موقع النيلين:
2025-12-14@21:26:17 GMT

دولة 1956 في السودان : يتيمة في يوم استقلالها (1-2)

تاريخ النشر: 31st, December 2023 GMT


اليوم هو وقفة العيد الـ 68 لاستقلال السودان في الأول من يناير 1956. وهو يوم يتم طقوسي وسياسي للعيد لم يقع له من قبل. فلن تنعقد الاحتفالات التقليدية به بسبب الحرب. وهذا مفهوم، لكن يجيء صميم يتمه من أن قضية هذه الحرب التي تأكل الأخضر واليابس، بحسب القائمين بها، هي تقويض “دولة 56″، أي دولة الاستقلال.

لم يتوقف نقد هذه الدولة منذ الاستقلال ممن صار يعرف بأهل الهامش السوداني محتجين على حظهم البئيس منها لاستئثار أهل النيل والوسط الشماليين بوظائفها ولذائذها.

فقام القوميون الجنوبيون خلال فترة الحكم الذاتي (1954-1956) بما تعارف عليه “بتمرد” أغسطس 1955 احتجاجاً على بخسهم حظهم من سودنة الوظائف في الدولة التي أخلاها المستعمرون الإنجليز ضمن أسباب أخرى.

وتنوعت صور الطعن في الاستقلال لتراوح ما بين الأحزاب والمنظمات الإقليمية مثل مؤتمر البجا، وجبهة نهضة دارفور، واتحاد جبال النوبة، والحركات المسلحة التي طبعت تاريخنا في الاستقلال بحرب أهلية أزلية. ولم تبلغ أي من هذه الاحتجاجات مبلغ قوات “الدعم السريع” من مناضلة الاستقلال المنقوص. فهي الآن، غيرها جميعاً، على أبواب العاصمة، التي كان ارتفع عليها علمه قبل 68 سنة، تريد استكماله بيدها.

وسقم الهامش من الاستقلال واضح. لكن ثمة ضجراً آخر من الاستقلال ذاع بين صفوة الشمال والوسط المتهمين أنفسهم بالاستئثار بالاستقلال من غير التفات كبير له. وبدا كامتياز للفئة تنغمس فيه بغير مسائل أو معقب، أو هذا ما خيل لها. فقد تمكنت منها الخيبة الطويلة من بشريات الحرية الوطنية. وبلغ بؤس المردود المشاهد من الاستقلال حداً دفعها إلى الاعتقاد بخطأ نيلنا الحرية الوطنية أصلاً. وهو تنصل صريح من الاستقلال بالندامة على فعل الحرية ومردودها.

ويرى المتنصلون في الاستقلال قفزة في الظلام هززنا بها الشجرة الوارفة (دولة الاستعمار) ولم نلتقط الثمر. ولهم في سقمهم هذا فنون يلحنون بها. ومن ذلك ما شاع عن امرأة استنكرت الاستقلال أول ما سمعت به قائلة “إن شاء يا الإنجليز لا تفوتو لا تموتو”، هذا عن الهذر بالحجة. أما بالجد فهم خلصوا إلى أننا دمرنا بأيدنا ما تركه الإنجليز فينا من منشآت وخدمات وجعلناه خرائب. ومع هذا فالسقم الصفوي وغير الصفوي من الاستقلال شائع في أفريقيا حتى تنامت الدعوة إلى عودة الاستعمار إلى القارة بمبررات شتى.

ويذكر الناس للدكتور علي مزروعي، عالم السياسة الأفريقي الذي لا ترقى الظنون إلى حسن وطنيته، مقاله عام 1994 في “الهيرالد تريبيون” دعا فيه إلى عودة الاستعمار إلى القارة بتفاصيل لا مكان لذكرها هنا. ويدور في ساحة الفكر الأفريقي جدل حول من الملوم في تخريب الاستقلال. فهناك المدرسة البرانية التي تنسب العاهة إلى الأوروبيين الذين طبعونا بالتبعية لهم، وإن غادرونا جسماً. وهناك المدرسة الجوانية التي تقول إن العيب في الأفريقيين أنفسهم الذين فرطوا في استقلالهم بأيديهم. والإشكال مع ذلك أعقد من هذا التقسيم النظيف للتبعة في انزلاق الاستقلال الوعر.

أكبر معارك الحظ المبخس من الاستقلال ما دار حول الوظيفة الحكومية. فوقعت هذه المعارك كما تقدم مباشرة بعد إجراءات سودنة وظائف الإنجليز قبيل الاستقلال. فتباخست دولة الحكم الذاتي. فلم تمنح الجنوبيين غير ثلاث وظائف دنيا من نحو 800 وظيفة تسودنت. فخرجت الفرقة الجنوبية من قوة دفاع السوداني على الدولة في 1955 احتجاجاً على ظلمها لهم وتضرج الاستقلال. وانصرف مطلب حركات الهامش اللاحقة باقتسام السلطة مع المركز الشمالي إلى “طبعة لاحقة” للسودنة في قول أحد الكتاب. فتقاتل الحركة باسم إقليمها، ولكن ما تصالحت مع المركز كان نصيب صفوتها من الوظيفة الدستورية والعامة الأبرز في صلحهما.

واستثني هنا العقيد قرنق وحركته الشعبية لتحرير السودان من طلاب السودنة المستدركة لإقليمه. فكان خرج في ميثاقه الباكر في 1983 يدعو بأن المشكلة في السودان قومية متمثلة في مركز قابض وجب تفكيكه ليتسع للسودان جميعاً. بعبارة، لم تعد مسألة جنوب السودان عنده “جنوبية”، بل “سودانية”. وزاد بانتقاد اتفاق أديس أبابا (1972) بين حركة الأنيانيا الجنوبية المسلحة ونظام الرئيس نميري لاقتصارها على فتح باب التوظيف للجنوبيين في المقامات السامية بالدولة. وسترى هذه السودنة المستدركة متى اطلعت على “الكتاب الأسود” (2000) الذي صدر من بين أوساط حركات دارفور المسلحة. واقتصر سقف متعلمي دارفور في الحركات المسلحة وغيرها فيه على نقد دولة 56 مغلبين الرغبة بالوظيفة في الدولة على غيرها. فانصرف الكتاب بصورة رئيسة لبيان قلة حظ “مثقفي دارفور” من وظائف الدولة الدستورية والقيادية.
ونواصل

عبد الله علي إبراهيم

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: من الاستقلال

إقرأ أيضاً:

سقوط هجليج

لم يكن سقوط مدينة هجليج النفطية على يد قوات الدعم السريع حدثًا عابرًا يمكن طيه في دفاتر الصراع السوداني المتشابك؛ بل كان لحظة مفصلية تحمل في طياتها انهيارات نفسية وسياسية واقتصادية عميقة. فهجليج ليست مجرد مدينة حدودية، بل إحدى أخطر النقاط الاستراتيجية في السودان، موقعًا وثروةً ورمزًا. حيث تُعد هجليج الواقعة غرب ولاية كردفان السودانية واحدة من أهم مناطق الإنتاج في البلاد، إذ تضم ٧٥ حقلًا نفطيًا. كما تحتوي على المحطة الرئيسية لمعالجة نفط جنوب السودان ومحطة الضخ الأساسية. ولذلك، فإن سقوطها جاء كصدمة أعادت تشكيل المشهد الداخلي بكامله، وكشفت حجم التصدعات التي باتت تهدد ما تبقى من بنية الدولة.

أول التداعيات كان نفسيًا وشعوريًا. فقد رأى السودانيون في مشهد سقوط مدينة نفطية بهذا الوزن إعلانًا مؤلمًا عن هشاشة الدولة، وفقدانها السيطرة على واحد من أهم مواردها الاقتصادية والنفطية. أصبح السؤال الذي يتردد في وجدان الناس: إذا سقطت هجليج، فماذا تبقى قابلًا للصمود؟ هذا الشعور بالفقد عزز الإحساس العام بالقلق، ورسّخ الاعتقاد أن الصراع لم يعد مجرد تنازع على السلطة، بل انتقل إلى تهديد مباشر لبنية الدولة ومواردها الحيوية.

اقتصاديًا، كان السقوط كارثيًا. فهجليج تمثل واحدًا من أكبر مصادر إنتاج النفط في السودان، وعليه فإن تراجع السيطرة عليها يهدد الإيرادات العامة، ويعمّق الانهيار الاقتصادي الذي ضرب البلاد منذ سنوات. لم يعد النفط مجرد مورد، بل طوق نجاة كانت الدولة تتشبث به وسط عواصف الصراعات والتضخم والانهيار المالي. ومع فقدانه، دخلت البلاد في مرحلة جديدة من الارتباك الاقتصادي، حيث تزداد الحاجة إلى موارد غير متاحة، ويتفاقم الضغط الشعبي على حكومة منهكة أصلًا.

أما سياسيًا، فقد أحدث السقوط هزة عميقة. فتمكن الدعم السريع من السيطرة على مدينة بهذا الثقل أظهر الحجم الحقيقي للقوة التي باتت تمتلكها هذه الجماعة المسلحة، وعمّق الانقسام بين مكوّنات السلطة الشرعية والقوى العسكرية المتصارعة. كما أعاد تشكيل التحالفات الداخلية والإقليمية، إذ تحركت القوى الدولية والإقليمية لتعيد تقييم مواقفها في ضوء التحولات العسكرية على الأرض. سقوط هجليج لم يكن انتصارًا تكتيكيًا لطرف، بل تحولًا استراتيجيًا يعيد رسم موازين القوى داخل السودان.

إن أخطر ما كشفه الحدث هو أن الصراع في السودان لم يعد يدور حول العاصمة أو المدن الكبرى فقط، بل بات يستهدف شرايين الدولة الاقتصادية. سقوط هجليج كان تحذيرًا بأن الحرب لم تعد تهدد المواطنين وحدهم، بل تهدد البنية التي يقوم عليها الوطن ذاته. هو سقوط لمورد، ولسيادة، ولمعنى السيطرة، قبل أن يكون سقوطًا جغرافيًا.

وفي النهاية، يمكن القول إن تداعيات سقوط هجليج ستظل طويلة الأمد، لأنها لم تضعف الدولة فحسب، بل أعادت تعريف حدود قوتها وحدود ضعفها.

مقالات مشابهة

  • نائب القائد العام: نبارك إجراء الانتخابات البلدية ونؤكد دعمنا للاستحقاقات الوطنية التي تدعم مسار بناء الدولة
  • الفظائع التي تتكشّف في السودان “تترك ندبة في ضمير العالم”
  • جديد دولة الصهاريج: مياه الـVIP
  • عبر الخريطة التفاعلية.. ما أهمية المنطقة التي وقع فيها كمين تدمر؟
  • السودان يدين هجوم مليشيا الدعم السريع على مقر الأمم المتحدة بكادوقلي
  • كسلا تخرج في مسيرة هادرة تأييداً للقوات المسلحة
  • سقوط هجليج
  • مدبولي يؤكد دعم الدولة لمختلف المشروعات الثقافية المتنوعة التي تستهدف تقديم الخدمات خاصة للشباب والنشء
  • الخلافات الداخلية والرسائل الخارجية تعيد تشكيل مشهد اختيار رئيس الوزراء
  • سبعة أسئلة لكاميرون هدسون حول السودان والدبلوماسية وترامب