الملحون المغربي تراث عالمي.. إبداع أصيل تضامن شعراؤه مع فلسطين
تاريخ النشر: 7th, December 2023 GMT
مراكش – بعد انتظار طويل، استطاع "فن الملحون" المغربي، الدخول رسميا للقائمة التمثيلية للتراث غير المادي العالمي بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
وحصل ذلك اليوم الأربعاء، خلال انعقاد الدورة الـ18 للجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي في كاسان بجمهورية بوتسوانا.
ويقول آدم العلوي، رئيس جمعية إدريس بلمامون، إن جمعيته هي من أطلقت المبادرة عام 2016 قبل أن تتبناها وزارة الثقافة وأكاديمية المملكة، حفاظا على هذا الفن الذي يعتبر جزءا من ذخيرة الفنون الشعبية والتقليدية المنتشرة على نطاق واسع في المغرب، والمتأثر بتحديات وتهديدات العولمة.
ويبرز في حديث للجزيرة نت، أن الأجيال الشابة تبدي الآن اهتماما متزايدا به، حيث وجدته نقطة مرجعية قوية لهويتها ومصدرا غنيا للإلهام الإبداعي.
ويضيف أن إدراج هذا العنصر في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي يساعد على زيادة تعزيز جدواه واستدامته من خلال تشجيع الشعراء الموهوبين على مواصلة تأليف القصائد، والمطربين والموسيقيين لإعطاء هذا الفن رؤية وأهمية أكبر في مجال الثقافة في البلاد.
بدوره يعبر توفيق أبرام، شاعر الملحون والمهتم بشؤونه، -للجزيرة نت- عن سعادته الغامرة بهذا الإدراج، مبرزا أن ذلك لم يكن هينا وعرف تقديم أدلة دامغة ودفوعات مطولة، ومشيرا إلى أن المغاربة يهتمون بثقافتهم الشعبية ويتشبثون بهويتهم التي لا يمكن التفريط فيها.
من جهته، يبدي الباحث عبد الصمد بلكبير، نجل الشاعر الكبير في فن الملحون، محمد بلكبير، تخوفه من أن يُستعمل هذا المورد الثقافي المغربي أداة لفرض الدارجة العامية بدل العربية الفصحى سواء في التعليم والإعلام أو في باقي مناحي الحياة، خدمة لأجندات استعمارية على حد قوله.
ويشكك الأستاذ الجامعي -الذي نال درجة الدكتوراه في موضوع "شعر الملحون، الظاهرة ودلالاتها"- فيما يسميه "الأهداف السياسية الملغومة للفرنكوفونية"، لكنه اعتبر أن فن الملحون في الوسط بين الدارجة العامية والعربية الفصحى، ويهتم بفن القول وتبسيط المعاني للمجتمع.
إبداع أصيلوتبرز وثيقة الترشيح للائحة التي قدمت باللغة الفرنسية، واطلعت عليها الجزيرة نت، أن هواة ومحبي الملحون يوجدون في جميع أنحاء المغرب من جميع طبقات المجتمع.
وتضيف أن هذه الظاهرة نشأت في منطقة تافيلالت في جنوب شرق المغرب، ثم انتشرت لتشمل سكان المدن التاريخية موطن الحرف التقليدية، كما هو الحال في فاس ومكناس وسلا والرباط والدار البيضاء وأزمور وآسفي ومراكش وتارودانت.
وتشير الوثيقة الى أن فن الملحون موجود أيضا في الجزائر، وتشترك منطقة المغرب العربي في العديد من العروض الفنية التقليدية، في حين يستمر التبادل بين الباحثين في هذا النوع الشعري والموسيقي المتوارث حتى يومنا هذا.
وتوضح الوثيقة، أن "الملحون" هو شكل شائع من أشكال التعبير الشعري الذي يغنى، معتمدا على اللهجة العربية وأحيانا العبرية، مستمدة مباشرة من الحياة اليومية، وتتطور وفقا لنوع معين من الوزن الشعري.
ويعلق الباحث بلكبير على ذلك، أن "الملحون" كان هدفه في البداية المساهمة في مجتمع مدني حي وفاعل، محاولا القيام بوظيفة الدمج بين نخبة المجتمع المغربي وعموم الشعب، مسلمين كانوا أم ويهودا.
ويؤكد أن أغلب من كتب شعر "الملحون" هم من العلماء الذين عملوا على التواصل مع الشعب عبر الكلمة الموزونة الدالة.
يشير المدير الفني للمهرجان الوطني للموسيقى والتربية بمراكش أنس الملحوني -في حديث للجزيرة نت- إلى أن فن الملحون عنوان حضارة مغربية ضاربة في القدم، فمن خلاله عالج شاعره الملهم العديد من القضايا التي شغلت بال المجتمع المغربي، بمضامين دينية مثل "التَّصْليّات"، " التّوسّلات"، "الشوقيّات "، "الزُّهديات"، "المدائح النبوية"، أو بأغراض أخرى في الغزل ووصف الطبيعة والوطنيات والقوميات وأيضا الهزل والتفكه وما شابه.
واستطاع شاعر الملحون أن يرسم بدقة عالية صوره الشعرية وأخيلته الإبداعية البليغة معتمدا على لغة عامية بليغة فاقت في استعمالاتها البلاغية والإيقاعية العروضية ما قد نقف عليه في الشعر المدرسي، حتى شاع بين المنتسبين لهذا الفن أن "المَلحون افّرَاجْتُو فَاكّلاَمُو"؛ أي في لغته الشاعرة البليغة الواصلة العذبة المقنعة.
وتعيدنا هذه العبارة، وفق أنس الملحوني، 50 سنة إلى الوراء، وإلى مطارحات فكرية عالية القدر بين 3 مشاريع ثقافية، حمل لواءها 3 من أعلام فن الملحون توثيقا، وتحليلا، ودراسة، ونظما.
ويضيف أن الأستاذ محمد الفاسي، رجح كفة أثر الإنشاد والجوانب التنغيمية وذلك في إشارته إلى أن الملحون "مشتق من التلحين بمعنى التنغيم، بينما ربط الدكتور عباس الجراري مفهوم اللحن بالخطأ الإعرابي، في حين يخلص الشيخ أحمد سهوم إلى أن "الملحون" هو "القول البليغ، الواصل المقنع".
ويأتي الراحل الحاج أحمد سهوم ليلخص هذه المطارحات في حديثه عن بلاغة وفنية فن الملحون قائلا:
فـَـنْ الـمـَـلحـُـون فـَـنْ سـَـانـِــــي سـَــاطـَـعْ فـِـ سَـايـَـرْ لـَـزْمـَــانْ
فـِـيـهْ الحـَـكـْـمـَـة عْـلى اللـّْــوَانْ
فـَـنْ الـمـَـلحـُـون فـَـــنْ بـَـانـِــــي
بَـالتـَّـصْويــرْ الـرّْفـِـيعْ غـَـــــانِي مـَـا يـَـهـْــدَمْ يـَــا اسـّْــيـَــادْنــَــــا
واسّْـــــتـِـعـَـــارَاتْ كـَـــتـْــبـَـــان
تـَـنـْـظـَـرْهــا ســَـايـَـرْ الـّْعـْـيَانْ
ولم يفت شعراء "الملحون" -الذين تغنوا بكل مظاهر الحياة في المجتمع المغربي- أن يهتموا بما يقع في فلسطين منذ بدء الاحتلال إلى الآن، فكتبوا قصائدهم بحس وطني جارف، يتعدى هذا المستوى ليجسد بعدا قوميا أبان عن اتساع أفق الانتماء عندهم.
ومن بينهم يذكر الشاعر المراكشي الشيخ الحاج محمد بلكبير صاحب قصيدة "الفلسطينية" التي نظمها -على حد قول الراحل محمد الفاسي- بعد العدوان الصهيوني في يونيو/حزيران 1967، ويقول مطلعها:
"لله آهل الإسلام بادروا بالتوبة واستَغفروا واطلبوا مُولانا
يفجي هذا الغمَّة على الجميع ويشفي المصاب".
ويقول الباحث عبد الصمد بلكبير في هذا الصدد إن القصيدة عنوان بارز لاهتمام فن "الملحون" بالقضايا الوطنية والقومية، مبرزا أنه قدمها إلى أكاديمية المملكة عندما كان عضوا بها إلى جانب أكثر من 3500 قصيدة أخرى تراثية غنية بمواضيع متنوعة.
وفي ذات السياق، يشير أنس الملحوني إلى شيخ أشياخ مراكش في زمانه، الشيخ الحاج محمد بن عمر، الذي أبدع في الأغراض الاجتماعية والوطنية بعدد غير يسير من "العّْرُوبيَّات " و"القصائد الملحونية"، ففي قصيدة نظمها خلال الحرب على فلسطين سنة 1967، يقول في لازمتها:
"صُونُوا بِيتْ المقدسْ يَا ارّْجَالْ النَّجْدَة نَصرُوا الدِّينْ يَا أهل لِيمَانِي.. وَاحموهْ مَن لَعْدَا اتّْفَرْ مَنُّوسَايَرْ لِيهُودْ".
ويعتبر هذا النص الشعري وأمثاله عند الشيخ محمد بن عمر شواهد عيان على تجاوب الشاعر الشعبي مع "وقائع الوطن الكبير" على حد قول الدكتور عباس الجراري.
وفي إحدى "عرُوبيَّات" الشيخ محمد بن عمر الملحوني، جاء موسوما بـ"القدس"، يُضمنه رغبته في الانتقال إلى القدس السليبة، والدفاع عنها قائلا:
"الحول علي جار، القدس نترجاه راني في أرض الغربة، مَكْواني صبَّار
آش يصبَّــر، يَا أهلِي جِـــيراني والوحش في اضلوعي، وَقـَّــدْ اجْمَارو
ولعدوفي أرضنا، تمكارونسَّاه جاهر في اعنادو، واليوم إيجاهر تجْهَار
سَلـُوا عمَّن، امسايروفي سْـــلاه اخبـيــــــرواليوم، ريُّـوفالس مَــكـَّـــارْ
اشهود تاريخنا، كَـتـْبَـاتْ بعياني الظَّالَــم، لا بُـد يَـنـْـتظَــر سَاعَة ابّْطَارُو".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: إلى أن
إقرأ أيضاً:
رحلة إبداع وإرث فني يتجاوز الزمان والمكان
حين يُذكر اسم أم كلثوم، يتبادر إلى الذهن صوت خالد وأغاني خالدة، لكنها كانت أكثر من فنانة. كانت رمزًا ثقافيًا، ووطنياً وإنسانياً، استطاعت أن تجمع بين الإبداع الفني، التأثير الاجتماعي، والمسؤولية الوطنية، لتصبح شخصية لا تنسى في التاريخ العربي والعالمي.
حياتها تُقرأ اليوم كقصة مشوقة تكشف التحديات، الإصرار، والقدرة على مواجهة المصاعب التي غالبًا ما يغفلها الجمهور.
البدايات: رحلة الطفولة من الأرياف إلى القاهرةوُلدت أم كلثوم في الأرياف المصرية في 1904 -وفق المصادر- حيث عاشت طفولة مليئة بالقيم الموسيقية والعائلية. انتقالها إلى القاهرة كان بداية رحلة تحدٍ حقيقي، إذ اضطرت للتأقلم مع مجتمع حضري صارم ومتطلب تغيير مظهرها ليواكب متطلبات النجومية. فقد والدها وشقيقها خالد أثر بشكل كبير على حياتها الداخلية، وشكل شخصيتها القوية التي تمكنت من الصمود أمام الإعلام والجمهور على حد سواء.
الإشاعات والضغط الإعلامي: صبر وإرادةطوال حياتها، كانت أم كلثوم محط متابعة مستمرة من الصحف العربية والعالمية، حيث تداولت الشائعات حول حياتها الشخصية، علاقاتها العاطفية، وصحتها. من The New York Times إلى Le Monde، تركزت التقارير على محاولة تصوير حياتها بأسلوب درامي، لكنها تمكنت من التحكم بصبرها واستراتيجيتها أمام هذه الإشاعات، محافظة على صورتها كرمز للجدية والاحترام، مما جعلها قدوة في ضبط النفس والاحترافية في مواجهة الضغوط الإعلامية.
الحب والزواج: صراعات القلب والفنعاشت أم كلثوم تجارب وواجهت شائعات عاطفية معقدة، بدءا من الشاعر أحمد رامي، مرورًا بخال الملك فاروق شريف صبري، وصولًا إلى خطوبتها للملحن محمود الشريف. هذه العلاقات واجهت رفضًا شعبيًا وإعلاميًا، لكنها استطاعت تحويل ألمها الشخصي إلى إبداع فني متواصل، ووضعت بصمتها في الأغاني التي تعكس الحب والفقد والصبر، لتصبح نماذج فنية خالدة تعبّر عن الروح الإنسانية بصدق وعمق.
الصحة والتحديات الجسدية.. صمود أمام المحنأصيبت أم كلثوم بورم في الغدة الدرقية، ما أثر على قدرتها على الإنجاب، وتعرضت للسرقة والتهديد بالقتل. ورغم ذلك، حافظت على التزامها بالفن، وارتقاء مستوى الموسيقى العربية، وأثبتت أن الإرادة الحقيقية للفنان تكمن في القدرة على تقديم أعمال خالدة رغم الصعوبات الجسدية والنفسية.
الوطنية والفن السياسي.. توظيف الصوت لخدمة مصرأم كلثوم لم تكن مجرد فنانة، بل رمز وطني استخدم الفن لخدمة الدولة المصرية. خلال الحروب المختلفة، ساهمت في جمع التبرعات لصالح الجيش المصري، وأدت أغاني وطنية أثرت على الروح المعنوية للمقاتلين والمواطنين على حد سواء. كانت موسيقاها أداة سياسية ودبلوماسية، فكانت رسالتها واضحة وهي أن تكون قوة وطنية مؤثرة.
السياسة والانزواء بعد ثورة 1956ارتبطت أم كلثوم بالملك فاروق، ومع ثورة 1956 عاشت فترة انزواء وعزلة من نقابة الموسيقيين. عاد لها حقها بالعمل (بفرمان) من الرئيس جمال عبد الناصر، مؤكدًا مكانتها الفنية والسياسية. هذا التوازن بين الولاء الوطني والإبداع جعلها جسرًا بين الفن والسياسة، وشخصية مركزية لفهم العلاقة بين الثقافة والفكر السياسي في مصر الحديثة.
المنديل وصورة الإنسان أمام الجمهوركانت أم كلثوم تحمل منديلًا دائمًا أمام الجمهور بسبب توتر شديد وتعرق اليدين، ما يعكس التزامها بالظهور بأفضل صورة أمام جمهورها واحترامها وتقديرها الشديد لعملها وفنها وإدراكها أنها رسالة. هذه التفاصيل الصغيرة، تكشف إنسانيتها وتواضعها، وعمق احترامها للجمهور، وتثبت أن الأسطورة ليست مجرد صوت بل شخصية متكاملة تصنع الإبداع من داخل المعاناة والتحدي.
الشهرة العالمية وتأثيرها على الصحافة والفنحياتها كانت محور اهتمام الصحف العالمية مثل The Guardian وLe Monde وThe New York Times، التي أشادت بقدرتها على توظيف الفن في خدمة القضايا الوطنية والاجتماعية، وسلطت الضوء على صبرها وإرادتها في مواجهة الضغوط والتحديات، مما جعلها رمزًا عالميًا للقيادة الثقافية والفنية والإنسانية.
إرث خالد يتجاوز الزمان والمكانإرث أم كلثوم يستمر لأنه جمع بين الفن، الإنسانية، والوطنية في لوحة واحدة. صوتها لم يكن مجرد ألحان، بل مرآة للعاطفة، القوة، والصبر في مواجهة التحديات. شخصيتها وفنها شكّلا نموذجًا عالميًا للقيادة الفنية والثقافية، وقدرتها على توظيف الفن كأداة للتأثير السياسي والاجتماعي جعلت صوتها خالدًا في ذاكرة الأجيال. من خلال أغانيها ورسائلها الإنسانية، تظل أيقونة حية، رمزًا للفن الذي يصنع التاريخ ويُلهم المستقبل، وصوتها حاضر في كل زاوية من العالم العربي والعالمي.