلية، وما راكمه من رؤى وأفكار في تفسيرها، وما خرج به من استنتاجات وخلاصات حولها، شكلت إضاءات لا تكتمل رواية أو قراءة ذلك التاريخ إلا بها، وفي هذا السياق محطات عديدة يمكننا التوقف عندها.
لكنني أتوقف في هذه الذكرى عند محطة ثورة ديسمبر التي كان للإمام موقفا واضحا ومعلنا في تمجيدها ودعمها والمشاركة في إنجاحها، وكان ذلك الموقف تتويجاً لتاريخ طويل من التصدي لنظام الإنقاذ منذ يومه الأول والتعرض للسجن والتعذيب والتهديد ومحاولات الإغتيال الجسدي والمعنوي والتشريد، ولكن رغم ذلك ثابرت الأبواق الإعلامية لنظام البشير أثناء ثورة ديسمبر على تصوير الإمام الصادق المهدي كعدو لها ومتطفل عليها، وبكل أسف تواطأ مع هذه الحملة الظالمة بعض المختلفين مع الإمام فكرياً وسياسياً فرددوا أكاذيبها لأنهم يرغبون في إزاحته من الملعب السياسي بالأكاذيب وإغتيال الشخصية لا بالتنافس السياسي الشريف والمحاججة المنطقية.
الأبواق الكيزانية اختزلت موقف الإمام من الثورة في عبارة “بوخة المرقة” التي ما زال البعض يرددها حتى الآن! وهي جملة عابرة قالها في مؤتمر صحفي في سياق الرد على من يقللون من دور حزب الأمة في الثورة وتأكيد أن مشاركة الحزب في الفعل الثوري ليست مجرد “بوخة مرقة” كما يفعل البعض، هذه العبارة انتزعت من سياقها تماماً وروج لها الإعلام الكيزاني على أساس أنها هجوم على الثورة واستخفاف بها!.
ماذا قال الإمام الصادق المهدي عن ثورة ديسمبرفي مسجد الهجرة بودنوباوي في 25 يناير 2019م وعندما كان الحراك الثوري مشتعلاً والبشير ما زال متشبثاً بالسلطة وقمع الثوار قال الإمام الراحل بالنص في خطبة الجمعة- وهي مسجلة بالصوت والصورة تناقلتها الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي:-
“هذا الجيل من أبنائنا وبناتنا أظهر الآن حماسة وبسالة منقطعة النظير. لقد تحملوا مساوئ النظام في التعليم والعطالة، وحافظوا على قوة الإرادة وبسالة الوطنية كما شب موسى عليه السلام في بلاط فرعون.
*برز في نهج الثوار رفضاً تاماً للعنصرية والفتنة الإثنية التي عمقها النظام.
*أظهر التحرك الشعبي طاقات رائعة في الفنون التشكيلية والغنائية والشعر واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكفاءة عالية.
*الهبة الشعبية هذه المرة أظهرت مثابرة استمرت حتى الآن أكثر من شهر رغم العنف الفعلي واللفظي، وما زالت العزيمة صاعدة.
*أرباب وربات البيوت أظهروا عطفاً بالغاً على أبنائنا وبناتنا المطاردين في الأحياء.
*الأجهزة الإعلامية العربية والدولية كشفت الحقائق بصورة موضوعية ومستمرة. كما فعل كثير من الكتاب السودانيين وغيرهم. لقد جمعنا قائمة بأسماء هؤلاء الأحرار لتكريمهم إذ لم يخشوا في الحق لومة لائم.
*الالتزام المثير للإعجاب بالأخلاق السودانية الحميدة، وتمسكهم بالسلمية في الغالب في وجه البطش الدموي ما عرى النظام وأظهر نبل الثوار ووعيهم المتقدم.
* كان للسودانيين في الخارج، السودانيون بلا حدود، دور مهم في التجاوب مع نهضة وطنهم. كما أن الرأي العام العالمي، ما عدا المؤلفة جيوبهم، قدر مشروعية حركة التحرير الوطني.
* أبدت الدول ذات القيم الديمقراطية بالإجماع تأييدها لحرية التعبير السلمية، وإدانتها لقتل وحبس الذين مارسوا حقهم المشروع في التعبير السلمي.
أحبابي وأخواني
نحن نؤيد هذا التحرك الشعبي، داعين لتجنب أية مظاهر للعنف المادي واللفظي. وندين قتل الأحرار والعنف المفرط الذي مورس ضدهم، بتشجيع من فتاوى حكام باطلة وظالمة تبرر العنف والقتل واستخدام الرصاص الحي ضد مواطنين عزل. وكما قال الشاعر العراقي: القاتل من أفتى بالقتل وليس المستفتي.
بلغ عدد الشهداء حتى الآن خمسين شهيداً، والجرحى أضعاف ذلك. وبلغ عدد المحبوسين مئات من المواطنين والمواطنات. رحم الله الشهداء الذين سوف نصلي عليهم صلاة الغائب بعد الفريضة، ونسأل الله للجرحى عاجل الشفاء، ونطالب ونعمل على إطلاق سراح المعتقلين فإنهم مارسوا حقوقاً إنسانية ودستورية. ونطالب بلجنة تحقيق ذات مصداقية لا لجنة الخصم والحكم، لجنة تشرف عليها اللجنة الفنية التابعة للأمم المتحدة لتجري تحقيقاً في كل هذه الممارسات الباطشة لمعرفة الحقائق ومساءلة الجناة.” انتهى الاقتباس من الخطبة.
فهل هذا الموقف له علاقة بمعاداة الثورة؟! أم انحياز مبدئي لها خصوصاً أن الخطبة كانت في 25 يناير 2019 أي عندما كانت الثورة في منتصف الطريق ولم تنتصر بعد!
ان حكاية “بوخة المرقة” ما هي إلا نموذج صغير لما تفعله أبواق الأنظمة الدكتاتورية في تضليل الرأي العام وتكريس سردياتها عن الأحداث والأشخاص بما يخدم أهدافها في تقسيم الصف الوطني وزراعة الكراهية والفتن عبر ترويج الأكاذيب، وهذا يستوجب السعي لمعرفة الحقائق، والالتزام الأخلاقي بعدم استخدام الأكاذيب في تصفية الحسابات السياسية ضد الخصوم أو المنافسين السياسيين، لا سيما أن السودان في هذا الظرف التاريخي العصيب يحتاج إلى تعميق ثقافة العمل المشترك بين تياراته المختلفة ومن ثم بناء “كتلة تاريخية” قادرة على انتشاله من واقع الحرب التي تهدد وجوده.
ما زال الحزن حياً والخاطر مكسوراً، والعزاء في بشريات خطها الحبيب فكراً وصدقها فعلاً وتاج هذه البشريات: “الديمقراطية في السودان عائدة وراجحة”!
هو عنوان كتاب كتبه في سجن كوبر بعد انقلاب الإنقاذ المشؤوم، كتبه بعد ليلة من التهديد والوعيد والإيذاء بواسطة ضباط أمن اقتادوه من سجن كوبر إلى أحد بيوت الأشباح وأحضروا كاميرات تلفزيونية لكي يسجل لهم شهادة بأن النظام الديمقراطي في السودان قد فشل فلم يفعل! طبت مقاماً في الخالدين أيها الحبيب!
الوسومالإمام الصادق المهدي البشير السودان النظم الدكتاتورية ثورة ديسمبر رشا عوض مسجد الهجرة نظام الإنقاذالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الإمام الصادق المهدي البشير السودان ثورة ديسمبر رشا عوض مسجد الهجرة نظام الإنقاذ ثورة دیسمبر
إقرأ أيضاً:
الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر: الإمام أبوحنيفة وضع حلولا لمسائل مستقبلية
عقد الجامع الأزهر أمس الاثنين، الملتقى الفقهي التاسع عشر بعنوان «رؤية معاصرة»، وذلك تحت عنوان: «الإمام أبو حنيفة وقضايا الأحوال الشخصية»، برعاية فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وبتوجيهات من الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر الشريف.
واستضاف الملتقى كلًّا من الدكتور محمد صلاح، رئيس قسم أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، والدكتور حسين مجاهد، المساعد بقسم الفقه المقارن بالكلية ذاتها، وإدارة الشيخ أحمد سنجق، منسق رواق القرآن الكريم بالجامع الأزهر، وذلك عقب صلاة المغرب بالظلة العثمانية.
وقال الدكتور محمد صلاح حلمي، رئيس قسم أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، إنّ الإمام أبا حنيفة النعمان، رحمه الله، اشتهر بلقب «الإمام الأعظم»، ويُدرَّس علمه وفقهه في الأزهر الشريف، ويلجأ العلماء إلى مذهبه في كثير من المسائل التي تعترضهم فيها الشدة أو تضيق فيها الخيارات، لما في فقهه من سَعَةٍ ورحابةٍ وتيسير.
وأضاف أنّ الإمام أبا حنيفة كان مفكرًا لزمانه، ولم يقف عطاؤه عند حدود عصره، بل استشرف المستقبل وسعى لحلّ مشكلاتٍ قد تطرأ في أزمنة لاحقة، وهي سمة عظيمة من سمات فقهاء الأمة الذين لا يحصرون تفكيرهم في المكان والزمان، بل يوسّعون نظرهم للبشرية جمعاء.
وأوضح أن من أبرز ما عُرف به مذهب الإمام أبي حنيفة أنّه يُعنى بإيجاد الحلول الفقهية للمسائل الافتراضية، وهو ما سمّاه بعض النقّاد بـ«الفقه الفرضي»، في محاولة للنيل من هذا المنهج، لكنه في حقيقته علامة على عظمة اجتهاد الإمام وعمق رؤيته، إذ إنّه لم يكتفِ بحلّ مشكلات عصره، بل نظر بعين المجتهد المُبصر إلى الأجيال القادمة، وطرح حلولًا لمسائل لم تقع في زمانه، لكنّها ظهرت في أزمنتنا، فوجد الناس في مذهبه مخارج فقهية معتبرة، وسبلًا لتيسير شؤون حياتهم، خاصة في قضايا الأحوال الشخصية.
وأشار إلى أنّ من سمات المذهب الحنفي أيضًا سعيه الدائم لتيسير حياة الناس ورفع الحرج عنهم، وهو ما جعله يُجيز استخدام الحِيَل المشروعة، التي يُراد بها الخروج من الضيق والشدّة، لا التحايل على الدين أو إسقاط التكاليف.
وأكّد أنّ العلماء فرّقوا بين الحِيَل المذمومة التي يُراد بها إسقاط الأحكام، وبين الحِيَل المحمودة التي يُقصد بها رفع الضرر عن الناس وتيسير أمورهم، مبينًا أنّ هذه المخارج الفقهية المنضبطة تُعدّ من رحمات هذا الدين، ومما يدلّ على مرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان.
من جانبه، قال الدكتور حسين مجاهد، الأستاذ المساعد بقسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، إنّ الوسطية التي تميّز بها منهج الأزهر لا تعني التسيُّب، بل هي اعتدالٌ حقيقيٌّ تتجلى بوضوح في تدريس المذاهب الفقهية الأربعة، مشيرًا إلى أنّه تعلّم في رحاب هذا الصرح العريق أن من قلّد عالمًا لقي الله سالمًا، وأنّ رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب.
وأضاف أنّ من أبرز ما نهله من الأزهر رفضُ التشدد والتنطع والتشبّث بالرأي، واحترامُ الرأي الآخر وإن خالف، وهو خُلق توارثه العلماء عن الأئمة الأربعة.
وأوضح «مجاهد» أن من أبرز السمات التي علّمها الأزهر لطلابه احترام العلماء بعضهم لبعض، وأن الأئمة الكبار كانوا لا يتقصدون مخالفة بعضهم، بل كانوا إذا اجتهدوا أبدعوا، وإذا اختلفوا تأدبوا، مشيرًا إلى أنّ هذه الروح العلمية هي ما تربّى عليه الأزهريون في هذا الصحن العريق.
وأشار إلى ما يثار عن حقوق المرأة بأن الشخصية المصرية بطبعها تحترم المرأة وتُجلّها، منذ فجر التاريخ، وأنّ الإسلام جاء مؤكّدًا لهذه الحقيقة، مستدلًّا بقول الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾، وقول النبي ﷺ: «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ».
وأضاف أنّ كتب الفقهاء الكبار مليئةٌ بالنصوص التي تُبيِّن مكانة المرأة وإعلاء شأنها، لكنّ بعض المستشرقين ومن تأثر بهم يُخرجون اجتهادات فقهية كانت تناسب عصورها ليُظهروا بها الفقه الإسلامي على غير وجهه، وكأنّه جامد لا يصلح لعصرنا، موضحًا أن من القواعد الكبرى في الفقه أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص. واختتم حديثه بالتأكيد على أنّ التراث الفقهي بحرٌ زاخر لا يليق أن يخوضه إلا الغوّاص الماهر، قائلاً: «في تراثنا الفقهي قراءةٌ تقدمية سبَق فقهاؤُنا بها عصورهم».
وفي ختام الملتقى، أكّد الشيخ علي حبيب الله، الباحث بالجامع الأزهر، الذي أدار فعاليات اللقاء، أنّ موضوع الملتقى يُعالج قضية غاية في الأهمية، وهو الربط بين فكر الإمام أبي حنيفة النعمان ومسائل الأحوال الشخصية.
وأشار إلى أنّ الناظر في مذهب الإمام الجليل يدرك أنه يُعدّ مذهب أهل الرأي، لما امتاز به من سعة اجتهاد وبُعد نظر.
وأضاف أنّ كثيرًا من المسائل لا يجد فيها الفقيه مخرجًا فقهيًّا يُواكب واقع الناس إلا في اجتهادات الإمام أبي حنيفة، وهو ما يفسّر اعتماد قانون الأحوال الشخصية في كثير من مواده على مذهبه، والرجوع إليه في مسائل متجددة تمسّ حاجات الناس اليومية، مما يدلّ على عمق فقه هذا الإمام ورسوخ مدرسته في خدمة المجتمعات الإسلامية.