لجريدة عمان:
2025-05-19@15:09:39 GMT

نوافذ: حلمٌ يُعيدُ فلج «صعراء» للحياة !

تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT

«حلمتُ والدي المتوفى يُناديني في مزرعة خضراء في الجانب الشرقي من واحة صعراء بالبريمي، أخبرني بأنّه لا يستطيع المشي ويريد الذهاب إلى حوض الماء، فتوكأ على كتفي»، هذا ما أخبرنا به طالب بن أحمد الجابري -عندما دُعيت من قِبل صديقات عزيزات لزيارة الواحة أثناء إقامتي أيام الملتقى الأدبي٢٦- ولم أكن أعلم بوجود قصّة عجائبية وراء المكان الخلاب! عاش الجابري طفولته في واحة صعراء -التي يبلغ عمر فلجها أكثر من ٣٠٠٠ سنة- راكضا بين بيوتها ومزارعها، فتناقص ماء الفلج حتى جفّ عام ٢٠٠٠ بصورة نهائية، فتوجع الناس وماتت الواحة لأكثر من ١٥ عاما!

«عندما كنتُ أذهب إلى مسجد الشريعة أشعر بغضب داخلي؛ لأنّي أرى مباني الجانب الآخر بوضوح، بعد أن كانت تحجبها كثافة الأشجار»، فتتبع الجابري -بخبرة بدائية- أمهات الفلج، حاول جاهدا إقناع الأهالي بوجود حياة ما، لكنّ أحدا لم يصدقه، فالانهيارات والانسدادات حبسته في أعماق سحيقة.

«لم أكن أستطيع بمفردي فعل شيء ما، كنتُ محاصرا بالرفض من المؤسسة الرسمية ومن الأهالي؛ لأنّه مشروع مُكلف وبلا ضمانات!»

في صورة بالغة الدراماتيكية تبدى للجابري أنّ والده الذي يناديه في الأحلام هو الفلج المحبوس والراغب في أن تدب فيه الحياة. فقد كان الفلج الحزين بلا «وكيل» يرعاه، بينما الزحف العمراني والمخططات السكنية تكاد تمحو أي أثر له!

في البدايات خسر الجابري فسحة الدعم المالي لكنه حصل على غطاء قانوني، فأخبر أمّه بما عقد العزم عليه، فذهلت لأنّ حلم ابنها تجاوز المنطق فلا يسكن الفلج إلا الثعابين والشياطين! لكنها عندما لاحظت إصراره المتين قالت: «ليس لدي ما أعطيك إياه غير عصا تهش بها ما يعترض طريقك والدعاء».

حاصره الجميع بالتخلي، فقرر أن يُوثق لحظاته عبر صفحته في السوشال ميديا بواسطة كاميرا معلقة على رؤوس العمال تبث العمل أولا بأول، لكن مرّت الأيام ولم يكن ثمّة تجاوب يذكر!

بعدها جاء اثنان من إخوته لمعاضدته، ثمّ جاء أبناء وكيل الفلج يحركهم الفضول والشغف، فجلسوا على حصير تحت السمرة يترقبون المجهول الذي ستكشفُ عنه الأيام!

حفر «الشيول» إلى عمق ٧ أمتار! ثمّ اضطر لاستئجار «حفار» من صحار، بلغت يوميته ١٦٠ ريالا والناقلة التي تحمله وتعيده ٢٢٠ ريالا.

«استمر الأمر لمدة أسبوعين، حتى وصلنا إلى سقف قناة الفلج بعمق ١٤ مترا، ولم يعد الحفار قادرا على التعمق أكثر، فطلبتُ من صاحبه وضع درج لنتمكن من إخراج الطمي بأيدينا.

أنزلني العمال بالحبل، مصحوبا بعصا أمّي ومصباح إضاءة وهاتفي للتوثيق، فتمكنتُ من إحداث فتحة صغيرة، فرأيتُ منظرا لا يمكن لي أن أنساه ما حييت. رأيتُ الماء المحبوس في الأعماق، ولم أعرف آنذاك إن كان عليّ أن أبكي أو أن أبتهج، استعدتُ الحلم فسلمتُ على «أبي» الفلج: السلام عليك يا أبي، أعتذر لأنّنا تأخرنا عليك، وأعدك ألا نرفع أيدينا عنك حتى نوصلك لأمّنا قاصدا «الواحة».

رفع الجابري التغطية على صفحته، فانتشر المقطع هذه المرّة بصورة لافتة، فقد رأى الناس لأول مرّة قناة الفلج من الأسفل وكمية المياه المسجونة.

بالتزكية أصبح الجابري وكيلا للفلج الذي فُتح له حساب خاص، فبدأ العمل المؤسسي بتشكيل فريق متكامل، وخلال أيام قليلة جمعوا أكثر من ١٣٠ ألف ريال من الأهالي فقط.

«في يوم ٢٧ يناير ٢٠١٧، بعد صلاة العشاء، تدفقت الحياة في شرايين الفلج الميتة، وحلقت البشرى في أرجاء البريمي، فاستقبله الناس بالأهازيج والغناء، وبقينا حتى الواحدة ليلا غير مُصدقين. عانقتُ أمّي الفرحة: أبوك رجع».

آنذاك تأكدت الجهات الرسمية من صدق النوايا وجديتها فبدأت المساندة الحقيقية فحصلوا على مكرمة سامية تُقدر بمليون ونصف من جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-، ثمّ أكمل السلطان هيثم بن طارق الخُطى النبيلة.

أدرج الفلج في رؤية عمان ٢٠٤٠، وانتقلت هذه التجربة لإنعاش أفلاج أخرى في عُمان، كما سافر الجابري لبلدان شتى ليتحدث عن تجربته.

شاهدتُ بعيني الصور القديمة التي تُظهر الواحة القاحلة وكيف تحولت لجنة خضراء. ثمّة بط يسبح وممشى رياضي، وفرق مغامرين تمضي، وأكشاك للأسر المنتجة، فسحة صغيرة لقراءة تاريخ الأجداد وشقائهم، وفي رأس الجابري وفريقه أحلام أخرى لإحياء البيوت القديمة، شعرتُ بتأثر شديد وهو يقول: «لا أريد أن أرى شجرة ميتة هنا».

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

بين الجَغِم والبلّ: خرائط الموت التي ترسمها الجبهة الإسلامية على أجسادنا

إبراهيم برسي

في بلادٍ تكسّرت فيها البوصلات، ولم يتبقَّ للناس سوى البكاء على ما لا يُبكى عليه، وجدنا أنفسنا في زمنٍ تُحكمه مفردتان فقط: “الجَغِم والبلّ”. ليستا مجازًا، بل تقنية للقتل الشعبي، تُمارَس في وضح النهار، ويباركها العقل المغسول تحت إيقاع أناشيد الحرب.

“الجَغِم” لم يعد فعلاً بدائيًا لشخص يبتلع ما ليس له، بل تحوّل إلى ماكينة مؤسسية تلتهم الذهب، والنفط، والموتى، وتُنتج بلاغات وفتاوى.
أما “البلّ”، فقد صار طقسًا شعبيًا لإضفاء الشرعية على هذا الجشع. كلمة تُقال بصوت خافت، لكنها تحمل في طيّاتها استسلامًا جماعيًا. كأنك تقول: دع الأمر للقدر، فالعدو دائمًا هو الآخر، والحرب دائمًا هي الحل.

تقول عالمة النفس الفرنسية ماري فرانس هيريجوين:
“الأنظمة السلطوية لا تحتاج لإقناعك، بل فقط لإرباكك، لتخلق مساحة ذهنية تُمكِّنها من غرس أفكارها كحقائق.”

وهذا بالضبط ما فعلته الجبهة الإسلامية حين تسلّلت إلى المؤسسة العسكرية، لا كضيف، بل كمضيفٍ أعاد تعريف معنى الوطن، والعدو، والموت.

في بورتسودان، تُدار الدولة من ثكنة عسكرية، ويُحكم البلد عبر فتاوى القهاوي.
في نيالا، يُدفن الموتى دون أسماء.
في الفاشر، صارت المقابر أكبر من المدارس.
في أم درمان، تُخفي العائلات أبناءها لا من العدو، بل من الجيش.

ولفهم ما نحن فيه، لا بد أن نتذكّر ما حدث في رواندا عام 1994.
حينها، لم يكن السلاح هو المشكلة، بل الكلمة. في راديو “ميل كولين”، كانت الأغاني الشعبية تُغنّى، ثم تتبعها دعوة صريحة:
“اقطعوا التوتسي كالأنشاب.”

هكذا تبدأ المجازر: بمصطلحات تبدو عفوية، بعبارات يُردّدها الناس دون إدراك، ثم ينفجر العنف.

“بلّ بس”، اليوم، تُشبه تمامًا تلك العبارات. تُفتح بها أبواب الجحيم، وتُشرعن بها مجازر لا تُشبه المجازر، بل تُشبه النشيد الوطني بصيغة جنائزية.

يقول أنطونيو غرامشي:
“الهيمنة لا تتحقق بالعنف وحده، بل بالموافقة الصامتة للمقهورين.”

وهذه الموافقة هي ما تفعله الجبهة الإسلامية كل يوم، حين تحوّل المواطن إلى “متلقٍ”، ثم إلى “مُبرِّر”، ثم إلى “جلّاد”، باسم الدولة أو الدين أو القبيلة.

أما الذين يجغمون بالفعل، فهم ليسوا على الجبهات، بل في البنوك، في دبي، في أنقرة، في الدوحة، وفي القاهرة.
يجغمون العقود، والشركات، والذهب، والمستقبل.
يحرقون البلاد، ثم يتهمون المواطن بأنه لم “يبلّ بما فيه الكفاية”.

هل هذا وطنٌ أم مسرح عمليات؟
هل هذه حربٌ أم إعادة تموضع للجبهة تحت رايات جديدة؟
هل ما زلنا بشرًا، أم مجرّد وقود بين “الجَغِم والبلّ”؟

لكننا نعرف.
نعرف أن الجبهة لا تحارب لتنتصر، بل لتحكم.
وأن المواطن لا يموت فقط، بل يُعاد إنتاجه كأداة للقتل.
نعرف أن “الجَغِم” صار مصيرًا، و ”البلّ” صار عقيدة.
لكننا، رغم كل شيء، نعرف.
ومن يعرف، لا ينجو بالمعرفة… بل يُساق بها إلى النفي.

أشد أنواع الغسيل دموية، ليس ذاك الذي يُبيّض القميص، بل الذي يُغطّي الجريمة بلون الراية.
وحين تتدفق الأكاذيب من الشاشات إلى الدماغ، يتحوّل المواطن إلى جندي دون أن يرتدي الزي العسكري.
يضحّي بابنه، ويصفّق لمن نهب راتبه، ويقولها دون تفكير:
“بلّ بس… نحنا في معركة وجود وكرامة.”

تستعيد ذاكرتنا نموذج سيراليون، حيث تحوّل الأطفال إلى قتلة باسم “الوطن”.
تقول الباحثة الكندية نومي كلاين:
“حين يُعاد تعريف العنف كضرورة أخلاقية، تنهار البنية النفسية للإنسان، ويصبح القتل فعلَ طمأنينة.”

وهذا ما نراه:
مواطنون يتعاملون مع الحرب كأنها زواج مقدّس، ومع الموت كأنه استثمار مضمون في سوق الوطنية.

في “الخوي والنهود”، لم يعد الناس يتساءلون عمّن هو على حق، بل عمّن لا يزال على قيد الحياة.
في “دنقلا وكسلا”، لا يُسأل الأب عن حلم ابنه، بل عن موقعه على الخارطة:
في الجيش؟ في الدعم؟ أم في المقابر؟

السودان اليوم ليس بلدًا، بل سجن مفتوح يدور فيه الحارس والضحية في حلقة “بلّ وجَغِم”، بين رصاصتين، ورايتين، وبيانين.

نحن الذين كُتب علينا أن نعيش بين “الجَغِم والبلّ”، لا نملك حتى ترف الصمت.
لأن الصمت نفسه صار مشاركة في الجريمة.
لأن “البلّ” اليوم يعني أنك قبلت أن تُمحى،
و ”الجَغِم” يعني أنك صرت جزءًا من ماكينة المحو.

وحدهم الذين لا يبلّون ولا يجغمون، من يكتبون بأجسادهم معنى الوطن.
أما الباقون، فقد اختاروا شكلهم في الجنازة: بين قاتلٍ يبتسم، ومبرّرٍ يبرّر، وجثةٍ تصفّق في الغياب.

الوسومإبراهيم برسي

مقالات مشابهة

  • بين الجَغِم والبلّ: خرائط الموت التي ترسمها الجبهة الإسلامية على أجسادنا
  • دعامي يحكي أنّ ظلمَ المليشيا بات أكثرُ فداحةً مِنْ ظلم الدولة التي قاتلها
  • شيخة الجابري تكتب: الإمارات تصنعُ الدهشة
  • عشرة قتلى في هجمات شنها مسلحون مرتبطون بتنظيم داعش على محمية للحياة البرية في موزمبيق
  • عودة البريمي مَقيظًا مُستداما
  • ما سر الحشرة الزومبي التي تخرج بالملايين في أميركا كل 17 سنة؟
  • الكائنات الغريبة التي لم نعهدها
  • أروى السعودية تُعيد “دق التليفون” للحياة..
  • ما هي المخالفات التي تُحجز بها المركبة ومدة حجزها في الأردن
  • أبو الغيط: العراق هو الدولة الأولى التي تترأس القمتين السياسية والاقتصادية