بعد عملية طوفان الأقصى التي جرت داخل إسرائيل الشهر المنصرم، قام العديد من الكتّاب والباحثين ومن الصحفيين الإسرائيليين، بمحاولة تذكير الغرب بالربط بين ما حدث في السابع من أكتوبر الماضي، وما جرى في سبتمبر2001 في نيويورك وواشنطن، أو ما فعلته داعش وبقية جماعات العنف السياسي في العراق وفي سوريا ودول أخرى، إلى جانب تذكير الغرب بما جرى عبر قرون من الحملات المتبادلة بين العرب والمسلمين والغرب، منذ دخول العرب إلى إسبانيا، والاقتراب من حدود فرنسا.

.. ولا شك أن هذا الكلام المحرّض وترديده في الغرب لا يخلو من أهداف سياسية واستراتيجية، إلى جانب تحذير الغرب وتخويفه من أن ما جرى في إسرائيل، ربما يجري لهم أيضا، وهذه من أساليب الدوائر الصهيونية التي يؤدي فيها اللوبي الإسرائيلي دورا كبيرا ومؤثرا في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الغرب عموما، ومنذ عدة أيام قرأت في بعض وسائل التواصل الاجتماعي ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق «جيمي كارتر» -وهو من الرؤساء الأمريكيين الذي لا يتوانى عن كلمة الحق والصدق- إذ تحدث عن الحرب في غزة وما يجري ضد الفلسطينيين من قمع واضطهاد وتهجير، وقتل الأطفال والمدنيين عموما وتهديم بيوتهم، ومما قاله: إن اللوبي الإسرائيلي له تأثير كبير على صنّاع القرار السياسي والإعلامي والاقتصادي، وذكر ذلك أيضا رجاء جارودي في العديد من كتبه عن تأثير اللوبي الإسرائيلي في فرنسا، وهذا ما جعل الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا، يتسابقون لزيارة إسرائيل واستدعاء الأساطيل والبوارج الحربية لحمايتها ودعمها معنويا لمواجهة الأخطار من الإرهاب كما قالوا! مع أن من قام بهذا العمل ضد إسرائيل، مجرد حركة مقاومة وليست جيوشا جرارة، حتى يتم التنادي من المسؤولين الكبار لزيارة إسرائيل للدعم والمساندة!

ولا شك أن الذاكرة التاريخية الغربية، تستجيب لمثل هذه المقولات التي تحركها الدوائر الصهيونية، وما كتبه الاستشراق المغرض عبر قرون يبرز التأثير الصهيوني في الغرب وأساليبه في تقليب الحقائق إلى أكاذيب ومعلومات مضللة، مع أنني في كتابي (الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف)، ذكرت أن الكثير من المستشرقين كتبوا بحيادية وإنصاف عن العرب والمسلمين في هذا الجانب، وليس مقالنا هذا للشرح والتوضيح، لكن غيرهم جاء بترتيب من الحملات الاستعمارية للمعرفة والاطلاع عن الشرق العربي، وعن الإسلام والمسلمين. فالجانب الذي ركز عليه بعض الكتّاب والصحفيين الإسرائيليين، في داخل إسرائيل أو خارجها، هي المقولة التي يتداولونها كثيرا، وهي أن العرب والمسلمين يهدفون إلى تدمير الحضارة الغربية، باعتبارهم عنيفين وإرهابيين، ويربطون هذا القول بما تقوم به المقاومة الفلسطينية، مع أن مقاومة المحتل حق من حقوق الشعوب التي تُحتل أراضيها، والكثير من هذه المقولات التي يتم ترديدها من قبل المؤسسات الصهيونية من الأكاذيب والافتراءات، هي أقرب ما تكون للفكرة الساذجة من الحقيقة الصادقة، فهم عندما احتلوا فلسطين، لا يملكون الحقائق في هذه الأرض، فقالوا إنها (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، وهي فكرة معروفة لا تبرر هذا الاحتلال، فكل مدينة وقرية فلسطينية كانت مأهولة بالفلسطينيين، والتهجير بالملايين يكشف هذه المقولة الزائفة عن أرض بلا شعب.

ومن هنا فإن الإعلام الإسرائيلي داخل إسرائيل، بعد الحرب على غزة ركّز على قضية الخطر الإسلامي المقبل، وهم يعرفون أن هذا القول ليس له سند من الحقيقة، ولا يتقارب مع ما قامت به وتقوم به المقاومة في غزة، ومنها العملية الشهيرة في السابع من أكتوبر الماضي -كما أشرنا آنفا- كما أن الحملات الإعلامية من الدوائر الإسرائيلية والغربية المؤيدة لإسرائيل، ليست جديدة، وستستمر بين الوقت والآخر وتستعاد مرة أخرى، وفق الظروف والتوترات والصراعات، ونتذكر ما قاله «صموئيل هنتنغتون» في إحدى المقابلات عن الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهو من الموالين لإسرائيل، حتى قبل هذه الحادثة ومع صدور كتابه (صراع الحضارات)، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فتحدث كأنه آلة صماء في قبول الفكرة الصهيونية إذ قال: «هذا ليس صحيحا، القول بأن الإسلام ليس خطرا على الغرب، وأن المتطرفين الإسلاميين، هم فقط الخطر، فتاريخ الإسلام خلال أربعة عشر قرنا يؤكد بأنه خطر على أية حضارة يواجهها، خاصة المسيحية»، فمقولة هذا السياسي والمستشار السابق كلها نزعة أحادية براجماتية لتسويق رأي، لا لتأسيس رؤية، وهذه هي المشكلة التي ستواجهها الولايات المتحدة، إذا ما تعاطت وفق هذه المنطلقات الجامدة المنطلقة من أرشيف التاريخ القديم من السجالات والتوترات بين الثقافات والحضارات، التي مرت وانتهت، ويتم الحديث عنها وكأنها حدثت بالأمس القريب، مع أن المؤسسات المتطرفة لا تكف عن ذكرها للتجييش وإثارة الخلاف، بدلا من طرح أولوية الحوار والتفاهم، إذا ما تعاملت على أساسه مع الآخر المختلف.

ومن الأكاديميين الأمريكيين الذين ينتمون عرقيا للفكر الصهيوني الدكتور برنارد لويس، وهو من مؤسسات صناعة القرار في الولايات بحكم اهتمامه بالشرق الأوسط وبالعالم وله العديد من الكتب المترجمة للعربية، إلى جانب الكثير من الدراسات المتعلقة بالمنطقة عموما، ومعروف بتعصبه وانحيازه تجاه الكيان الإسرائيلي، وهي نزعة لا تخفى عن كل متابع لكتاباته وأبحاثه تجاه الإسلام والمسلمين. ولم تمنعه مسيرته الأكاديمية وعشرات الكتب التي أنجزها من التجرد والمنهجية العلمية في دراسته، وقد كتب عنه الكثير من الباحثين، الذين انتقدوا ما قاله في بعض كتاباته من آراء لا تمت للمصداقية التي يجب أن يتوخاها الباحث عندما يكتب عن تاريخ المنطقة والإسلام والمسلمين، لكن العقل الباطن والنوازع الفكرية أحيانا تمنع البعض من التجرد والنزاهة، ولذلك تجد عنده إطلاق التعميمات حول العالمَين العربي والإسلامي، وحصر الصراع والمشكلات العالقة بين الغرب والإسلام في كون العرب والمسلمين يحسدون الغرب على بحبوحة عيشه، ويرون فيهم مصدر الشرور وتهديد التقاليد الراسخة التي يتسم بها العالم الغربي. كما يعزو لويس شعور الكراهية الذي يكنه العرب والمسلمون للغرب، ثم تركيز هذه الكراهية ضد الولايات المتحدة (الدولة الأقوى وزعيمة العالم الحر، بتعبير لويس)، إلى التشويه التاريخي. وقد أشرت إلى دراسته المعروفة كتابة سابقة، والتي حملت عنوان «جذور السخط الإسلامي» ونشرت في كتاب (الإسلام الأصولي في وسائل الإعلام الغربية)، والتي اتسمت بالحدة وعدم الموضوعية فيما قاله، ومما قاله في هذه الدراسة: «إذا كان المقاتلون في سبيل الإسلام -الحرب المقدسة في سبيل الله- يقاتلون من أجل الله، فإن ذلك يستتبع القول إن خصومهم يقاتلون ضد الله. وبما أن الله هو المهيمن ومصدر السلطات من حيث المبدأ، وهو أيضا القائد العلوي للدولة الإسلامية، والنبي (وخلفاؤه من بعده) وكلاء مباشرون عنه، فإن الله إذن هو راعي الجيش وقائده. الجيش هو جيش الله، والأعداء هم أعداء الله، فواجب جنود الله إذن هو إرسال أعداء الله بأقصى سرعة ممكنة إلى حيث سيتولى الله بنفسه معاقبتهم وتأديبهم، أي إلى الآخرة».

والحقيقة أنني أستغرب هذه الأقوال التي طرحها «برنارد لويس» فهو مؤرخ وباحث مرموق ومشهور في الأوساط الفكرية والتاريخية، فهذا القول عن الإسلام بهذا الوصف يبتعد عن الموضوعية التي يجب أن تكون متوازنة، وهو بهذه الآراء، لا فرق بينه وبين نتانياهو في ترويج الأكاذيب عما يجري من قتل وتدمير وسحق الأطفال والنساء بحجة إنهم يحاربون حركة حماس وكتائب القسام! وكذلك مجلس حربه، عندما يتحدثون عما يجري في غزة، وهم لم يقتلوا سوى الأبرياء من المدنيين. ويعرف لويس -وإن لم يكن منصفا- أن الحرب في الإسلام دفاعية وليست هجومية -والجهاد في الإسلام هو للدفاع عن الحق ومواجهة الظلم والقهر، وليس فرض الدين على الناس أو إجبارهم لدخول الإسلام، كما يقول! والدليل على ذلك أن اليهود والمسيحيين بقوا في ديار الإسلام منذ انبثاق الدعوة الإسلامية إلى الآن، ولم يجبرهم أحد على الدخول في هذا الدين أو محاربتهم وطردهم من أرضهم، وبقيت معابدهم وكنائسهم حتى الآن في الشام والعراق ومصر وشمال إفريقيا وغيرها من البلدان الإسلامية، وهذا يدل أن ما يقال ليس بتلك الصورة المشوهة عند هؤلاء الذين يطلقون العنان لتعصبهم المقيت، دون أدنى خجل من أنفسهم مما يقولونه من افتراءات ملفقة التي تقال دون ضوابط!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة العرب والمسلمین ما قاله

إقرأ أيضاً:

ليس مجرد سفر..ملتقى المرأة بالجامع الأزهر يناقش فلسفة عبادة الحج

عقد ملتقى المرأة بالجامع الأزهر اللقاء الأسبوعي من برامجه الموجهة للمرأة والأسرة، تحت عنوان"فلسفة العبادة في الإسلام..الحج نموذجاً"، بحضور د. سمحاء عبد المنعم، أستاذ مساعد ورئيس قسم الفقه بجامعة الأزهر، ود. هبة عوف، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر، وأدار الحوار د. حياة العيسوي، الباحثة بالجامع الأزهر الشريف.

أوضحت د. سمحاء أبو العطا، أن الحج ليس مجرد سفر إلى مكان مقدس، بل هو رحلة يتشابك فيها الجسد بالروح، والسلوك بالعقيدة، حيث نمتثل لأوامر الشرع، وإن خفيت علينا حكمته، وهو ما يُسمى بالعبادات التعبدية، فالحج يُربّي في المسلم طبع التسليم، حين يُقبّل حجرًا أو يشير إليه، وحين يقف بعرفة في زمن محدد، ويبيت بمزدلفة ومنى، وكلها أفعال لا تُفسَّر بالعقل وحده، بل تُفهَم في ضوء العبودية الخالصة.

وأشارت رئيس قسم الفقه بجامعة الأزهر، إلى أن مناسك الحج تروي قصصًا رمزية تنطق بالتسليم والثبات والإيمان العميق، فلبس الإحرام إضافة إلى أنه رمز للتجرد والتخلي عن الدنيا وزينتها، فهو يُمثل كفن معنوي يُذكر الحاج بالموت وفناء الدنيا، ورمي الجمرات ‌‍رمز لمعركة متكررة ضد وساوس الشيطان، وشهوات النفس، ورفض الاستسلام للضعف البشري والنفس الأمّارة بالسوء، والطواف عكس عقارب الساعة هو جزء من الانسجام الكوني العظيم، كما تدور الأرض حول الشمس، والقمر حول الأرض، في إشارة إلى أن الإنسان يعيش منسجمًا مع الكون، لا متصادمًا معه ولا متعاليًا عليه.

وتابعت: السعي ليس مجرد خطوات، بل قصة خالدة تُجَسِد معنى التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، كذلك فإن تكرار السعي يغرس في القلب يقينًا بأن الله لا يُضيع سعي من أحسن الظن به، ولا يُخيّب رجاء من يداوم طرق بابه، كما أن محظورات الإحرام لم تُشرع فقط لتُجتنب، بل هي تدريب على ضبط النفس، وبناء الضمير الإيماني، والتحكم في الشهوات، والتجرد من زينة الدنيا.

من جانبها بينت د. هبة عوف، أن العبادات في الإسلام هي أعظم ما يربط الإنسان بخالقه، ومنها الحج إلى بيت الله الحرام، حيث البقاع المقدسة والمشاعر المشرفة في مهبط الوحي ومنبع الرسالة، فالحج فريضة شرعية وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، ففي الحج تسكب العبرات وتقال العثرات وتكفر السيئات وتغفر الزلات، وتتنزل الرحمات، وترفع الدرجات، ويجود رب الأرض والسماوات بكفالة التبعات؛ لذلك، ما أجمل أن يستشعر الحجاج عظمة هذه الفريضة، فهي ليست رحلة سياحية، وإنما رحلة إيمانية مفعمة بالمعاني السامية والأهداف النبيلة، وفرصة عظيمة للتوبة، وفتح صفحة جديدة مع الله سبحانه وتعالى.

وأضافت أستاذة التفسير بجامعة الأزهر: الحجاج ضيوف الرحمن وزواره، وهم وفد بيت الله وعماره، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم، لو لم يحبهم الله ما دعاهم ولا في بيته لقيهم وحفظهم وهداهم، قال رسول الله صلَّ الله عليه وسلم: "ثلاثة في ضمان الله عز وجل، رجل خرج من بيته إلى مسجد من مساجد الله عز وجل"، والحج بداية رحلة القرب من الله تعالى، بدأها الله سبحانه وتعالى من عنده بالحب والوصال والنداء والدعوة، فأمر سيدنا إبراهيم بالنداء، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}، فنادى إبراهيم عليه السلام، فأسمع الله سبحانه وتعالى صوته للجميع، فأجابوه، ولبوا نداءه من بطون الأمهات وأصلاب الرجال، فاستحقوا أن يباهي بهم ملائكته، قائلاً لهم: هؤلاء عبادي جاؤوني شُعثًا غُبرًا من كل فجٍ عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي، ولم يروني.

ولفت د. هبة عوف، إلى أن الحج ليس عبادة عملية فقط، بل قلبية أيضًا، لما فيه من إخلاص واستشعار، وتوبة وفرح واستفتاح وتعظيم للشعائر وإيقاظ للمشاعر، فالحج يعودنا على حسن معاملة الناس والتحلي بحسن الخلق.

طباعة شارك ملتقى المرأة بالجامع الأزهر فلسفة العبادة في الإسلام الجامع الأزهر

مقالات مشابهة

  • هل باع الغرب إسرائيل؟
  • تحت الضوء
  • فضل الحج في الإسلام .. يُنقّي العبد من الذنوب والآثام
  • مصطفى الفقي: لهجة الغرب تجاه إسرائيل تغيّرت والضمير الدولي بدأ في الاستيقاظ
  • مصطفى الفقي: إسرائيل خرجت عن مفهوم الجريمة الدولية.. والغرب يمتلك أوراق ضغط
  • حسن يحيى: الإسلام ليس طقوسًا فردية بل منهجا شاملا ينظم حياة الإنسان
  • ليس مجرد سفر..ملتقى المرأة بالجامع الأزهر يناقش فلسفة عبادة الحج
  • هكذا تفاعل الفلسطينيون مع بيان الغرب ضد إسرائيل
  • آداب الطريق.. احذر من البصق على الأرض ممنوع شرعا
  • كل ما تريد معرفته عن الأضحية في الإسلام.. الأحكام والشروط