لجريدة عمان:
2025-12-13@04:04:30 GMT

«الميزة العابرة» في رأس مال الابتكار

تاريخ النشر: 9th, January 2024 GMT

في عام 2003 بدأت شركة تسلا (Tesla) بالتموضع في قطاع صناعة السيارات، أدركت الشركة مبكرًا بأن مستقبل النقل لا يمكن أن تشكله ممارسات صناعة السيارات التقليدية السائدة حينذاك، فبادرت في وضع تصور مستقبلي حيث يستطيع الناس قيادة السيارات الكهربائية التي تعمل بالطاقة المتجددة، والمتصلة بشبكات ذكية، والقادرة على القيادة الذاتية، ووضعت استراتيجية بمنهجية «العودة من المستقبل» (Future-back) لتوجيه الابتكار نحو تحقيق مستوى الطليعة في صناعة السيارات الكهربائية، وفي عام 2020 حازت تسلا على لقب شركة صناعة السيارات الأعلى أداءً من حيث إجمالي العائدات، ونمو المبيعات، وقيمة المساهمين على المدى الطويل، فبدأت شركات التكنولوجيا في استلهام الدروس من هذه التجربة، والبحث عن طرق لاستنساخهاـ، ولكن استراتيجية تسلا في الابتكار ليست سهلة التقليد، كما جاء في تصريح أحد القادة التنفيذيين لابتكارات خط التصنيع حيث قال: «كان الأمر صعبا بالنسبة لنا أيضًا؛ لأننا تاريخيًا كنا مهندسين ميكانيكيين عظماء، ولكن النجاح يتطلب إجادة مهارات أخرى بجانب الهندسة مثل البرمجيات»، إذن ما هي أسرار التفكير المستقبلي في استراتيجية تسلا؟ وما هي الرهانات الكبيرة التي وضعت في رأس مال الابتكار للحصول على التوافق التنفيذي لهذه الاستراتيجية؟ دعونا في البدء نتعرف على مصطلح رأس مال الابتكار (Innovation Capital)، إذ تشير الأدبيات إلى أنه تعبير اقتصادي يُطلق على ذلك الأصل الاستراتيجي الناتج عن اندماج أربعة عوامل في عملية الابتكار، وهي أولاً رأس المال البشري الخاص بالابتكار ويتكون من عقول المبتكرين التي تقود التفكير المستقبلي، وحل المشكلات بشكل إبداعي، وثانيًا يأتي رأس المال الاجتماعي الذي يعزز الشراكة والتعاون مع الجهات المالكة للموارد الداعمة لكسب القيمة من مخرجات العقول الابتكارية، أما العامل الثالث فهو رأس مال السمعة الخارجية، وهي تعكس السجل الحافل بالنجاحات السابقة في مجال الابتكار، وأخيرًا تربط «مضخمات الانطباع» العوامل الثلاثة السابقة بروابط تمكينية من خلال حزمة الإجراءات والسياسات والممارسات التي تستهدف تعزيز المصداقية، وجذب الموارد اللازمة لازدهار الابتكار واستدامته، وفي تجربة شركة تسلا كان التركيز على رأس مال الابتكار من منظور إطلاق العنان للنمو غير المألوف في أوقات عدم اليقين الاقتصادي، وذلك كتوجه استراتيجي طويل المدى، والتزام حقيقي بجهود الابتكار التحويلي، وهذا هو سر نجاح الاستراتيجية.

فإذا عدنا لسنوات قليلة للوراء نجد أن جائحة كورونا قد فرضت على قادة الأعمال تأجيل الخطط الاستراتيجية ذات المدى المتوسط والطويل، كان ذلك بسبب التفكير التفاعلي الذي اتسم به عصر الوباء، ولم تتعافَ المؤسسات في مختلف القطاعات حتى يومنا هذا من منهج التفاعل الآني بشكل كامل، مما خلق علاقة عكسية بين الاستثمار في الموارد والاستثمار في صناعة القرارات الاستراتيجية، فإدارة الأعمال المؤسسية تتطلب ضخ موارد بشرية ومالية وتخصيص الوقت الكافي للوصل إلى نسب معقولة للإنجاز، وهكذا تقلصت المساحة المخصصة للتخطيط والاستشراف الاستراتيجي على مدى زمني أوسع، وإذا أخذنا في الاعتبار تحديات تعريف محركات التغيير الأكثر صلة بواقعنا سريع التحولات، فإن نمذجة السيناريوهات المستقبلية المحتملة قد لا تفي بتطلعات تحديد الفرص الجديدة التي تستحق المزيد من التحقق والاستثمار، ولكن هذا لا يعني إطلاقًا التخلي عن وضع الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد، وإنما يجب التركيز على فهم المتطلبات الحالية والمستقبلية على ضوء تأثير القوى الكلية التي هي أوسع من حدود المؤسسة، والتي غالبًا ما يتم تصنيفها على أنها اجتماعية وتكنولوجية، ودوافع اقتصادية وتنظيمية، وهذا ما يطلق عليه رؤية الواقع الحالي حول الزوايا، وهي ضرورية لإعادة تشكيل مضامين الميزة التنافسية قياسًا على نماذج الفرص الأكثر قابلية للتطبيق في الوقت الراهن، وتطلعات المشهد المستقبلي، وهنا ظهر مفهوم «الميزة العابرة» الذي طرحته البروفيسورة ريتا ماكجراث؛ أستاذة علوم الاستراتيجية في جامعة كولومبيا، وجاء ظهوره بعد تزايد القلق بشأن جدوى التخطيط على المدى الطويل في ظل وتيرة التغييرات السريعة التي تجعل حتى الخطط التي مدتها ثلاث سنوات متقادمة وغير مواكبة، ويتم أرشفتها قبل أن يتوفر لها الوقت الكافي للتنفيذ، مما يعني أن عالم المؤسسات والأعمال اليوم بحاجة إلى المرونة والاستجابة من خلال تصميم مبادرات استراتيجية موجهة لتوظيف مزايا تنافسية مؤقتة، مع الاحتفاظ باستراتيجية طويلة الأمد تغطي جميع مضامين الميزة التنافسية بشكل متكامل، لتفادي ظاهرة الانفصال الأساسي والوظيفي بين الاستراتيجية وفرص الابتكار في التنفيذ، ففي حين أن الاستراتيجية من دون ابتكار ليست سوى عملية آلية لوضع ميزانية برامج التنفيذ بشكل سنوي، فإن الابتكار من دون استراتيجية يؤدي إلى نقص حقيقي في الالتزام التنفيذي.

وهذا يقودنا إلى نهج التخطيط الاستراتيجي بالعودة العكسية من المستقبل وهو طريقة تفكير وتخطيط تبدأ والنهاية في الاعتبار، وبذلك يتفادى هذا النهج النقاط العمياء في التخطيط التقليدي، ويتضمن تحديد المشهد المستقبلي ثم تحليل المعطيات ومسارات التنفيذ بطريقة زمنية عكسية من المستقبل إلى الحاضر، من أجل تحديد الأولويات على المدى القريب الذي يمتد من ثلاث إلى خمس سنوات، أي أن التخطيط يبدأ من الوجهة المنشودة، أو على الأقل بالقرب من هذه الوجهة، مما يجعل رحلة التنفيذ أكثر احتمالا، وذلك بعكس التخطيط التقليدي الذي يبدأ من الواقع الراهن بكل تحدياته مما يؤدي في غالب الأحيان إلى انحراف مسارات التنفيذ عن الوصول للوجهة المنشودة، ويختلف نهج التخطيط بالعودة من المستقبل عن أداة رسم السيناريوهات الكلاسيكية، فهو لا يتعلق بالتنبؤ بالمستقبل أو وضع افتراضات، بل يتمحور الأمر حول استكشاف الاحتمالات الأقرب لتحقيق الحالة المستقبلية، واختبار فرضيات إعادة إنتاج الدور الاستراتيجي للفريق أو المؤسسة، وتتلخص المنهجية في رسم صورة المستقبل ثم تعريف خطوات الوصول إليه كمهام أساسية ومُلزمة، مع إتاحة المرونة في مجموعة «المساحات البيضاء» التي تعكس مبادرات النمو التي لم يتم تعريفها في المهام، وهنا يتم تحويل الرؤية إلى عمل، من خلال ترجمة الحالة المستقبلية حرفيًا إلى قائمة المهام، وتحديد أولويات التنفيذ عبر مناطق الفرص الاستراتيجية (Strategic Opportunity Areas SOAs) والتي تتميز بالقيمة العالية والتنوع، أما الخطوة الأخيرة فهي الرجوع بالحالة المستقبلية إلى الحاضر، وفيها يتم تحويل الفرص الاستراتيجية في المهام إلى محفظة ابتكارات، مع مراجعة البيئة الداعمة بشكل شمولي لضمان أن القرارات التي يتم اتخاذها متسقة مع مخطط الاتجاه نحو الحالة المستقبلية المرغوبة، ونظرًا لأن فلسفة التنفيذ تقوم على فكرة محفظة الابتكارات وليست رهانًا استراتيجيًا واحدًا فإن صناعة المستقبل قد يصبح أكثر قابلية للتحقق.

وعبر هذه الآفاق فإن الحاجة ضرورية إلى بناء المرونة أثناء صناعة المستقبل، وإيلاء الأولوية لتأصيل رأس مال الابتكار ضمن المشهد المستقبلي، فبمجرد أن نفهم الدوافع الأكثر تأثيرًا للتغيير في المستقبل، فإنه بالإمكان تسخير أدوات التخطيط الاستراتيجي في وضع نموذج للفرص الأكثر قابلية للتطبيق، وإذا قرأنا قصة تسلا بتمعن نجد أن مؤشرات الريادة والتفوق واعدة ومستمرة في الارتفاع، ويرى المحللون بأن الإمكانات المستقبلية لابتكارات شركة تسلا تفوق التكهنات الحالية بكثير، فجوهر التفكير المستقبلي الذي اتبعته الشركة استهدف تشجيع الإبداع والتعلم وحل المشكلات، وذلك بالتركيز على نتائج وتأثير رأس مال الابتكار بدلًا من الوقوف على القيود والتحديات، فالرهانات الكبيرة التي انبثقت من التفكير المستقبلي جاءت بمثابة خريطة طريق الابتكار، وأسفرت عن استراتيجية تتطلع إلى ما هو أبعد مما يستطيع القادة رؤيته الآن، وأحدثت تحولًا جذريًا في الصناعة، لأنها تمكنت أولًا من تعريف الميزة العابرة التي تسمح بالاستثمار الآمن والمُجزي، ولم تركز على نماذج العمل الموجهة إلى المنتج النهائي وحسب، ولكن التفتت بكل عناية إلى النظام البيئي للمنتج بأكمله، وطبقت نهجًا فعالًا لبناء رأس المال الابتكاري، حتى تمكنت الشركة من الفوز بالثقة والموارد والدعم اللازم لتنفيذ الرؤية الاستراتيجية مما يجعل هذا الجزء من تجربتها فريدًا حقًا، ومصدر إلهام دائم لأي مبتكر أو مؤسسة تبحث عن الاستدامة والريادة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صناعة السیارات من المستقبل

إقرأ أيضاً:

مدن المستقبل.. الإنسان والهوية والاستدامة

بقلم: الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي

لطالما كانت المدن مرآةً لحضارات الأمم، فهي فضاءات حيّة تعكس طموحات الشعوب، وتترجم قدرتها على تحويل الأفكار إلى أنماط عيش ومعايير جودة حياة، واليوم، في عالم تتسارع فيه التحولات البيئية والرقمية والاجتماعية، تتجدد أمامنا أسئلة مصيرية: أي مدن سنورثها للأجيال المقبلة؟ وبأي نموذج سنصوغ مستقبلها؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تجعلنا نسير بخطى أكثر ثباتاً، وتجعل الرؤية أمامنا أكثر وضوحاً، فمعيارنا لقياس مدن الغد ليس أنماط العمران وحجمها، وإنما قدرة المدن نفسها على أن تكون أكثر إنصافاً للإنسان، وأعمق التزاماً بالاستدامة، وأقدر على صون الهوية الأصيلة للمجتمعات وهي تنفتح على كل ثقافات العالم، وتستجيب لاقتصاد المعرفة والتحولات التي تفرضها ذهنية الابتكار.
ما يجعل تصوّر المستقبل ضرورة هو التحديات التي نواجهها اليوم، فهنا يمكن القول: إن المستقبل يحتاج إلى مدن تجعل البيئة جزءاً من بنيتها، حيث تشكّل الطاقة النظيفة وإعادة التدوير والتخطيط البيئي الذكي مكونات أساسية للنمو، فمن خلال هذا الوعي البيئي، تتحول التنمية إلى استثمار طويل الأمد يحمي الموارد الطبيعية ويعزز تنافسية الاقتصادات المحلية.
غير أن المستقبل لا يكتمل من دون الثقافة، فالمدن التي تحتفظ بذاكرتها، وتغذيها بالمعرفة والفنون، تبني لنفسها قيمة مضاعفة، إذ تصبح الثقافة قوة اقتصادية واجتماعية تعزز ثقة المجتمع، وتستقطب الاستثمار والسياحة والإبداع، وعندما يتحول التراث إلى رافعة للتنمية، ويكتسب الحاضر أصالة فريدة، ويجد المستقبل جذوراً يتكئ عليها.
إلى جانب ذلك، لا يمكن فصل مشهد مدن المستقبل عن الابتكار والتقنيات الناشئة، لأننا نعيش متطلبات هذه التقنية اليوم، ونرى كيف أصبح الذكاء الاصطناعي، والتقنيات النظيفة، والتحولات الرقمية، محركات رئيسية لإعادة تشكيل العمران والاقتصاد، لذلك ينبغي التأكيد على أهمية أن تفتح المدن مساحاتها للبحث العلمي، وريادة الأعمال لتمنح نفسها قدرة أكبر على المرونة والاستعداد لمواجهة تحديات الغد، وتستثمر في الفرص.
ومع كل هذه الأبعاد، يبقى الإنسان البوصلة التي تحدد الاتجاه، إذ هل يمكن للتنمية أن تثبت نجاحها بما حققته من نتائج رأس المال واتساع في العمران؟ حتماً الإجابة ليست بنعم، فالتنمية الحقيقية تقاس بمدى قدرتها على تحسين نوعية الحياة، وتوسيع الخيارات أمام الأفراد، وتمكينهم من التعلم والعمل والإبداع.
لقد اخترنا في الشارقة أن نستلهم هذه الرؤية في مشاريعنا التنموية، حيث حرصنا على أن تكون مشاريع هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير (شروق) وسيلة لبناء صلة أوثق بين الماضي والمستقبل، بين الأصالة والطموح، ومن خلال مبادراتنا الاستثمارية، سعينا إلى صياغة نموذج يربط الاقتصاد بالثقافة، والعمران بالبيئة، والاستثمار بالإنسان، ليبقى جوهر التنمية مرتبطاً بما يحقق التوازن والاستدامة.
إن مدن المستقبل لا تُشيَّد بالإسمنت وحده، بل تُبنى بالفكر والرؤية والإرادة، وما نطمح إليه هو أن تكون الشارقة، ومعها مدن منطقتنا، نموذجاً عالمياً يبرهن أن التنمية يمكن أن تحافظ على استدامتها، وأن الاستثمار يمكن أن يبقى إنسانياً، وأن الهوية قادرة على التجدد من دون أن تفقد أصالتها، ففي هذا يكمن التحدي الأكبر، ومن هنا تنبثق الفرصة الأعظم.

رئيسة هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير (شروق)

أخبار ذات صلة «مهرجان أم الإمارات».. تجارب استثنائية في كورنيش أبوظبي متحف زايد الوطني يستضيف ندوة «اكتشاف التاريخ وصون التراث»

مقالات مشابهة

  • العقولُ الناشئة... مورد وطني يصنع المستقبل
  • الإعفاء المتبادل من التأشيرة بين الأردن وروسيا يدخل حيز التنفيذ غدًا
  • تحريك ملف استرداد الأموال قرار شعيتو جريء والعبرة في التنفيذ
  • وزيرا التخطيط والاستثمار يبحثان مع البنك الدولي إعداد الاستراتيجية الوطنية للاستثمار الأجنبي
  • ترزيان: مشروع مداخل جديدة للأشرفية يقترب من التنفيذ
  • وزيرا التخطيط والاستثمار يتابعان إعداد الاستراتيجية الوطنية للاستثمار الأجنبي
  • مدن المستقبل.. الإنسان والهوية والاستدامة
  • رئيس جهاز العلمين الجديدة يتفقد أعمال التنفيذ بالأبراج الشاطئية
  • وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي تستقبل النائب الأول لرئيس البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية لبحث نتائج الزيارة ومستقبل العلاقات الاستراتيجية مع البنك
  • حظر مواقع التواصل الاجتماعي على الأطفال يدخل حيز التنفيذ في أستراليا