التبعية.. أقنعة تسقطها الأزمات
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
ينطلق مفهوم «التابع والمتبوع» من العلاقة القائمة بين أي طرفين؛ - سواء على مستوى الفرد؛ أو على مستوى المجموعة - أحدهما يملك من معززات القوة ما تجعله يفرض شروطا قاسية على الذي يود التعامل معه، وهو تعامل قائم على بسط الهيمنة والقوة والتعالي؛ وإلا فكيف يكون متبوعا؟ وأما الطرف الثاني «التابع» فهو الطرف الضعيف في هذه المعادلة، يتلقى أوامر ونواهي الطرف الأول، ويمتثل له في كل صغيرة وكبيرة؛ اقتنع بذلك أو لم يقتنع، والصورة في مجملها قائمة منذ الأزل، ومعاشة في كل عصر، وبالتالي فهي ليست علاقة جدلية سفسطائية، وإنما نعيشها واقعا حقيقيا كسطوع الشمس في وسط النهار، بمعنى أن العلاقة بين التابع والمتبوع أمرا حتميا لا جدال فيه، وتزهر كثيرا في المناخات الاجتماعية المباشرة، وإن غلفت بشيء من الود الظاهر، إلا أنها تحتاج إلى كثير من الحيطة والحذر؛ حتى في مناخها الاجتماعي، وهذه العلاقة وفق هذا المفهوم (التابع/ المتبوع) تناسلت إلى علاقات تشابكية كثيرة (تبعية اجتماعية؛ تبعية سياسية؛ تبعية اقتصادية؛ تبعية فكرية؛ تبعية دينية؛ تبعية وجدانية؛ تبعية مهنية.
الشائع أكثر - في الفهم السياسي؛ خاصة - أن مفهوم التبعية قائم على وجود دول قوية استعمارية؛ ودول ضعيفة مستعمرة ولو بصورة غير مباشرة، حيث تحرص الأولى على أن تكون الثانية تحت إمرتها، في كل صغيرة وكبيرة؛ ليس لها قرار الرفض أو المفاضلة بين أمرين، وتأتي هذه الهيمنة على أثر مجموعة من الهبات «المبطنة» بالديون، والعطاءات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فقط لسد ثغرة الحاجة في أوقات الذروة، والأحداث الجسيمة، التي تجد فيها الدول الضعيفة أنها بحاجة إلى المساعدات لتجاوز محنتها الوقتية، فإذا بهذه المساعدات تصبح دينا مؤرقا، حيث تراكم من مسألة التبعية، وتزيد في عمرها الزمني والمادي، فلا تجد الدول الضعيفة نفسها إلا وهي غارقة أكثر وأكثر، وتحتاج إلى معجزة غير عادية لتنتشلها من غرقها، بالإضافة إلى حرص الدول المهيمنة على الغسل المتعمد لأدمغة القائمين على الدول التابعة، وذلك من خلال خلق أعداء وهميين عليها، وأن لا منجاة من هؤلاء الأعداء المتربصين إلا بوجود هذا المارد «المتبوع» وذلك حتى تظل المصلحة قائمة في استحلاب الدول الضعيفة، وجعلها راكعة خانعة على طول خط السير الأفقي لهذه العلاقة القائمة بين الطرفين، والسؤال: هل يستطيع من هو تابع اليوم أن ينتفض من ضعفه، ويعلنها: «لا تبعية بعد اليوم»؟ أجزم أن ذلك في مقدور كل دولة «في حكم التابع» ولكن عليها أولا: أن تهيئ الأرضية الآمنة في التصالح مع شعبها، فالشعوب هي القوة الحقيقية للأنظمة السياسية، وليست علاقاتها بالدول الكبيرة، ومتى تحقق هذا الأمر وأتيحت له الفرصة الكاملة للتعبير عن حقيقته، فإنه بإمكان أية دولة أن تقول لما كان «متبوعا» من هنا تبدأ نقطة البداية، حيث لحظة ميلاد للعلاقات التكافئية، وفق الأنظمة والقوانين، والاحترام المتبادل بين الطرفين.
ينظر إلى البعد الاقتصادي على أنه محور مهم، ويلعب دورا كبيرا في مسألة التبعية، وفي هذا السياق لا تكون التبعية عمياء، بقدر ما هي مؤسسة على تدرج «ماكر» يبدأ بوسائل في ظاهرها التعاون والتكامل الاقتصادي، وفي مضمونها لف حبل الخناق على الأنظمة السياسية، وعدم قدرتها على استقلالها المالي المطلق، حيث تكبل بالديون شيئا فشيئا تحت عناوين كثيرة عبر برامج تنمية، يتم من خلالها استنزاف الثروات والأموال بصورة غير رشيدة وبلا مقابل متكافئ مع حجم الإنفاق، حتى يجد النظام السياسي نفسه أمام معضلة دين غير قادر على سداده في فترة محدودة من الزمن؛ وفق ما هو متفق عليه؛ فتبدأ مرحلة جديدة من المساومة على الأصول الوطنية، إما باستئجارها بصورة غير عادلة، ولمصلحة المتبوع، وإما بشرائها واستثمارها عبر اتفاقيات تستمر عشرات من السنوات، حيث يتم إغراق النظام السياسي بهذه الديون، ويكبل بمزيد من القيود، ومع مرور الأيام والسنون تورث هذه الديون للأجيال القادمة من الأنظمة الراحلة، وهناك من يستفيق، فيعيد ترتيب الحسابات من جديد، وقد يواجه بالكثير من العراقيل، ولكن كما قلت أن التصالح مع الشعوب هو المنقذ في كل مراحل التاريخ.
السؤال المهم أيضا في مناقشة موضوع التبعية: هل تعاني الطاعة من خلل بنيوي يفضي إلى التبعية المطلقة، وهل الخلل البنيوي ناتج عن خلل في تأصيل تطبيق المفهوم الثقافي، أو الاجتماعي «القيم» أم أن الفطرة ذاتها هي من تكون بين زواياها شيئا من مفهوم التبعية؟ عند العودة إلى نصوص القرآن الكريم نجد الكثير الكثير مما يمكن أن يعد من الآيات التي تطرقت إلى موضوع التبعية، في مناخيها الإيجابي والسلبي، سواء في علاقة العبد بخالقه، أو في مختلف العلاقات القائمة بين الناس فيما بينهم، ومن ذلك قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا..) و(قالوا ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا...) و(يا أيها الذين أمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)، ومن الأحاديث النبوية الكريمة: عن أبي سعيد رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: فَمَن؟» - رواه الشيخان - حسب المصدر. فهذه الأدلة ليست مقصودة لذاتها في هذه المناقشة، وإنما للتدليل على أن التبعية تذهب إلى مفهوم الممارسات الفطرية؛ في الأساس؛ ويدخل فيها القصد، والعزم وعندما تخرج عن ممارستها الفطرية المعهودة إلى ما سوف يتحصل من خلالها على نتائج مقصودة حرص على تحقيقها المتبوع، والمتبوع في هذه الحالة لا ينطلق من ممارسة فطرية، ويتقبل أي نتائج للتبعية أو الطاعة، وإنما يحرص على أن تكون عبر ممارسات ميكانيكية تتخللها الخطط والبرامج، والدسائس، واقتناص الفرص، وهنا يجب أن يظهر مستوى الوعي في التقليل من توغل التبعية في مجالات الحياة المختلفة، وألا تكون ممارسات التبعية تسليما مطلقا لكل شيء ولأي شيء، فالضرورة والواقع تستلزم أن يعيش الإنسان حرا، لا تابعا؛ فالإنسان ولد حرا بالفطرة، فكيف يرضى أن تسلب حريته ليعيش تابعا؟ تبقى الملاحظة الأخيرة والمهمة أيضا في سياق هذه المناقشة، أن من المهمات الأصيلة للأزمات هي التعرية لكل ما هو محاط بستائر المكر والخديعة، والكذب والافتراءات، فتبقي الوجه الناصع المعبر عن حقيقة الأشياء، فجميع تداعيات هذه الأشياء تظهر على السطح مع اشتداد المحن والأزمات، وأن مجموعة الصور الاحتفالية والمروج لها في المسافة الفاصلة بين التابع والمتبوع ما هي إلا مجسمات كاذبة أوهن من بيت العنكبوت، والسبب أن ليس هناك من يتحمل العبء عن غيره، فكل مرتهن بمصيبته، فهل يعي العقلاء ما هم فيه «الواقع» وما هم عليه «المستقبل»؟
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على أن
إقرأ أيضاً:
إعلام الأزمة.. من يمسك المايكروفون؟
صراحة نيوز-يمثل الإعلام أبرز الأدوات في إدارة الأزمات الأمنية والسياسية، فدوره يتجاوز البعد الاتصالي ليتداخل بشكل مباشر في بناء التصورات المجتمعية وصناعة السلوك وردود الفعل الجماهيرية لأي حدث أمني أو سياسي. ولهذا يُعتبر العنصر الفاعل في “نظام الاستجابة” الذي تضعه الجهات المعنية في الدولة للتعامل مع الحالات الطارئة والتهديدات الأمنية والسياسية المؤثرة.
ومفهوم إعلام الأزمة مفهوم عالمي متقدم، وليس اختراعاً محلياً. لكل دولة طريقته ونموذجه الإداري، لكن هناك ثوابت معروفة في إدارة الأزمات لا تختلف بين الدول أو الأشخاص. وأي أزمة أمنية تمر بثلاث مراحل رئيسية: ما قبل الأزمة، مرحلة المواجهة، ومرحلة ما بعد الأزمة. لكن تختلف منهجية التعامل من دولة لأخرى ومن إدارة لأخرى، رغم أن الإعلام يتداخل في كل هذه المراحل بآليات ومستويات مختلفة، تتراوح بين نظريات الاتصال في الطوارئ واستراتيجيات التصعيد والتهدئة، وبين اختيار الأشخاص المؤهلين لحمل المايكروفون أمام الكاميرا او خلف منصات الفضاء الإلكتروني، والذين يملكون القدرة والحق في الكلام.
ونحن في كل أزمة أمنية، نعيش وكأننا في “هوشة” غير منتهية، تشمل فرق التحليل والخروج غير الكفؤ على شاشات ومنصات، من قبل أشخاص يبحثون عن الإثارة أو “العرط السياسي”، أو يتنافسون على الشعبوية الفردية. وقد أوصلونا أحياناً إلى أن يكونوا “ترند الموسم” لضعف حججهم في ظروف تتطلب وعياً وثقافة وعلماً وسياسة.
لذا، وجهت رسالتي للحكومة أولاً لتفعيل نظام إعلام الأزمة، وإلزام من “يتنطح” بالعودة للجلوس على “أريكته”، وترك عزف النشاز أمامنا، في عالم لا يلتقط سوى الضرر والأثر السلبي، بينما يجب أن تتولى الجهات الأمنية والرسمية المختصة إدارة محتوى وشخوص الحديث والفكر والتوجيه والتنفيذ في الأزمات الامنية.
وبالعودة إلى إعلام الأزمة، أطالب صاحب القرار المسؤول عن ملف إعلام الأزمات بإعادة قراءة المراحل الثلاث الأساسية، والاعتماد عليها. فمرحلة ما قبل الأزمة تبدأ بـ”الإعلام التحذيري”، القائم على تحليل المخاطر وبث رسائل لرفع مستوى الوعي الأمني المجتمعي، مما يتطلب منظومة للرصد الإعلامي وفق مؤشرات تحليل المخاطر، واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في فهم المحتوى ورصد التهديد في الفضاء الرقمي.
ثم تأتي مرحلة أثناء الأزمة، وهي الإدارة العملياتية للأزمة؛ إذ يجب أن يوفر الإعلام معلومات دقيقة ومدروسة لضبط الرأي العام وتقليل الخوف والغضب والذعر أو حتى اللامبالاة. فقد شهدنا قبل أيام شخوص تطالب بتخزين الماء والاختباء في الملاجئ، وآخرون طالبوا بالتعطيل، ورأينا أطفالاً يتجولون حول صفارات الإنذار وكأنها دعوة لمناسبة عامة. هنا تظهر أهمية “الاتصال في الأزمات” كأداة رئيسية في بناء خطاب متزن قائم على شفافية محسوبة، مع مراعاة التوقيت ومصداقية المصدر.
أيها المعني بالأمر، إن الخطة الإعلامية في الأزمات تلعب دوراً محورياً في نجاح الاستجابة المؤسسية، ويجب أن تكون جزءاً من “خطة الطوارئ الوطنية”، وتحتوي على إجراءات تشغيل قياسية للرسائل، وتحديد المتحدثين، وتوزيع الأدوار بين وسائل الإعلام ومنصات التواصل. وفي ذلك، يجب أن يكون دور المتحدث الرسمي محورياً، ليكون قناة معبّرة عن سياسات المؤسسة الرسمية والأمنية ويطمئن الجمهور وفق معايير الانضباط في شكل ومضمون المعلومة ونجح مثلا مركز إدارة الأزمات بامتياز في ذلك خلال جائحة كورنا كما نجح معالي وزير الاعلام الحالي الناطق الرسمي باسم الحكومة في دوره لكن لم يتم حتى اليوم ضبط “الإعلام الفلت” وهو الاعلام والشخوص الأشبه “ببك آب” دون لوحة ارقام وسط الصحراء.
ولهذا فإن علاقة دور الإعلام بالأمن تتطلب فهماً متكاملاً بين علوم الاتصال والإعلام وعلم إدارة الأزمات الأمنية من قبل الجميع. ويتحقق ذلك بسياسات وطنية شاملة للإعلام الأمني، تُعنى أولاً ببناء القدرات البشرية وتحديث البنية التحتية الإعلامية، وتوظيف أدوات التكنولوجيا الحديثة بتنسيق كامل مع المؤسسات الأمنية. وبدون ذلك، سنشهد يومياً تنطحاً إعلامياً يعيدنا إلى المربع الأول، ويخرجنا عن سياقنا وموقعنا إعلامياً وأمنياً.