بدأت رحلتي بلا وجهة محددة، مع شروق فكرة فجائية، قررت الخروج لاستكشاف كل جوانبها وتحمل تبعاتها. سيطرت عليّ رغبة الفضول بقوة، دفعتني لاكتشاف أسرار ما يختبئ خارج المألوف. وهناك، في أفق الغموض، برزت مدينة تبهر الانظار، أمامها حراس مدججون بالسلاح وفي لحظة هدوء، طرحت سؤالاً حول السبب وراء حمل السلاح، وكانت الإجابة: نحن حماة المدينة.

في غمرة تأملي أدركت أن عقلي محاط بأفكار تقليدية وحراس يعترضون دخول الأفكار الإبداعية التي تحمل بين طياتها الثراء. فالخراب الذي أصاب المدينة يعود إلى التحكم الصارم الذي يمارسه الحراس، الذين يمنعون تدفق الأفكار خوفاً من تمردها على الروتين، في عقلي تسكن الأفكار النيرة العشوائيات، بينما تسكن الأفكار الباليه الاحياء الراقية والقصور الفاخرة. قررت فتح أبواب الدخول لكل زائر، يمتلك فكرة تصحيح المسارات وتأمين المستقبل، من خلال تعديل قوانين المصاهرة لتشمل أنواعاً متنوعة من الأفكار (توسع دائرة المشاركة).

في تجوالي بين أزقة المدينة، اشتعلت شرارة الفضول، خلقت بداية تفاعل سحري، حيث اندمجت الأفكار كقطعة فنية على لوحة الحياة، تأملت في جمال التنوع الذي يظهر في المدينة، مثلما يبدو جمال الغروب على واجهات المباني. في ذلك الوقت الساحر، ايقنت أن تحرير مدينة العقل خطوة في سلم الصعود. فهو ليس مجرد استنهاض للفضول، بل بداية لتحول السلمية الناجحة في مقاومة التسليم للظروف، بل في خوض مواجهة شاملة للمألوف الفكري والسياسي والثقافي والاجتماعي. الشعارات ليست كافية للتحرر والانعتاق، بل تمثل خطوة أولى نحو التحول، حيث يتطلب التغيير تمرداً شاملاً، وذلك يكون ممكناً عبر التطور بشكل فعال. في رحلتي على شواطئ المدينة، ألتمست أن التحدي ليس في نقص المعرفة، بل في التنفيذ. إذ يحتدم الصراع بين الرغبة في التغيير ومقاومة الضمير، غالياً ما ينتصر المصالح الذاتية والرغبات الشخصية، على قوة الحق وصوت الضمير.

‏‎تاريخُنا يشكل فصلاً في كتاب الحياة، حيث يروي قصة معقدة تتشابك فيها خيوط العنكبوت ما بين التأثيرات الخارجية والصراعات الداخلية، مخلفاً وراءه خصومات عميقة، حيث تنازع الأحزاب بين المدارس الدينية والاقتصادية والاجتماعية. كلٌ يسعى لنحت الواقع برؤيته الفردية. التحدي الرئيسي ينبع من الفكر الآحادي، هل التمييز يأتي من هيمنة الثقافة العربية الإسلامية على الهوية أو من التصالح من خلال توفير فرص التعايش بين جميع الثقافات لخلق التوازن وتشجيع التنوع مما يخلق سيمفونية تناغمية تسمح للجميع بالاستمتاع بتنوع اللحن والهوية الفريدة. حيث لم يغيب عن الذاكرة قصة عمنا آدم ديرفيس، الذي كان يسكن في طرف القرية. نشب خلاف بينه وبين زوجته مريومة، وتدخلت الجودية لإصلاح العلاقة. وكالعادة ابتدر النقاش عمنا أبو خديجة: "يا ديرفيس، طلقت المرأة لشنو؟ ديرفيس، والله المرأة دي من يوم جبيتها من بيت أبوها، محل يدها طاعم ما لقيتها كلو كلو (طبخها ما مستساغ). ردت مريومة بفطنة: في ذمتكم، يا رجال الله، طبخ عوائده ناقص يبقى طاعم كيف!! لو بصل في زيت مافي، لو بندورة في شرموط مافي. نسبة لعدم كفاية الادلة ونقص عوائد حلة الملاح، اكتملت أركان الجريمة، وانتهت القضية لصالح مريومة. رُفِعت الجلسة بإلزام عمنا ديرفيس بإحضار جميع العوائد لتذوق حلة الملاح، وذلك يعكس أهمية التفاهم والاتفاق على واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي. تظهر الحاجة الملحة إلى توحيد جميع المكونات، بلا استثناء، من خلال اتفاق شامل يعكس التفكير العميق في بنية الدولة وعلاقاتها، ويتسم بنظرة شاملة تتيح للجميع رؤية أنفسهم في المرآة، بعيداً عن الحلول الاستبدادية والنظرة الفوقية.

في تلك الرحلة، كان الحلم ببناء دولة نتحمل المسؤولية فيها جميعاً، خلافاً للمعتاد متى تعود؟ لما حال البلد ينعدل طيب مين يعدل الحال، وطن يتجسد فيه علاقات الاخاء، ترقص على نغمات التفاهم والاجماع. تتحقق كلوحة فنية ترسم حدود الأمان بتوفير لقمة عيش كريمة وحفظ كرامة الإنسان، بينما في المقابل، تتشابك العلاقات السياسية والاجتماعية في معركة التصنيفات. تعبر القصة عن مزيج من التناقضات، حيث يجسد الصراع الذي يواجهه الأكثرية الطامحة لفضاءات التغيير، وكيف تعترض العقبات تحقيق آمالهم في غد أفضل، مستمدة من تجارب النخب وتفاعلاتهم مع الثورات. في سياق هذه التداخلات الاجتماعية، تتحول القصص إلى مرآة تعكس التفاعلات المعقدة بين الواقع والحلم، مثيرة تساؤلات فلسفية حول العدالة في هذا العالم المليء بالتناقضات.. تأخذنا في رحلة فنية وروحية عميقة، تستنطق أعماق الفهم والإلهام، حيث يتعين علينا التحول من مجرد الأقوال والمثاليات إلى الأفعال والواقع. للخروج من هذا المأزق، يتوجب علينا تحديد معايير للمصطلحات، حيث يمكننا إجراء تعريف دقيق لكل مصطلح مثل"كوز","قحاتي"، "فلول" أو غيرها. الواجب تحديد معايير وصفية واضحة، سواء كانت ذلك فيما يتعلق بالأصل، التاريخ أو بالصفات الفردية، والعمل على التخلص من الالتباس لتحقيق فهم اعمق وأدق. كما يجب تحديد معايير علمية واجتماعية وثقافية، بإلاضافة إلى قيم العطاء والرعاية للأسرة والقرية، يظهر أن الشخص الذي يملك الخير لأهله يكون لديه القدرة على تقديم الخير للجميع. تلك المعايير تجعل الفرد مؤهلاً لتحمل المسؤوليات القيادية، بتركيز على القدرات القيادية والنزاهة، والتفهم للقضايا الاجتماعية والاقتصادية، التركيز على محاربة الصفات السالبة وتعزيز الوعي بالقيم والأخلاق يساهم في تطوير المجتمع وتعزيز القدرات الإيجابية لدى الأفراد.

واقعنا، عبر التاريخ بين مطرقة العوامل الخارجية وسندان التوترات الداخلية، حيث يُلملم الوطن الجريح نفسه في صورة معقدة من التحديات تستدعي التلاحم والتكاتف. العقوبات الخارجية الحقت اذى كبير بالاقتصاد وحياة المواطنين، وفي سياق التوترات الداخلية، تتفاعل الديانات والتقاليد مع الصراعات القومية، والحروب الداخلية مما زاد الامر تعقيداً. إن فهم هذه المعضلة التاريخية يكشف لنا قوة التأثير المتبادل بين السياق الدولي والديناميات الداخلية، تشكل نمطاً فريداً في كشف النقاب عن تصرفات النخب، التي اكتفت بالاستقلال الشكلي، حيث تجاوزت مصالح الجماهير الكادحة، بسرقة الثورات وتحريف مسارها مما أسفر عن نشوب حروب الهامش ضد المركز، نتيجةً لصراع المصالح وتواطؤ النخب. إعداد متكئاً لمائدة مستديرة يسودها السكينة يمكن أن يكون أمراً حيوياً للخروج من هذه الورطة المعقدة، حيث يمكن للتفكير الهادئ والتخطيط الدقيق أن يسهمان في تجاوز الخلافات ويحقق التوازن بين الأطراف. يحاكي قصة زوجة العزيز، نجحت ببراعة في نقل رسالة السكينة، والراحة إلى قلوب النساء، وبحكمة وحنكة، قطعت قوة التفكير ومزقتها أيدي سبأ، عندما مكرت نسوة في المدينة (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَـًٔا وَءَاتَتْ كُلَّ وَٰحِدَةٍۢ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُۥٓ أَكْبَرْنَهُۥ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) تخيلوا متكئا امراة العزيزة، مائدة بأفخم المفروشات الايرانيه فيها كل ما لذا وطاب في بيت العزيز وهي تخدم النساء بنفسها حتى أعطت كل واحدة منهن السكينة والاطمئنان وراحة البال فقالت اخرج عليهن، لذلك، يتجلى الحاجة الملحة إلى متكئاً يُمثِّل جميع أطياف المجتمع يبث السكينة ويُعيد التوازن، بعيداً عن انحيازات واختيارات تفتقر إلى العدالة والشمول.
‏abudafair@hotmail.com
//////////////////  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

أنماط طرائق التفكير السوداني (٢)

بقلم/ عوض الكريم فضل المولى وحسن عبد الرضي

أنماط طرائق التفكير السوداني من منظور الفكرة الجمهورية: قراءة في كتابات الأستاذ محمود محمد طه والإخوان الجمهوريين

التفكير السوداني يتميز بتنوعه وعمقه، وهو نابع من تفاعلات تاريخية وثقافية ودينية معقدة. غير أن الواقع يشير إلى وجود تحديات في تطوير أنماط التفكير، أبرزها الكسل الفكري والتمسك بالعقل السلفي والفهم التقليدي للدين. جاءت الفكرة الجمهورية، بقيادة الأستاذ محمود محمد طه، لتطرح معالجة جذرية لهذه الإشكاليات عبر خطاب فكري مستنير يدعو إلى إعادة قراءة التراث الإسلامي والتفاعل الإيجابي مع قضايا العصر.

تأثير التفكير العقلي من منظور الفكرة الجمهورية على معالجة الكسل الفكري

الفكرة الجمهورية تسعى لتفعيل التفكير النقدي والعقلي بدلاً من الانسياق وراء الموروث دون تمحيص. الأستاذ محمود محمد طه ركز على أهمية “التفكير الحر”، حيث لا بد من تحرير العقل من قيود الجهل والعادات الجامدة. وفق الفكرة الجمهورية، الكسل الفكري ينشأ نتيجة هيمنة عقلية النقل على عقلية النقد. بالتالي، تحث الفكرة على اتخاذ العقل أداة لاستكشاف القيم الدينية العليا وتطبيقها عملياً، مما يحفز الإبداع والمسؤولية الفردية في التفكير.

دور الفكرة الجمهورية في تأطير وتطوير طرائق التفكير لمستقبل السودان

الفكرة الجمهورية ترى أن مستقبل السودان يتطلب نهجاً فكرياً جديداً يربط بين الأصالة والمعاصرة. فهي تدعو إلى صياغة رؤية معرفية ترتكز على الحرية والعدالة والتنمية المستدامة. من خلال تشجيع التعليم المستنير وإعادة قراءة النصوص الدينية بفهم عصري، يمكن أن تؤسس الفكرة الجمهورية لطرائق تفكير تواكب التحولات العالمية، مما يدعم بناء مجتمع متماسك وقادر على تحقيق نهضته.

معالجة الفكرة الجمهورية للعقل السلفي والفهم الموروث الفطير للإسلام

النقد الموجه للعقل السلفي في الفكر الجمهوري يتركز على الجمود والاعتماد المفرط على الفقه التقليدي. الأستاذ محمود محمد طه دعا إلى العودة للقرآن باعتباره النص الأسمى والمصدر الأساسي للتشريع. وبدلاً من التركيز على الأحاديث والآراء الفقهية المتغيرة، طرح الفكرة الجمهورية مفهوم “التطوير التشريعي”، وهو إعادة النظر في تطبيق الشريعة بما يتناسب مع تطور الإنسان والمجتمع. هذا الفهم يحرر العقل المسلم من قيود الفهم السطحي ويعيد إحياء القيم الإنسانية في الإسلام.

التوفيق بين التفكير العقلي والكشف وعلم الذوق والعلم اللدني وفكرة الإطلاق

الفكرة الجمهورية تنظر إلى العقل والكشف كأدوات متكاملة للوصول إلى الحقيقة. الأستاذ محمود محمد طه يرى أن العقل هو أساس العلم التجريبي، بينما الكشف هو أداة للعلم الروحي والذوقي. العلم اللدني وفكرة الإطلاق، كما يشرحها الأستاذ، تتطلب توازنًا بين العمل العقلي والتجربة الروحية، حيث لا يكون أحدهما على حساب الآخر. بهذا الفهم، تستقيم طرائق التفكير مع وحدة العلم والدين، مما يفتح آفاقاً للإبداع الروحي والفكري.

الفكرة الجمهورية تقدم منهجاً فكرياً متكاملاً لمعالجة إشكاليات التفكير السوداني، من خلال تحرير العقل من الجمود والسعي لتأسيس مجتمع واعٍ. برؤيتها المستنيرة، يمكن أن تسهم في بناء مستقبل مشرق لسودان مزدهر فكرياً وروحياً.

مقالات مشابهة

  • شيخ العقل التقى خلف.. وتواصل مع شيخ جرمانا
  • لقطات نادرة لزيارة الملك خالد إلى القصيم قبل 46 عام
  • مجلس مدينة درعا يواصل أعمال تأهيل الأرصفة وتجميل مداخل المدينة
  • كتّاب ومختصون: مواجهة الأفكار المتطرفة مسؤولية مجتمعية ومؤسسية
  • أنماط طرائق التفكير السوداني (٢)
  • الداخلية تضبط قائد سيارة نقل جماعى يسير عكس الاتجاه في مدينة نصر
  • مصر والسعودية.. استدعاء الماضي وتغييب العقل
  • من نوبل إلى اللايقين: رحلة العَالِم الذي زلزل أساسات فهمنا لبداية الكون ونهايته
  • دراسة تحذر: لا توجد “كمية آمنة” لتناول اللحوم المصنعة
  • المقاصد بين النبوة والخلافة.. قراءة في العقل الاستراتيجي المؤسس.. كتاب جديد