عثمان يوسف خليل
نحتاج إلى حرب جديدة أسلحتها الكتب وقادتها أهل الفكر وضحاياها الجهل والتخلف .
* فيودور دوستويفسكي
موضوع الكتابة في زمن الحرب تحت أهوال صعبة يعبر عن التحديات والصعوبات التي يواجهها الكتاب والمثقفون في بعض الأماكن. أن هذا النص هو امتداد لنصوص تطرقنا فيها للصعوبات التي تواجهها الكتاب في السودان، مُظهرًا الضغوطات والمخاطر التي قد تواجه الكتاب عند محاولة التعبير عن أفكارهم في ظل الظروف الصعبة والتحديات الكبيرة.
ولقد لفتنا تطرقنا في مواضيع سابقة عن التأثير الاجتماعي والثقافي للكتابة في زمن الحرب، ورأينا كيف تصبح الكتابة وسيلة لنقل الأمل أو المعاناة. في بعض الأحيان،كما يمكن للكتابة أن تصبح وسيلة للمقاومة أو لتوثيق الذاكرة التاريخية. كما يمكننا مناقشة كيف يمكن للكتابين أن يجدوا الشجاعة لمواجهة التحديات والمخاطر من أجل الكتابة والتعبير عن أنفسهم رغم كل الصعوبات.
طالعت تعليقاً لاحد الكتاب السودانيين وهو يشجع فيه من بيدهم القلم ان يكتبوا ان الكتابة في زمن تشبه تلك العملية الجراحية المؤلمة في القلب..اما صاحبكم فيرى ان عملية الكتابة في ايامنا هذه هي اشبه ماتكون بعملية المخاض المتعثر او لنقل انها مثل الولادة في السودان في زمان سحيق حين كانت النساء يلدن بطريقة ماكان يسمى بالحبل، فهل منكم من يتصور بشاعة تلك الطريقة والتي لا تشبه غير تعليق الخروف المذبوح وهو معلق لا حول له ولا قوة..هل الدم السوداني اصبح رخيصاً لدرجة ان مجموعة من عيال لا يعلم إلا الله من اين اتوا ولم؟..
وحري بنا ان نتذكر بانه في العديد من الظروف الصعبة خاصة في زمن الحرب، يصبح الكتاب والمثقفون هم الأشخاص الذين يمكنهم تسليط الضوء على القضايا المعقدة والمحظورة. من خلال كتاباتهم، يمكنهم توجيه الأنظار إلى الظلم، والقمع، والمعاناة التي قد يواجهها الأفراد كانوا او المجمعات..علاوة على ذلك، قد يكون للكتابة في زمن الحرب والأزمات دورًا في إحياء الذاكرة وتوثيق الأحداث التاريخية. من خلال الأدب والشعر والنصوص الأخرى، يمكن للكتاب إحياء قصص البشر وتسجيل الأحداث التي قد تم تجاهلها أو تحريفها.
بالتالي، يصبح للكتابة في هذه الظروف قوة فعالة يمكن أن تساهم في تغيير الوعي الجماعي، وتوجيه الانتباه إلى حالة الظلم، والمساهمة في بناء مستقبل أفضل للجميع.
في هذه الحالة، يمكن التركيز على الحالة النفسية للكاتب في ظل ظروف الحرب وكيف تؤثر هذه الظروف على إبداعه ونظرته للعالم. يمكن للحرب أن تثير مشاعر القلق، الخوف، الغضب، والحزن، مما ينعكس في كتابات الكاتب ويؤثر على موضوعاته وأسلوبه الأدبي.
تحت هذه الظروف، قد يجد الكاتب نفسه في مواجهة تحديات نفسية كبيرة، مثل صعوبة التعبير عن الذات، أو التوتر بين الرغبة في الكتابة وبين مشاعر الاحتباس والخوف من الانتقاد أو الانتقام. علاوة على ذلك، قد يواجه الكاتب تحديات في تواصله مع الجمهور، حيث يمكن أن تتأثر قدرته على نقل رسالته وتأثيره على المجتمع بسبب الظروف القاسية التي يمر بها.
حاولنا ان نلقي الضوء على العقبات التي تواجه الكاتب ماملين ان يكون لهذا النص فيه الغني والمعبر. وقد امّلنا ان النص يسلط الضوء على أهمية الكتابة في ظل الظروف الصعبة والتحديات التي يواجهها الكتاب والمثقفون، خصوصًا في السودان. يُظهر النص العمق النفسي للكُتّاب وكيف يمكن للظروف الصعبة مثل الحرب أن تؤثر على قدرة الكاتب على التعبير عن نفسه وعلى البيئة المحيطة به. كما يُظهر النص الأهمية الكبيرة للكتابة كوسيلة لتوثيق التاريخ وإحياء الذاكرة، وكذلك كوسيلة للمقاومة والتغيير الاجتماعي. وقد راعينا ان النص يعبر عن تفهم عميق للتحديات التي يواجهها الكتاب في مثل هذه الظروف، ويدعو إلى الوعي والتأمل في دور الكتاب والمثقفين في مثل هذه الأوقات الصعبة.
بشكل عام، تكون الحرب وظروفها محورًا يؤثر على الحالة النفسية للكاتب، ويعكس ذلك في كتاباته ونظرته للعالم من حوله.
وفي الختام ندعوا كتابنا ان يُظهروا التضامن والدعاء للسودان وأهله، وهو ما يُضيف طابعًا إنسانيًا ومعنويًا قويًا لما يعبرونه من حب.
حفظ الله السودان واهله ولكم معزتي..
عثمان يوسف خليل
المملكة المتحدة
.
osmanyousif1@icloud.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی زمن الحرب الکتابة فی هذه الظروف
إقرأ أيضاً:
إطار لجنائزية الصورة في مجموعة «وجه صغير يتكدّس في كل ظهيرة»
يطالعنا الكاتب والشاعر والسينمائي العماني عبدالله حبيب بمجموعته الجديدة (وجه صغير يتكدّس فـي كل ظهيرة) الصادرة عن دار الانتشار العربي عام 2024م بنصوص شعرية تتماثل فـي بنائها وأسلوبها الكتابي مع نصوص سابقة له، لا سيما المشتغلة على استحضار المكان القروي المتمثل فـي قريته «مجز الصغرى»، أو فـي العودة إلى الشخوص التي عبَرت على هذا المكان وتركت أثرًا فـي ذاكرة الشاعر استعادها بعد فترة من الزمن.
وهنا يمكن القول إنّ الشخصيات الحاضرة عند عبدالله حبيب أو الأمكنة ما كانت لتتمدَّد فـي تلك النصوص إلا لأنها تمدّدت قبل ذلك فـي ذاكرة الشاعر وصنعت من ذاكرته مستودعًا للبقاء أو الرحيل. نجد عبدالله حبيب فـي مجموعات سابقة استعاد المكان والذاكرة والشخوص مقدّمًا سيرة للمكان وللإنسان التي لم تُمحَ من ذاكرته ووجدانه معبّرًا عن الارتباط الوثيق بالذاكرة المكانية.
يرتاد عبدالله حبيب هذه الذاكرة مستمطرًا منها رذاذ الحب والموت والرحيل، وهي ملحوظة متكررة فـي نصوص سابقة للشاعر؛ إذ لا يجد الشاعر بُدًا عن الحديث عن علاقات الحب والموت والرحيل والمكان فـي نصوصه، وكأنها ذاكرة بُنيَت من التفكير الكتابي الذاتي للشاعر، تحاول أن تجرّه إلى العالم المتخيل للكتابة.
شدّني فـي هذا الارتباط بين العلاقات السابقة والكتابة الشعرية، جنائزية الصورة المتمثلة فـي صورة الغلاف؛ صورة قبر عليه شاهدة تحمل اسمًا لعبدالله حبيب عبدالله بن محمد المعيني (الصغير)، فـي ارتباط مهم بعنوان المجموعة المرتبط بصورة الشاهدة، من دلالات (الوجه الصغير) فـي إشارة إلى تقارب وتماثل بين شخصيتين واحدة غائبة وأخرى حاضرة، تبعتها إشارة محددة لذلك التماثل فـي الصفحة (10) قائلًا: «إلى ذكرى عبدالله حبيب (الصغير): ليتك ما كنتَ أنا، وليتني كنتُ أنتَ».
يوجد ارتباط وتماثل بين شخصيتين يقترب أحدها من الآخر بدلالةٍ من حيث الاسم، كما قدَّمت صورة الغلاف هذا التماثل مقترنًا بالرحيل الأبدي وكأن الشاعر يرى فـي الرحيل صورة تُورَّثُ عبر الزمن إلى أجيال لاحقة.
يحاول عبدالله حبيب أن يقدّم صُوره الشعرية فـي إطار جنائزي متذبذب بين الدهشة والحزن، لكنه لم يستطع الخروج عن إطار نصوص مجموعاته السابقة مثل (فاطْمَهْ أو أنامل زغبى على عزلة الشاهدة) مثلًا. نجد مثل هذا الخطاب فـي نص (بصمة) الذي تظهر الصورة فـيه متذبذبة بين تيارين مختلفـين:
لستُ سعيدًا
لستُ حزينًا
لستُ عاشقًا ولا حكيمًا
لستُ ليلًا ولا قيامة
خارت ركبتاي
حين اتصلتِ.
فـي نص قصير يبرز فـيه ضمير المتكلم إزاء ضمير المخاطب، ويظهر انقسام الذات على نفسها، والتأرجح بين طرفـين، حتى إنّ سلطة المخاطب تطغى على سلطة المتكلم الذي يقترب من النهاية، هنا يمكن قراءة النص من زاوية رومانسية أو فجائعية أو من زاوية أخرى يُحدّدها التأويل القرائي.
وفـي نص (قمح) يقودك الشاعر إلى عالم الواقع بترتيب الأحداث فـي الحكاية: (التظاهر بالنوم، والذهاب إلى الحمّام والجلوس على المرحاض وفرك الأسنان بالفرشاة والمعجون والاستحمام)، كل شيء هنا يبدو طبيعيًا إلا إقحام الموت والقبر فـي دائرة المرآة التي كلما نظر إليها رأى قبره مفتوحًا. يقودك النص إلى تعدد زاوية الرؤية والحركة النصية بالسؤال إلى أي نهاية يقودك ذلك الترتيب؟ ثم يقفل الشاعر نصه بعبارة:
يا إلهي
لست أحمق مرة أخرى.
تحيلك هذه العبارة على المستويات المختلفة للفكرة، فالصورة القاتمة التي تقود من النوم إلى الموت صورة بشعة يخشى معها المرء النوم أو التفكير به.
كما يتلاعب عبدالله حبيب فـي صنع الصورة الجنائزية ببصر القارئ وتفكيره؛ ففـي نص (شهيد1) يلعب الشاعر دور الراوي فـي سرد الحكاية قائلًا:
مات صديقي
تقول الرواية الأولى إنه لم يتحمّل التعذيب
تقول الثانية إن غيمة تسللت إلى الزنزانة وأخذته
الثالثة: إن طاعونًا تقيأ الأرض
والرابعة تقول إن ملاكًا ضلَّ طريقه وتهشم على الأسوار.
كل الروايات هنا متخيلة، تلتصق بالموت فـي السطر الأول، لكنه يعاود فـي جملته الأخيرة كالعادة تحويل بصر القارئ إلى عوالم مختلفة، وإلى زوايا أبعد من الروايات الأربع الحاضرة:
تقول الرواية الخامسة إن أم الشهيد تشكك فـي تلك الروايات.
يحضر (تعوب الكحالي، وخالوه عوشوه، وحبوه أمون، وحمدان الأعمى وجمعة بلال) كالعادة فـي نصوص عبدالله حبيب مشكلين ارتباطًا مهمًا بالمكان القروي وبالبحر، لكن الصورة الماثلة للشخصيات السابقة تتعلق بالرحيل والموت والقبر؛ إذ يحاول عبدالله حبيب صنع صورة جنائزية فـي التعبير، وهنا نطرح سؤالًا مهمًا مرتبطًا بهذه المجموعة والمجموعات السابقة: هل ارتبطت قرية مجز فـي ذهن عبدالله حبيب بالحزن؟ فكلما أراد أن يصرفها إلى الحب اختلطت مشاعر الحزن مجددة الذاكرة الحزينة.
لا أثر لجواب محدد إلا ما نلمسه من تشكّلات الحزن فـي النصوص المقترنة بذلك، وهنا يُعَدُّ الحزن والموت ظواهر تعدّدت فـي التشكيل الشعري عند الشاعر، نجد تمددها قد اتسع، ليقترن بالرحيل والطفولة والمكان والبحر والقرية والذاكرة التي لا تتخطى كتابات الشاعر. فـي نص (تعوب الكحالي) مثلًا يقول:
زارني قبرك فـي الإعصار
ويهوي طبل على نجمة غريقة.
برغم قصر النص مرة أخرى، نجد الدلالات المنفتحة على الفجائعي مثل (القبر والإعصار) تواجه دلالات الحياة مثل (الطبل، والنجمة)، فالقبر مكان الفزع والظلمة، تقابله النجمة الساكنة فـي الظلام، والإعصار المتمثل فـي القوة والدمار يتلاقى مع الدلالات الصوتية المتمثلة فـي الطبل. هذا التداخل فـي الدلالات أوجد اتجاهات عدة يقود إليها النص لحظة القراءة والتأمل، الأمر ذاته فـي نص (حبوه أمون) الذي تلعب الدلالات فـيه دورًا محوريًا تقود إلى اتجاهات بصرية متمثلة فـي الخسوف والكسوف من جانب، وفـي البحر من جانب آخر فـي ارتباطٍ مهم بشخصية حبّوه أمون التي لا تحضر إلا فـي عتبة العنوان. وينحى نص (حمدان الأعمى) منحى آخر عندما يأخذ اتجاهًا سرديًا أكثر من الاتجاه الشعري، إنه نص سردي سيستعيد معه عبدالله حبيب ذاكرة قديمة، كما تختلف فـيه اللغة عن نصوصه الشعرية فـي المجموعة، ربما أراد من النص أن يكون نصًا سرديًا مرتبطًا بالذاكرة بعيدًا عن لغة الشعر التي قد تضمر فـي دلالاتها، وتخفـي فـي لغتها كثيرًا من التأويلات، هنا تبوح الذاكرة فـي قالب حكائي يستعيد فـيه المكان والشخصيات البسيطة، يقول:
كان يشتري مني الليمون الذي أسرقه من مزرعة الوالد
كل ليمونة خضراء ببيسة واحدة فقط، ونصف دمعة
ويبيعها بعشر بيسات فـي سوق مطرح
الذي تأخذه إليه عيناه المتشبثتان بعجلات الشاحنات
حوالي ألف ليمونة تنعصر خوفًا
حتى تمكنتُ من شراء راديو صغير (National Transistor)
ربطتُ هَوَائيَّه بسلكٍ كهربائيٍ (سرقتُه من بيت خالي محمد) موصول خِلْسَةً مِن عِظامي إلى سقف الأرض لتقوية استقبال الذبذبات
كي أستمع إلى بيانات «الجبهة الشعبية» فـي الليل
(فـي آخر بيان أسروا الملكة وأعادوها إلى شكسبير)
حين كادت صَحَمْ تقتلني فـي حادث سيارة
جاء حمدان الأعمى يعودني بعينيه الغائبتين
خلف مصائرنا الشحيحة
بكى حمدان الأعمى حتى سقط جفناه على فراشي
وأصابت الأنبياءَ عَصَاه
عندما مات حمدان الأعمى
ملأتُ لَحْدَه بالليمون الأخضر واليابس
وبيانات «الجبهة الشعبية».
لا يمكن لهذا النص إلا أن يكون ثورة الذاكرة، وشهادة خالدة على المكان الذي يصنع مصائر شخوصه، إن حمدان الأعمى هنا هو الصورة الحية التي يبنيها الشاعر فـي وسط مرحلة مترعة بالأحزان والرحيل، أما الوفاء فكان بعد الرحيل بملء اللحد بالليمون الأخضر واليابس وبيانات الجبهة الشعبية التي هي انبثاق الذاكرة التي تمدّدت فـي نصه الشعري.
يتحول النص هنا من كونه وصفًا بسيطًا لمكان قابع فـي الذاكرة إلى صورة خالدة مليئة بالفجائعية، كلما تذكرها الشاعر انفتحت على آلام الماضي وأوجاعه، وهنا يتحول حمدان الأعمى نفسه إلى ذاكرة داخل الذاكرة الكبرى، وكذلك الأمر مع تعوب الكحالي، وحبوه أمون، وخالوه عوشوه، وجمعة بلال، الذين أصبحوا ذاكرة تتسع كلما أطلق الشاعر لنفسه عنان التعبير والتذكر.
هكذا يستقصي عبدالله حبيب المكان، وهكذا يزجّ بشخوصه إلى كتاباته الشعرية مقدّمًا كل شخصية وكل بقعة مكانية بما يتلاءم مع ذاكرته التي خُلّدت مكانيًا وزمانيًا.